إثر زيارة وصفت نتائحها بأنها ايجابية قام بها الاسبوع الماضي وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو الى بغداد لتحسين العلاقات بعد توترها، تمهيداً لزيارة رسمية مرتقبة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بدأنا نشهد مسلسلاً من التعليقات والتحليلات مفادها أن هذا الحراك ربما يستهدف العلاقات المتنامية بين أنقرة وإقليم كردستان الذي أخذ يستقوي بتركيا طامحاً الى المزيد من الحرية في اتخاذ القرار وفقاً لمصالحه الذاتية، إمعاناً في اضعاف سلطات المركز الاتحادي في بغداد. وكان طبيعياً ان يثير التقارب التركي–العراقي مخاوف كردية ايضاً. في موازاة هذا التطور يزور رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني بدعوة من رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ديار بكر (آمد بحسب اسمها الكردي)، أكبر المدن الكردية في تركيا لحضور حفلة زواج جماعي يغني فيها اثنان من أشهر الفنانين الكرد، ابراهيم تاتليس وشفان برور العائد الى بلاده للمرة الاولى بعدما أُجبر على الفرار منها قبل 37 عاماً. يشار الى ان بارزاني يزور هذه المدينة الكردية للمرة الاولى منذ مطلع التسعينات، عندما تمردت كردستان العراق على سلطة بغداد إثر حرب تحرير الكويت التي أسفرت، بين أمور أخرى، عن إقامة الملاذ الآمن المحمي من قوات التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة، وكان الزعماء الكرد ينتقلون الى الخارج ويعودون منه عبر تركيا مسافرين براً من دياربكر واليها، علماً ان التنقل ذاك كان كلياً تحت سيطرة أنقرة، تمنعه أو تسمح به لحظة تشاء. كيف تحول الكرد من «ورقة» الى لاعب في المنطقة؟ قبل التسعينات كان الكرد في الأجزاء الأربعة من وطنهم كردستان سبباً رئيسياً في تفاهمات أمنية بين العراق وايران وتركيا وسورية، التي غالباً ما تخلت عن خصوماتها وعداواتها المتبادلة لمواجهة العدو الكردي المشترك. بدأ ذلك يشهد تغيراً ما نتيجة لنشوء كيان قومي في الجزء العراقي من كردستان كنتيجة غير متوقعة لحرب تحرير الكويت وتداعياتها. وإذ اصبح عراق صدّام منبوذاً دولياً ظلت الدول الثلاث الأخرى، لفترة ما، تسعى الى الاستمرار في تفاهماتها الامنية لاحتواء تطلعات الكيان الكردي الناشئ ودرء اي خطر محتمل لتمدده عبر حدوده العراقية. لكنها ترتيبات لم تصمد طويلاً، لأن الدول الثلاث لم تعد منفردة في تقرير مصير الكرد نظراً الى دخول اللاعب الأميركي طرفاً قوياً في الوضع الجديد كضامن لأمن كرد العراق ومراقب من أراضيهم لتحركات نظام بغداد المُحاصر. في 1993 أصبحت تانسو تشيلر أول امرأة ترأس الوزراء في تاريخ الجمهورية التركية. إثر وفاة الرئيس السابق تورغوت أوزال في ذلك العام خلفه زعيم حزب الطريق القويم سليمان ديميريل، الذي كان أعد تشيلر لتحل محله. وهكذا تسلمت زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الوزراء لأن حزبها كان يملك الغالبية البرلمانية. وقتها كانت المؤسسة العسكرية الآمر الناهي في البلاد وكانت تشيلر لا تقوى على الخروج عن طاعته. ولأن العلاقة الودية التي بدأها أوزال في 1991 بين