رغم أنهم تعبوا من كثرة «أعراس الديموقراطية»، وأوشكوا على التقاعد بعد طول فترة العمل الثوري، وملوا الدساتير وسئموا التغيير وحنوا إلى زمن الملل الجميل، إلا أن أجواء المصريين صباح اليوم ملبدة بزخم استفتائي هائل ومشبعة بزحف دستوري بائن ومهيأة لعرض شعبي رافض ل «الإخوان» الذين تعد قواعدهم العدة لإبطال «العرس الديموقراطي» الأحدث في القائمة. «العرس الديموقراطي» أحد أكثر العبارات مقتاً في تاريخ المصريين الحديث، إذ وصف بها نظام حسني مبارك انتخاباته رغم أن غالبيتها المطلقة كانت أعراساً أوتوقراطية في حلة «هيبوقراطية» حيث نفاق الحاكم والنصب على المحكوم. وظن كثيرون أن تذهب العبارة غير مأسوف عليها مع ذهاب النظام إلى طرة، لكنها، ولسخرية القدر، أطلت عليهم مجدداً من خلال نظام محمد مرسي الذي طالما اعتبرت قواعده وصف «الأعراس» إفكاً ونعت «الديموقراطية» بهتاناً. وصُدِم المصريون ب «أعراس» ديموقراطية متأسلمة تطل عليهم مرة بتصويت «نعم للجنة» ومرة بأن «الصناديق قالت نعم للدين» ومرة بأن التصويت لفلان وعلان نصرة للدين والإسلام ومرة باختيار محمد مرسي رئيساً «حماية لدين الله». وما كادوا يفيقون من صدمتهم حتى أفاقوا على عودة جديدة للأعراس الديموقراطية اليوم وغداً، رغم علمهم المبطن ويقينهم المضمر بأن اصطفافهم اليوم وغداً هو اصطفاف «إنقاذي» بغية تفعيل خرائطي لتصور تخليصي ينتشل مصر من شد «إخواني» نحو القاع وتجاذب دولي هدفه «انصياع لفوضى خلاقة وشرق أوسط جديد». الجديد في هذا «العرس الديموقراطي» هو توقع شتى الأطياف بأن يشهد إقبالاً هائلاً يتسم بروح انتقامية من أفعال «الإخوان» ونية إنقاذية للبلاد من عبث كوادر التنظيم المفعلة عبر امتثال القواعد وطاعة الحرائر، ورغبة حقيقية في إنجاز المشوار الذي بدأ في كانون الثاني (يناير) 2011 وبات عصياً على الاستكمال. استكمال تلطيخ لافتات «نعم» للدستور التي تملأ أرجاء قاهرة المعز ببقعة دهان حمراء كدلالة «إخوانية» على «دستور الدم» وبرهان متأسلم على أنهم مروا من هنا، جرى يوم أمس من قبل «عماد الثورة» وحرائرها المرابطين من أجل عودة الشرعية وتطبيق الشريعة. هذه الأهداف السامية والتحركات الرفيعة لإفساد الاستفتاء تأتي معضدة بأفكار عظيمة وإبداعات بناءة، بعضها يجري تداوله بكثافة عالية على أثير «الربعاوية» عنكبوتياً لتعميم الفائدة واستقاء الوسائل. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما خططه أحد أنصار الشرعية والشريعة: «بعد الاستعاذة بالله واستحضار النية، من الآن إلى الليلة التي تسبق الاستفتاء يجب أن تكون أياماً طويلة على الانقلابيين، يتم حرق أكبر كمية ممكنة من سيارات الشرطة (حرق وليس تكسيراً) ولو لم تجد ما تحرق به السيارة ادخل مكان السائق واكسر الفتيس (صندوق التروس) وعجلة القيادة وافتح السيارة واكسر ماكينتها من الداخل. سواء تعدت عليك سيارة الشرطة أو لا احرقها». وتمضي الخطة محبوكة مدروسة «الليلة التي تسبق الاستفتاء يتم فيها حرق اكبر عدد ممكن من أقسام ونقاط الشرطة في القرى لأن الحراسة تكون أقل (اضرب المربوط يترعب السايب). ويوم الاستفتاء كل تظاهرة يكون في أولها 50 واحد معهم مولوتوف و50 واحد معهم نبل فيها بلي كفيلة برد هجوم كلاب الداخلية والبلطجية. وكلما زادت اعتداءات الجيش في المناطق التي يتركز فيها، سنقوم نحن بالاعتداء على أقرب نقطة شرطة». وتأتي مرحلة الشحذ المعنوي حيث «ستغلب الدبابة لو حرقت أقساماً وسيارات شرطة كثيرة. ستغلب الدبابة لو تم استبدال تجميع أعداد كبيرة من المتظاهرين بأعداد كبيرة من مجموعات العمل»، مع تذييل خطة إشعال مصر وحرق الشرطة وتفتيت الجيش لإجهاض الاستفتاء بكثير من التضرع لله سبحانه وتعالى بالتوفيق والدعاء على الشعب الانقلابي بالموت والخراب والدمار، أملاً باستعادة شرعية صندوق «الإخوان». «الصندوقراطية» التي ابتدعها «الإخوان» وحلفاؤهم حيث لا صوت يعلو على صندوق اختيار مرسي ومكتب الإرشاد بفضل صندوق الشاي والزيت والسكر ومعه مقايضة صندوق الدنيا بالآخرة، افتضح أمرها وانكشف وجهها ويجري اليوم وغداً وضع اللمسات الأخيرة على مراسم دفنها. هذه اللمسات أغلبها محمود ومأمون حيث جموع الشعب المتفاوتة الطبقات تجمع على التصويت ب «نعم» إما قناعة بدستور «متوازن كتبته لجنة متنورة بهدف دفع البلاد والعباد خارج عنق الزجاجة»، أو التصويت ب «نعم» بغض النظر عن المكتوب ودون الالتفات إلى المنصوص لأن الملل والكلل والغضب بلغ مداه، أو التصويت ب «نعم» لأن كل ما يأتي رغم أنف «الإخوان» فهو حتماً خير وأمان. لكن هناك من اللمسات ما هو مذموم ومكروه، حيث الشحذ العلني ل «نعم»، والتوجيه المعنوي ل «نعم»، والدفع الإعلامي ل «نعم». ورغم أن «نعم» المتوقعة اليوم وغداً لا ترغب في جنة ولا ترهّب بنار، إلا أن جنة ال «نعم» وإن كانت نسبية ونار ال «لا» وإن كانت دنيوية واضحة وضوح الشمس، وهو الوضوح الذي لم يكن يحتاج إلى بعث لنعوت «العرس الديموقراطي» أو إحياء لنسب ال «99.9 في المئة» أو إمساك بتلابيب «أعظم دستور في التاريخ». المصريون في شوارع مصر اليوم، بين مصطفين في طوابير الاستفتاء من أجل الاستقرار، وحارقين سيارات الشرطة ومفتتين للجيش ومتربصين بالناخبين، مشبعون بنظرية التكرار الذي يعلم الشطار. الأول ارتبط الدستور الذي يستفتي عليه بكلمة «نعم» وهو ما يعني احتمال تبلور حلم ترشح وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي لمنصب رئيس الجمهورية، والثاني ارتبط الدستور الذي يحاول إجهاضه بعبارة «مرسي راجع إن شاء الله» لأن من أتى بالصندوق لا يذهب إلا بالصندوق أو في صندوق. إنها المواجهة بين «السيسوقراطية» حيث بلورة لحلم ترشح السيسي و «الصندوقراطية» حيث تفعيل لكابوس عودة مرسي.