يُفرحنا المطر.. يبهجنا بشغف نحن أهل الصحراء التي تجلدها سياط الشمس اللاهبة معظم فصول السنة.. يروي في نفوسنا ظمأ الهجير، ويعيد إلى وجوهنا البسمة المفقودة. نحتفي بكل قطرة مطر تلامس وجه الأرض، نتسابق للقائها، بعضنا يُفقده المطر صوابه، ليدخل في مغامرات غير محسوبة كأن يقتحم مجاري السيول والأودية والشعاب دون أيّ حساب لنتائج مثل هذه المغامرات، وغالبا ما تنتهي هذه الاحتفالية بمصيبة يذهب ضحيتها الأبرياء. ومنذ أواخر الصيف الماضي وتوقعات الفلكيين والمختصين في الأحوال الجوية والأنواء.. تشير إلى موسم ممطر.. بل غزير المطر، وقد جاءت شواهد تلك التوقعات مفجعة أحيانا كما حدث في اليمن والمغرب حيث راح ضحيتها العديد من المواطنين.. فضلا عن تضرر الكثير من الممتلكات. كذلك الحال، وإن بشكل أقل حدث في بعض مناطق المملكة كالقصيم وعسير. ولأننا لا زلنا في مستهل الموسم، ولا زالت توقعات المراصد تتحدث عن موسم غزير المطر بإذن الله.. فإن السؤال الذي يجب أن نفتش له عن إجابة يدور حول استعدادتنا كأجهزة ومرافق ومواطنين لمواجهة مثل هذه الظروف المناخية فيما لو صدقت تلك التوقعات، وهو ما نرجوه دون خسائر إن شاء الله. رد الفعل في مقابل أساليب الوقاية لا شك أن مشاهد محاصرة مياه الأمطار لمواطني حي الإسكان في مدينة بريدة، أو مشهد فرق الدفاع المدني، وهي تخوض في مياه وادي الرمة بحثا عن جثامين بعض الغرقى.. أو المسارعة في نقل بعض سكان قرى القصيم التي داهمتها السيول إلى الشقق المفروشة.. لا يُمكن أن تصنف على أنها أساليب وقائية.. بقدر ما هي ردود فعل لواقع لم يكن مأخوذا في الحسبان. ومن يعمل بردود الأفعال هو لا يحل المشكلة.. وإنما يعمل فقط لتفادي نتائجها.. لذلك تبقى قائمة الخسائر مفتوحة على كل الاحتمالات، فيما تبقى المشكلة الأساسية قائمة بانتظار الحدث التالي. ولسنا هنا لنقلل من دور جهاز الدفاع المدني وما يقوم به من جهود على مختلف الأصعدة، غير أن مواجهة الكوارث الطبيعية.. لا يُمكن أن تكون مسئولية جهاز بعينه مهما كانت إمكانياته وخبراته.. لأن مثل هذه الأمور تستدعي كثيراً من الاستعدادات والاحترازات الوقائية، كما تستدعي ضخ حزمة هائلة من أدوات التثقيف الشخصي والمجتمعي لكافة أفراد المجتمع صغارا وكبارا.. رجالا ونساء.. للتعامل مع مثل هذه الظروف.. إضافة إلى تنفيذ كل الضمانات الوقائية من قبل كافة الجهات المعنية كوزارة المياه، ووزارة البلديات، والدفاع المدني، ووزارة النقل ووزارة التربية، وشركات الكهرباء، والإعلام ووو.... إلخ. خيالات المطر تحت هذا العنوان تساءل الزميل سعد الدوسري في زاويته يوم الاثنين 2008/11/17م.. عما إذا كان من حقنا أن نتخيل أن موظفي (الهيئة الوطنية للأزمات) يتصلون بنا هاتفيا أو يطرقون علينا أبوابنا لكي يخبرونا بأن هنالك أمطارا غزيرة ستهطل الأسبوع القادم، وأن علينا أن نستعد عبر عدد من الإجراءات.. ثم يناقشون معنا هذه الإجراءات، ثم يمضي الزميل الدوسري في تخيلاته ليرى هذه الفرق وهي تتوزع على الطرقات وشوارع المدن والبلدات قبل حلول مواسم المطر لتتأكد من سلامة قنوات تصريف مياه الأمطار.. أو تعزل المناطق السكنية غير المؤهلة لتحمّل غزارة المطر وبالتالي إخلاءها إلى أماكن أكثر أمنا. كان بالإمكان ألا يكون هذا خيالا.. حتى ولو لم توجد هذه الهيئة تحت هذا الاسم الذي اخترعه أو اقترحه الزميل.. كان بالإمكان ذلك لو أن كل جهة قامت