قبل أيام قليلة.. ودعت ساحة الأدب والثقافة.. الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين -رحمه الله-، بعد أن قضى ردحاً من الزمن وهو في معترك الفكر والثقافة.. كاتباً نشطاً، يتناول بقلمه شتى ضروب الفكر وأهله من الكتّاب والشعراء والأدباء.. لا يترك مناسبة إلا وكان له السبق في الحديث عنها.. وقد عرفته -رحمه الله- في جميع مناسبات النادي الأدبي الثقافي بجدة، وكنت مثله منشغلاً بالثقافة والأدب خلال العقود الأربعة الماضية؛ حيث كنت عضواً مؤسساً لنادي مكة الثقافي الأدبي، ونائباً لرئيسه الأستاذ إبراهيم فودة -رحمه الله-، ثم كنت في جدة نائباً لرئيس النادي الأدبي مع الأستاذ الراحل محمد حسن عواد، ومع الشاعر الراحل حسن قرشي، ثم مع أستاذنا موضع الحديث هنا أبو مدين. إن سجل الثقافة والأدب والكتابة الصحفية ليذكر (أبو مدين) بأحسن الذكرى.. فلقد عُرف بتواضعه وطيب معشره، وبرغبته في بناء أفضل العلاقات مع جميع الكتاب والأدباء والشعراء.. وكانت فترة رئاسته لنادي جدة الأدبي فترة ذهبية، استقطب فيها النادي بعض أفضل المشاهير من المحاضرين والمفكرين من مدينة جدة ومن خارجها، بل ومن خارج المملكة الذين آثروا ساحة الفكر بمشاركاتهم التي لا تنسى. أتذكر مرة دعوته للأستاذ محمد حسين زيدان -رحمه الله- للحديث في النادي، والذي كنت أتعشق سماع حديثه في المجالات كافة، خاصة ما يتعلق منها بالتاريخ، وكان مرتجلاً مبدعاً لكل محاضراته، وكانت العربية مطواعة سهلة وممتعة في لسانه.. فلما علمت بحضوره في النادي للحديث لمرتاديه بادرت بالحضور في ليلة استمتعنا أيما استمتاع بالإصغاء للزيدان وهو يتكلم في مجالات متعددة ببراعة لم يقطعها إلا سرعة إنهائه للحديث ومغادرته لقاعة النادي، الأمر الذي قطع عليَّ متعتي فغادرت بدوري وأنا أقول بصوت مسموع: أفسد علينا الزيدان ليلتنا.. أي أنه لم يمتعنا بمزيد الحديث. ولأن أسوأ الكلام ينقل عن صاحبه بأسوأ التفسيرات.. فقد نقل كلامي مفسراً وبسوء نية للأستاذ الزيدان -رحمه الله-، وكم كانت مفاجأتي عندما رأيته يدلف إلى مكتبي في صباح اليوم التالي وعصاه تقرقع في باب المكتب، وما أن رأيته حتى أسرعت إليه محيياً؛ فقد كان صديقاً يعرف محبتي وإجلالي له.. وما أن سلمت عليه حتى ابتدرني قائلاً: وما كنت تقصد بما قلت ليلة البارحة عندما غادرت النادي؟ قلت: كنت مستمتعاً بحديثك فقطعت عليَّ متعتي بمغادرتك العجلة، فقال: (بس) هذا ما أردت سماعه، أي بالتأكد بنفسي، لا بما يريد الناس.. وهكذا القمم في الرجال لا ترخي آذانها لتسمع اللغو من السنة الحاسدين والنمامين.. وما أكثرهم في الناس.. منذ الأزل وحتى الآن.. وهكذا كان أبو مدين في محيطه وبين محبيه.. قمة في الأدب والموضوعية.. لقد افتقدت بلادنا جيلاً كاملاً من الكتاب والأدباء والشعراء.. قل أن يجود الزمان بمثلهم.. وعياً، وثقافة، وأدباً، وعلماً.. فرحمة الله عليهم.. وعزاؤنا في أجيالنا الجديدة أن ترتفع بينهم قمم أخرى تعوض ما افتقدناه من جيل الرواد.. أمين.. أمين. ** **