أنقرة والقيادة الكردية في العراق، أصبحت بعد وفاته ودّاً مفقوداً بمشيئة العسكر، انحازت تشيلر بطبيعة الحال الى موقفهم حتى نُقل عنها أنها تعهدت، حين دخلت بناية الحكومة رئيسةً للوزراء، ان أياً من الزعيمين القبليّين الكرديين (قصدت جلال طالباني ومسعود بارزاني) لن تطأ قدماه البناية طالما ظلت هي ربّ البيت. كانت الانتخابات البرلمانية التي أوصلت نتائجها حزب تشيلر الى رئاسة الحكومة فرضت عليه تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الاشتراكي الذي كان مؤتمره قد قرر لتوّه قبول استقالة زعيمه اردال إينونو وانتخاب حكمت تشيتين، وهو كردي من ديار بكر، خلفاً له، ليصبح بالتالي، بحكم اتفاق الائتلاف الحاكم، نائباً لرئيسة الوزراء ووزيراً للخارجية. لكن تفاهمات واعتبارات أمنية، قومية وطنية وأخرى اقليمية ودولية، قضت بأن مصالح تركياوالولاياتالمتحدة، الشريكتين في حماية المنطقة الآمنة في شمال خط العرض 36 في العراق، اي المناطق الخاضعة لسيطرة القيادة الكردية، تحتم على أنقرة ادامة العلاقة مع هذه القيادة مع إبقائها في الحدود الدنيا. هكذا تم الاتفاق بين المؤسسة العسكرية والحكومة التركية على ان يتسلم تشيتين ملف العلاقات التركية–الكردية. ولم يمر وقت طويل حتى استقبلت زعماء «القبائل» الكردية رسمياً في البناية اياها. التطورات اللاحقة اثبتت ان البذور التي زرعها أوزال لتنمية العلاقات التركية–الكردية، والتحرك في اتجاه الانفتاح على كرد تركيا نفسها، كانت أقوى من أن تستطيع المؤسسة العسكرية اقتلاعها مجدداً. أما الكيان الكردي الناشئ فأثبت، هو الآخر، انه كان قادراً على الصمود على رغم تفاقم الخصومات الكردية–الكردية والتي تفجرت اقتتالاً بين «الأخوة» في منتصف التسعينات. في غضون ذلك كان الوضع الكردي في تركيا يفرض نفسه عاملاً رئيسياً على السياسة الداخلية طيلة التسعينات وصولاً الى العام 2000 وتغير الخريطة السياسية جذرياً بانتقال السلطة المدنية الى يد الحزب الاسلامي وبداية انحسار دور العسكر والفكر الأتاتوركي الذي قامت على اسسه الجمهورية التركية في العشرينات. التطورات والاحداث اللاحقة منذ ذلك الحين تاريخ معروف ما زالت فصوله تتوالى، اعتباراً من غزو العراق واكتساب الكيان الكردي وضعاً دستورياً ارتقى في ظله الى اقليم فيديرالي في عراق ما بعد صدام الذي تحول دولة اتحادية، وصولاً الى ما سمي ب «الربيع العربي» الذي أطاح أنظمة ديكتاتورية وكاد ان يشمل سورية التي ما زالت مأساة شعبها مستمرة، ومن تداعياتها غير المتوقعة بروز الكرد فيها قوة رئيسية أعلنت قبل ايام تشكيل ادارة ذاتية في مناطقها الموصوفة بكردستان الغربية، لتصبح قوة ثالثة الى جانب القوتين الكرديتين الفاعلتين في العراقوتركيا. في ضوء ما سلف يجوز القول ان واقعاً جديداً يظهر في المنطقة مفاده ان القوى الاقليمية يتعين عليها ان تتعامل مع الكرد لا كورقة، بل كلاعب، الأمر الذي يغير قواعد اللعبة. وهذا وضع جديد تواجهه هذه الدول ويواجهه الكرد ايضاً. بعبارة أخرى ستجد دول المنطقة نفسها امام امتحانات صعبة، لكن هذا التطور سيضع الكرد أمام الامتحان الأصعب.