تنفتح رواية الكاتب العراقي سنان انطون «وحدها شجرة الرمان» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) بسردية حكائية بسيطة تفاجئك احياناً بانعطافاتها إلى صور حلمية فنتازية، متقطّعة بحسب خطوات السيناريو السينمائي، على مشهديات الموت الذي يلتهم قلب بغداد المحتلة، والذي يظل ماثلاً امام ناظري جواد الذي يمتهن غسل الأموات وتكفينهم، بعد ان تعلّم أصول المهنة ومبادئها وأسرارها على يدي ابيه. وهي مهنة توارثتها العائلة منذ زمن بعيد. غسل الموتى هذا كان يجري قبل الاحتلال الأميركي للعراق على رسله وطبيعته المعتادة. وبوطأة الحرب الضروس، والاقتتال بين ابناء البلد الواحد جماعات وأفراداً، ازدادت وتيرة القتل ازدياداً ملحوظاً، واتخذ شكل الموت ضروباً مروعة من التمثيل بالجثث والتنكيل بها، طعناً وخنقاً وحرقاً وبقراً وتقطيعاً. وقد وصل الأمر بجواد انه تبلبل واحتار بكيفية غسل رأس مقطوع بلا جثة، وجسد قُطّع بمنشار كهربائي غسلاً طقوسياً يفترضه الشرع الإسلامي قبل الدفن. قدّمت بغداد الرازحة تحت ثقل الاحتلال والاقتتال الأهلي موضوعاً خصباً، عن صور الموت العبثي والمجاني. وقد قاربه روائيون وشعراء عراقيون، عاشوا هذه المناخات السوداوية القاسية التي تهيمن عليها لغة الحرب وأشباحها، ومن بينهم سنان انطون نفسه الذي أرّخ من قبل، في روايته «إعجام» لفترة حكم صدام حسين. أما في روايته الجديدة، فإنه يدوّن ما يشبه سيرة الشاب العراقي في كنف الاحتلال الأميركي، وما يساوره من مشاعر الخيبة والإحباط، وهو يرى الأمكنة الأليفة، وقد اضمحلت او زالت من الوجود، او تصدّعت وخربت. رصد القاص الأحداث اليومية في العراق، لا سيما العاصمة بغداد، وهي تنوء تحت القصف والتفخيخ والتذابح والخطف، تاركة بين يدي والد جواد، ثم جواد جثثاً وأشلاء تتضاعف يوماً بعد يوم، وجثثاً اخرى مجهولة رُميت على الطرقات والأزقة والدهاليز والمزابل، أو على ضفاف الأنهار والشواطئ، او تُركت على رمال الصحراء. واستولت على الفضاء البغدادي صور سوريالية كئيبة ومفجعة: بقع من الدماء، احذية ونعال مبعثرة، أنقاض، ودخان ونار، ووجوه مصدومة ومرتاعة، وكل السيمياء والرموز الدالة على الفناء والتلاشي والانحلال والانهيار. ولا ريب في ان بغداد التي ازدهرت فيها تجارة الموت، والتي كانت تدفع الى مغسل جواد بمزيد من الجثث، كانت تعاني صعوبات العيش، وانقطاع السبل ومخاطر التجول، وانفلات المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية، وفقدان الأمان والطمأنينة. الشاهد المذهول بغداد الجريحة النازفة شكّلت إطار المادة الحكائية، وبؤرة التفاعل بين البطل جواد، ومحيطه الذي يئن بعذاباته المتفاقمة، والمكان الذي وقف فيه شاهداً مذهولاً، مما اعترى المدينة من تبدّلات وتحوّلات في العلاقات الإنسانية. وقد جعله هذا الفضاء المفتوح على عالم اللاجدوى، يتساءل عن اسباب نبذ الآخر وإقصائه واستئصاله، إذا ما كان مختلفاً عنا ديناً أو مذهباً أو عقيدة، وعن دوافع العنف والقتل والانتحار. يحتل جواد في الرواية موقعاً رئيساً، فهو عين الراوي، وصوته الناقل لنا وجهة نظره الذاتية، المعبّرة عن معاناته وحُرقته. وهو المرجع الوحيد الذي يروي لنا ما يرصده، أو يتخيّله، أو يفكر به، أو يتوهمه، أو يحلم به. بيد ان بطل سنان يتميّز بمقاربته قضية الموت، بما هو أبعد وأعمق من عمله كغاسل للجثث، العمل الذي اضطرته اليه الحاجة المادية بعد موت والده. بينما هو احد خريجي كلية الفنون، وعاشق للوحات التشكيلية والأنصاب والتماثيل. ونظرته ناجمة عن علاقة الموت بالفنون، كما جسّدتها اساطير بلاد ما بين النهرين وفنونها. وجسّدها من المعاصرين النحات السويسري جياكوميتي في شخوصه التي تُشبه مومياءات نُبشت من القبور، حاملة أبعاداً وجودية تعبّر بحزنها ووحدانيتها وعريها ونحافتها، عن هزالة الواقع الإنساني وضحالته التي تُقارب العدم والموت. لم تعد الجثث التي يغسلها جواد، بحسب أحكام الفقه الشيعي لقاء بدل مالي، هي الوحيدة المؤشرة الى الموت. بل ان هذا العالم الذي يتفتت من حوله، او تضيع آثاره، او يهاجر ناسه أو يمرضون او يضيعون او يختفون، هذا العالم