سنوات تمضي من دون حراك، لا أثر لأيّ فعل أو حتى ردّ فعل. نوم فتقاعس فموت، هو كلّ ما تضيفه سنة إلى أخرى. كسل وخمول واستسلام ورضوخ للواقع. حروب ودمار، شعوب مسلوبة الإرادة، فاقدة للوعي. إنها الانطباعات التي يخرج بها قارئ «فردوس نائم» للشاعر والكاتب العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف (دار جداول - بيروت). لم تكن نظرة الكاتب إلى المدن أو الناس أو الأشياء نظرة عاديّة واقعيّة. بل كان يتطلّع بإحساسه، وبحزن عميق الى ركود هذا المجتمع، وفقدانه الكثير من مقوّمات التطوّر والتقدّم، بسبب «نوم» أهل المدن الذي بات أشبه بالموت. مشاعر الألم والتحسّر تبدو جليّة واضحة، إذ إنّ التغيير مستطاع وكذلك النهوض من هذه الكبوة أوالغفوة التي استقرّت زمناً، ولا تزال معظم المجتمعات العربية نائمة، ولا نذير بصحوة قريبة، ما دامت لم تتجرّأ بعد على رفع شعار «زعيم ميت أفضل من شعب مذلول بسبب زعيمه». بين « الأم « التي تحيا فينا أبداً، و»المكان» الذي يُمحى ويبقى منه إيقاع مبهَم، وما يشبه القصص الغراميّة التي عاشها الكاتب، ومراقبة حركة السوق والمتسوقين... تقبع سيرة الكاتب فاروق يوسف «فردوس نائم»، وهي بالتالي لا تبتعد كثيراً عن أجواء الحزن والألم والموت الذي تعيشه مختلف العواصم العربية. العراق يحضر، ببغداده ومدنه وبحره ومقاهيه وشوارعه التي مرّ بها الكاتب، ليعيش ذكريات لم تغادره بعد، ولا يمكنه الشفاء منها بسهولة. هذه الصور والملامح كلّها نفذت إلى أعماق قلبه وصارت جزءاً منه، فأنتجته مواطناً ثمِلاً بماضٍ، ليس بمقدوره أن يتقبّل تحوّله إلى حاضرٍ مغاير لتلك الصورة التي في ذهنه، برغم كل محاولاته أن يعبر منه إلى اليقظة. فيطلق العنان لنفسه، ويتذكّر صوراً كثيرة، علقت بباله، وحملت معها أشخاصاً وأحداثاً وأمكنة. المدن غير المدن، والناس غير الناس. الأشخاص تحوّلوا إلى انعزاليين، ولا يفكّرون بشيء بقدر ما يفكّرون بعزلتهم: يبنون بيوتهم مع مراعاة ألاّ يتقابل بابان من الجانبَين على الإطلاق، تفتح الباب فترى حائطاً أمامك! عناصر كثيرة جعلت جوّ السيرة، صياغة وصوراً وأساليب، يتّسم بالحزن والسوداويّة: المدن حزينة ترتدي الموت ثوباً، فتتّشح بالسواد، وبمناظر الجثث، وملامح الدمار هنا وهناك. وليس أصعب من أن يطاول الدمار قلبَ الإنسان وحضارته، التي تجسّد ماضيه وحاضره، فيروح يبحث عن مكانه الأول من غير أن يجده، فيتوه في شوارعه الجديدة، ويظلّ يتأمّل طويلاً وجوه ساكنيه الغريبة. ما هذا المكان؟ أصبح رمزاً لفترة جميلة، تسكن في البال، بطرقاته وأحيائه وبيوته القديمة. صحيح أنّه كان في ما مضى، يضيع في مكانه الأول «محلّة الصنم»، ولكنه كان يضيع بيُسر. لم تكن ثمّة ضرورة في التعرّف إلى جغرافيّة المكان كما الآن، فيكاد يصرخ : «تلك المدينة ليست مدينتي! أعيدوا لي ذاتي». محطات هكذا تحوّلت كلّ الأماكن، بعد المكان الأوّل، إلى ما يشبه الفنادق، باعتبارها محطات تنتقل بالإنسان من مرحلة إلى أخرى، ومن حالٍ إلى حال. مدن كثيرة زارها فاروق يوسف وسكنها، لكنّها بالرغم من ذلك ظلّت تفتقر إلى هيبة بلدته «محلّة الصنم» وجمالها. وإن كانت كل المدن تتشابه لجهة غرقها في النوم الذي يشبه الموت: «هذه المدن الراقدة منذ زمن، بانتظار الموت، بانتظار الجنة الموعودة. ألَم يسأم الناس من الانتظار؟ !». وليس ذلك بغريب لما نشهده من عشق الناس للأسطورة. فهُم يصدّقونها، ويقضون العمر بانتظار أن تحدث في أيّامهم، ويعلّلون النفس بالآمال، من جيل إلى جيل. فيفرّطون في الحاضر، وهم يتطلّعون «راكدين» نحو المستقبل. فتتحوّل مدنهم حزينة، مخيفة، جامدة. فهل هي نائمة أم ميتة؟ ما سبب هذا النوم العميق والاسترخاء؟». ويشعر القارئ، في هذا الفصل من السيرة، أنّ الكاتب يعاني ألماً وأرَقاً، فلا يعود يميّز بين النوم الطويل والموت. وهل ثمّة من فرق بينهما؟ شعب يضيّع فردوسه بانتظار فردوس آخر، قد يأتي وقد لا يأتي! متى يصحو الفردوس؟ متى تصحو هذه المدن لتخلع حزنها؟ هذه الشعوب الخلاقة التي تمتلك قدرة مذهلة على الإنصات إلى صوت المعجزة، إلى اللامرئي، فيتحوّل التاريخ إلى مجموعة متاهات، وذهبت شعوب بكاملها إلى التيه. بغداد مدينة «تعشق الموت»، و «جعفر» نائم. ويرتبط النوم بالموت هنا: «لا وقت للموتى، الوقت كلّه للموت». الجنازات القادمة من مختلف أنحاء البلاد ومشاهد كثيرة أخرى ظلّت عالقة في الخيال، ومن بعدها يأتي النوم، الذي قد يأخذ شكل الموت. إلاّ الأم التي تظلّ موجودة في مكان ما من الأرض، ففي حالتها فقط يكون الموت نوعاً من الرياء. ولذلك يحاول الكاتب ربما استرجاع صورة أمّه، في وجه امرأة تصغره بعشرين عاماً. لماذا كل هذا الحزن؟ ومن أين جاء الكاتب بكل هذا السواد؟ وكيف امتلأت الساحات بالجنازات؟ ألم يحن بعد وقت الصحوة؟ الصحوة من ماذا؟ من النوم أم من الغفلة؟ لماذا هذا الاستسلام؟ وإن كان ليس من الصعب العثور على الأدلّة الخفيّة، وإنّ ظلّت هذه الأسئلة مفتوحة على احتمالات عدّة. «فردوس نائم» ليست مجرّد سيرة، فهي لا تؤرّخ لوقائع تاريخيّة كما يحدث عادة، وإنما هي مشاهد متقطّعة من حياة فاروق يوسف، أقرب إلى حزن عميق يسيطر على الكاتب ويحاول أن يعبّر عنه. هذه الأوجاع التي آلَمت الكاتب، جعلته يكتبها سيرة، يعبّر فيها عن مدى حزنه العميق، علّ الصوت يصل، على أمل أن تستفيق هذه المدن من نومها الذي يشبه الموت. مناسبات كثيرة ومواقف متعدّدة مرّت في حياة الكاتب، فشكّلت مراحل متقطّعة. بعضها أثّر في ذاته، لطرافة الموقف، وبعضها الآخر فجّر شعوراً دفيناً بالحب والحنين، وآخَر مرتبط بحضارة غريبة لبلدٍ زاره للمرّة الأولى. مشاهد متقطّعة من أزمنة مختلفة، لم تعتمد الزمن كخيط كرونولوجي يقتضي ترتيباً زمنياً، وأمكنة مختلفة، في العراق وفي إفريقيا... فقَدَ بغداد، ويفتقدها في سيرته. وكأنّه خرج من وليمة جائعاً. كبُرَت المسافة بين الكاتب والمدُن، مسافة لا يمكن قياسها بالبعد أو القرب، ذلك لأنها تقيم في اللامرئي. وأصبح يعيش بين عالمين: عالم مغلق على ذاته، وعالم بفضاء مفتوح.