بمسئولياتها مثلما يجب ليس بعد حصول الأضرار، وإنما قبل حضور مسبباتها. نحن نشاهد في العديد من المدن الكثير من عبّارات السيول وقد امتلأت بالمخلفات والأتربة، ونرى كذلك كثيراً من أسلاك وتمديدات الكهرباء العارية في بعض الأحياء القديمة والأسواق الشعبية، وبعض البيوت المتهالكة التي تقطنها العمالة غالبا أو بعض الأسر الفقيرة. نرى كابينات الكهرباء الأرضية وهي تقع على مقربة من بعض مجاري السيول دون أن يكون هنالك من الاحترازات ما يؤكد عدم وصول المياه إليها. كذلك الحال بالنسبة لبعض السدود.. التي لم يقف عليها أي مراقب للتأكد من سلامتها وكفاءتها منذ أن رفع منها المقاول أدواته. والأمر ذاته ينسحب على المباني المدرسية المستأجرة للبنين والبنات في بعض القرى، التي نستطيع أن نجزم أنها لا تخضع لأي زيارات دورية تفقدية من قبل المختصين.. إلا في حالتين: عند تجديد العقد أو لا سمح الله في حال ظهور تصدعات جلية تنذر بالخطر. وكمثال: ينقل لنا الأخ بسام سليمان العبيد نذر الخطر في واحد من أهمّ وأقدم أسواق مدينة حائل، وهو سوق برزان.. والذي يكتظ عادة بالمتسوقين، ويعاني من ضيق منافذه، وسوء التمديدات الكهربائية فيه، وتشابكها مع تلك الديكورات الخشبية والبضائع المكدسة.. مما يشكل في مجموعه قنبلة موقوته حسب وصفه فيما لو تعرض لأي تسرب مياه.. خاصة مع صعوبة وصول فرق الإنقاذ إلى أجزائه وتفاصيله الداخلية. هذا السوق الذي نعرضه هنا كمثال فقط لا يقع خارج مدى الرؤية بالنسبة للأجهزة المسئولة عن الأمن والسلامة، والتي كان من المفترض أن تقوم باكرا بإلزام أصحاب تلك الأسواق وملاكها بتوفير أدوات السلامة.. مثلما كان على شركات الكهرباء أن تعالج ما يخص التمديدات للتأكد من سلامتها تحت أقسى الظروف. الأرصاد الجوية والأجهزة والحلقة المفقودة قد لا يكون من المبالغة إن زعمنا أن علاقة كافة الأجهزة والمرافق المعنية بهذ الشأن برئاسة الأرصاد الجوية لا تتجاوز علاقة أي مواطن بالنشرة الجوية التي يأخذها من التليفزيون أو الصحيفة، إذ لم يحدث أن عثرنا أو تعثرنا حتى بتلك الحلقة المفقودة التي يفترض أنها تربط ما بين الأرصاد كجهة رصد وتوقعات، وبين بقية الإدارات كجهات معنية بتوفير كافة الاحتياطات لتفادي حدوث أي مكروه. لم نسمع أن البلدية أي بلدية وبناء على قراءات الأحوال الجوية قد أرسلت فرقها لتفقد بعض مجاري السيول، ولم نسمع أن إدارة الطرق قامت بناء على المعطيات ذاتها بالعمل نفسه فيما يخصها.. أو أن إدارة التربية قد خصصت حصة دراسية لتوعية الطلاب والطالبات بكيفية التعامل مع تلك الظروف بناء على نصيحة الأرصاد الجوية.. حتى الدفاع المدني والأكثر قربا بمسئولياته من هذه الوقائع.. لا يزال هامش التوعية لديه دون المستوى المطلوب.. أو أنه يتم بعيدا عن احتمالات سقوط الأمطار، وفي أجواء جافة.. تدفع الكثيرين غالبا للتندر بتلك الجهود على أنها من قبيل (تجهيز العصابة قبل الفلقة) كما يقول مثلنا الشعبي. ذلك لأن التوعية الحقيقية لها اشتراطاتها الموضوعية التي تجعل منها قابلة للاستيعاب، ولعل أول وأهمّ هذه الاشتراطات ربطها من حيث التوقيت بالمعلومة التي يجب التحرز من نتائجها، ولنا كل العبرة في تلك الجهود التوعوية الطيبة التي بذلها الدفاع المدني إبان حرب الخليج، وكيف تفاعل الناس معها لأن طبول الحرب كانت تقرع بالقرب من آذانهم.. أما أن تتم التوعية بعدم الاقتراب من الأودية والشعاب والناس يتجرعون العطش في فصل الصيف، أو وهم يكابدون تجفيف جباههم من العرق.. أو في موسم لا تكتحل فيه السماء ولو بظل غيمة شاردة.. فإنها حتما ستكون كصرخة في واد.. أو كرسالة سقطت من ساعي البريد فيما مرسلها يتوهم وصولها غايتها. هذه العلاقة بين الأرصاد الجوية وبقية الإدارات وقطاعات التعليم تحديدا.. لا تزال تحتاج إلى إعادة ترميم لتؤتي أكلها. من أين نبدأ ؟ قد نحتاج إلى مثل هذا السؤال لنرسم خريطة طريق تجمع كل هذه الجهود المبعثرة، لتصبها في قالب واحد يقف كله في مواجهة كل احتمالات الخطر.. فليس أسوأ من أن يتحول فرحنا بالغيث والسقيا بعد طول عطش.. إلى حالة ذعر مما أحدثته تلك الأمطار.. نتيجة تشتت الجهود، وعدم تقدير المخاطر قبل وقوعها، والعمل بجد على تفاديها. إن من أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها المدرسة أن تعلمنا كيف نحمي أنفسنا من مخاطر الكوارث الطبيعية، وكيف نحتفل بالمطر ونزول الغيث دون أن تذرف لنا دمعة لفقد عزيز بسببه. لذلك يجب أن تكون البداية - حتى لو لم توجد تلك الهيئة الوطنية التي أرادها زميلنا سعد الدوسري - أن نعرف كيف نستطيع أن نستثمر كل ما هو متوفر لنا من الإمكانات لنسخرها لصالح الوقاية من المخاطر.. لا أن ننفق ضعفها في معالجة العواقب. متى ما تحررنا من تحالفنا مع رد الفعل المجرد.. إلى القيام بالفعل الاحترازي، واستثمار كل هذه الطاقات والإمكانات الهائلة التي وفرتها الدولة.. في مختلف المرافق، وجعلناها تعمل وفق نسق منتظم يتم بعضه بعضا، ومتى ما قامت كل جهة وكل مرفق بما في ذلك أصحاب العقارات الإيوائية ورجال الأعمال بدورهم كما يجب.. فإننا نكون بذلك قد أسسنا لمنظومة متناغمة تعقل وتتكل، وما خاب من كانت هذه هي قاعدته في العمل. نستطيع أن نبدأ حينما ترسل الأمانات والبلديات مهندسيها وفنييها لمعالجة أماكن تجمعات مياه الأمطار.. عوضا عن إرسال عمّال النظافة ليجففوا تلك المياه بمكانسهم !. ونستطيع أن نبدأ حينما لا تكون وسيلة الاتصالات بين مختلف القطاعات والأجهزة المعنية.. هي الخطابات الرسمية، وسجلات قيد الصادر والوارد، نبدأ بالفعل حينما يكون هنالك ربط إلكتروني دقيق وفعّال بين كل الجهات.. سواءً من يُقدم المعلومة أو من يُهيّىء الظروف لاستقبال حدوثها بما تستحق من الاحتياطات. إن وقوع أيّ ضحية أو حدوث أي ضرر في الممتلكات مهما كان مستواه.. إنما هو من مسئوليتنا نحن.. إما لنقص ما في التوعية.. أو لعدم الأخذ بالأسباب، وتوفير احتياطات السلامة. لذلك لا بد من وقفة حازمة لإعادة ترتيب هذه الأمور.. بإعادة النظر في الكثير من الإجراءات ذات الصلة.. بدأ بالانصياع لقانون الطبيعة التي خلقها الله، وعدم الزج بالمخططات السكنية في مجاري السيول، ومعاكسة التيار، ومرورا بتوفير كل أدوات وعناصر التثقيف والتوعية اللازمة، وفي ظروفها الموضوعية ضمانا لإحداث الأثر المطلوب.. وانتهاء بربط كل الجهات المعنية وذات الصلة ببعضها البعض، وتوفير أقصى درجات التناغم والانسجام فيما بينها، لتحقيق الأمن الوقائي بأقصى درجاته. ولا أريد أن أنتهي قبل أن أشير أيضا إلى دور الإعلام بكافة فروعه في مسئوليته عن توعية الناس، وعدم الاكتفاء بنشر أو بث أحوال الطقس ودرجات الحرارة.. دون التنبيه إلى أيّ مخاطر محتملة.. خاصة في الأحوال الجوية المتقلبة، والمرشحة لحدوث فيضانات قد تتجاوز فرحة الناس بالمطر إلى مباغتتهم بما لا يتوقعون.