هو الذي يجرفه الموت الى هوّته السحيقة بلا رجعة. هو هذا التاريخ الشخصي الذي يلتهمه نهر التاريخ العام الكبير، تاركاً خلفه الزفرات والأسى والحسرة. هو ما ينطمس من بصمات الأهل، وذكريات الأحباء العابرين وأنفاسهم: مثل شقيقه أموري الطبيب الذي دفع ضريبة معارك الحكام الدونكيشوطية، وزميله المعاون حمودي الذي لم يعد من التسوّق، وريم الحبيبة المريضة التي تقضّ مضجعه، حينما تتسلل من رحلتها الغامضة الى احلامه وكوابيسه. ليست غرائبية الرواية متأتية من هذه الطفرة من الموت المتشعّب والمتكاثر كالفطر في كل ناحية وبقعة، على فظاعته وهوله، بل متأتية من هذه العبثية الصارمة والقاسية التي تخطّ على الجثث توقيعاتها. وكأنما الموت ما عاد يسلك طريقه المعتاد والمألوف. إنما بات بطريقة وقوعه على الأجساد شكلاً من أشكال اللعب العنيف، الذي كشفت مكامنَه وترسّباته داخل بنية المجتمع العراقي، تداعياتُ الاحتلال الأميركي، وأظهرت ما كان مكبوتاً ومستوراً، من ضغائن وأحقاد وجدت لها اليوم منفذاً، في عمليات التصفيات الدموية المتبادلة، والاستئصال العرقي والديني. وبلغت الاستهانة بالموت ان اضحى وسيلة إثراء سريع، حيث فُككت اعضاء الجسد كآلة ميكانيكية، وبيعت كقطع غيار على يد العصابات. حياة يومية الحياة اليومية المعيشة في مدينة بغداد، تتجلى في رواية سنان أنطون، عبر موشور عائلة شيعية تقليدية، يعمل معيلها في عمل غير مألوف، هو غسل الموتى في مغسله الخاص، حيث تفوح منه عطور الكافور والسدر التي تُطيّب رائحة الجثث الباردة، وتُطهّر بماء يروي في قناة متصلة بالخارج جذوع شجرة الرمان ذات الرمزية في الرواية، إذ تثمر هذه الشجرة من ماء الموت، وكأنما تمثّل حلقة التغذي المتبادل بين طرفي الوجود والعدم. وهذا التعايش بين الموت والحياة كان جواد الفتى، قبل أن يستلم العمل بمفرده، يتلمّسه في حياة أبيه اليومية في المنزل، ويُدهَش من قدرة الأب على استعادة إيقاع حياته الطبيعية بسهولة، عقب كل مرة يغسل فيها ميتاً، وكأنّ شيئاً لم يكن «كأنه ينتقل من غرفة إلى أخرى ويترك الموت وراءه، وكأنّ الموت خرج مع التابوت وذهب إلى المقبرة، وعادت الحياة إلى المكان». (ص 37) وهذه المؤالفة بين النقيضين تذكّر بالحانوتي في رواية «السقا مات» ليوسف السباعي، التي حوّلها صلاح أبو سيف إلى شريط سينمائي مرهف، حيث تتساكن في نفس الحانوتي شهوة الحياة، ورائحة الموت، على حد سواء. كذلك فإنّ الصبيتين ريم وغيداء شكّلتا في حياة الابن جواد فسحة لاقتناص الحب، في ظل عبثية الأحداث المأسوية، وأطياف الموتى، ومطاردة الكوابيس المؤرقة. وعليه بات جسد المرأة في حياة جواد الواحة، أو الجزيرة الوحيدة التي تحميه من عُباب الموت المتلاطم حوله. ولحظة خصوبة روحية يانعة، في الأرض اليباب التي يعيش عليها. عمل سنان أنطون الذي يمتلك مخزوناً ثقافياً، على مرجعية فقهية دقيقة، أتاحت له ان يتماهى مع أجواء الشيعة العراقيين ومراسمهم وطقوسهم وفروضهم الدينية، وأحكام الغسل والتكفين والجنازة عندهم، فصوّرها بدقة، ونقل فضاءاتها الوجدانية، لا بعين الغريب المنحاز إلى ثقافته أو ديانته المختلفة، بل بعين العراقي الملتحم بحياة أبناء بلده ومواطنيه، وبروحية المتفهّم المتعاطف، على رغم علمانيته التي يلمّح إليها أحياناً، ويبوح بها جهرة معظم الأحيان. وهذا ما جعل بطله جواد يعيش توهّجاً إنسانياً وجمالياً، عبّر عنه شغفاً بالرسم والنحت. وتذوّقاً لأصوات المنشدين الدينيين الذين انتشرت شرائطهم في الأسواق، لا سيما صوت المنشد (الرادود) باسم الكربلائي الشجي. وتجرّد جواد من المشاعر الطائفية والحزبية، حمله على مراعاة التوازن في نقده الغلو المذهبي عند كل الأطراف والمذاهب. ومع هذه التحولات العميقة والمؤلمة التي طرأت على المجتمع العراقي، عقب الاحتلال، على الصعيد السياسي، وعلى الصعيد الاجتماعي والفكري والجمالي، تفاقمت الأعباء النفسية على بطل الرواية فعاش في غربة نفسية، وحاول أن يجد ملاذاً له، خارج العراق، فلم يفلح. وأُعيد إلى بغداد من الحدود، يعايش الجثث، ويبتلع ماء الموت، كما هي حال زهرة الرمان التي لا تزال ترتوي تربتها بالماء نفسه.