-1- منذ نعومة أظافري وأنا متشرد بلا بيت آوي إليه، والإجازات المدرسية أقضيها مع أقاربي متجولاً من منزل إلى آخر، لكن أغلب تلك الإجازات كانت في منزلين لاثنين من أقاربي الحميمين جدا، هذان المنزلان يقعان شمال وجنوب نهر (يودو) أحدهما في مدينة بإقليم (كاواتشي) والآخر في قرية جبلية باقليم (ستسو) كنت أتنقل بينهما بقارب صغير، لم يحدث أن حللت بهما ضيفا ثقيلا، بل على العكس فقد كنت أشعر دائما أنني في منزلي وبين أهلي. أنا الآن في الثانية والعشرين من عمري، في عطلة الصيف حضرت ثلاث جنائز في أقل من شهر، وفي كل مرة أرتدي معطف أبي الحريري الذي أورثه لي، وتنوراته الطويلة وجواربه البيضاء وأحمل في يدي مسبحة بوذية. الجنازة الأولى كانت في فرع من إحدى أسر (كاواتشي) حيث توفيت أم شيخ العائلة التي أوهنها كبر السن، يقولون: إن لها أحفاداً في ثلاثينياتهم، وأنها تقلبت على فراش المرض لمدة طويلة. لك أن تقول أنها ذهبت إلى حتفها غير مأسوف عليها، عندما حدقت في هيئة الشيخ الكئيبة وعيون الحفيدة الحمراء بدا لي مقدار ما يشعرون به من حزن عميق، ولكن قلبي لم يحزن على هذه المرأة، لم يخالطني شعور بموتها ورغما عن اشعالي للبخور قبل المذبح إلا أني لم أتعرف على وجه المرأة التي ترقد في التابوت، لقد غاب عن ذهني أصلا وجود أحد فيه. قبل أن يخرجوا بالنعش ذهبت وأديت واجب العزاء في ثيابي التي أعددتها لمناسبة كهذه والمسبحة والمروحة في يدي بالطبع يرافقني ابن عمي القادم من (ستسو) والذي يكبرني سناً، ظهر ما قمت به مقارنة بتصرف ابن عمي لائقا ومناسبا أكثر لمناسبة جنائزية كالتي نحضرها، كل هذا وأنا الأصغر سنا، شعرت بارتياح وأنا أؤدي واجبي على أكمل وجه، أما ابن عمي الذي أدهشته تصرفاتي فقد سلك طريقي وقلدني، في البيت الكبير تجمع خمسة أو ستة من أبناء العمومة غير مكترثين برسم الحزن على ملامحهم. وبعد أسبوع تقريبا كنت في (كاواتشي) عندما تلقيت مكالمة هاتفية من ابن عمي الأكبر في (ستسو) هناك جنازة في بيت من بيوت العائلة التي تزوجت فيها أخته الكبرى، قال لي: «وأنت أيضا لابد أن تذهب» وعلى ما يبدو فإن أحد أفراد تلك العائلة قد حضر جنازة لعائلتي في السابق. اصطحبت ابن عمي كرفيق سفر، ركبنا القطار وعندما وصلنا إلى منزلهم معزين لم أتمكن من معرفة أيهم ينتمي إلى العائلة ما عدا النادب الرئيس، ولا حتى عرفت من هو الذي مات؟ منزل ابنة عمي كان مكان راحة للحاضرين، ولكن عائلة زوجها كانوا في غرفة منفصلة، أما الغرفة التي كنت فيها فلم يتحدث أحد عن الميت، كل ما فعلوه هو قلقهم من تزايد شدة الحرارة وسؤالهم عن وقت مواراة الميت، من فترة لأخرى يرتفع سؤال: «من الذي مات ومن عمره؟» وفي هذه الأثناء تجولت في الممرات بانتظار وصول الجنازة. في وقت متأخر من ذلك الشهر طلب مني ابن عمي أن أذهب بدلا عنه إلى جنازة لأحد أقرباء زوج أخته الكبرى دون علم بالعائلة التي تتولى مراسيم العزاء ولا اسم القرية ولا مكان المقبرة، ونحن نتجاذب أطراف الحديث قال مازحا: «لم أطلب منك الذهاب الا لأنك سيد للجنائز». عقدت الدهشة لساني، ولأنا كنا على الهاتف فإنه لم ير تعابير وجهي، وافقت على الذهاب للجنازة الثالثة، في منزل (كاواتشي) حيث تلقيت المكالمة ابتسمت زوجة ابن عمي بامتعاض: «كأنك حانوتي!» حدقت في وجهي ثم واصلت خياطتها قررت أن أبقى في منزل (ستسو) تلك الليلة ثم أغادر من هناك في الصباح التالي ذاهبا إلى حيث الجنازة، ومن أجل ذلك فقد عبرت نهر (يودو). ضحك ابن عمي في التلفون وإطلاقه علي لقب «سيد الجنائز» حرك في ردة فعل تجاهه، فقد جعلتني تجاربي الماضية حساسا جدا خصوصا لمثل هذه الكلمات، والحقيقة أنني منذ طفولتي وأنا أشارك في تشييع جنائز أكثر مما استطيع أن أحصيه، ليس فقط في وفاة أقاربي ولكني ايضا مثلت عائلتي في القرى الريفية حيث يجتهد الجميع لحضور جنائز بعضهم البعض. مارست كل العادات الجنائزية في اقليم (ستسو) وأعرف أيضا تقاليد جنائز الأرض الطاهرة وطوائفها الجديدة، وحتى جنازة (نيتشرين) لم أضيّع فرصة حضورها، كما شهدت اللحظات الأخيرة لخمسة أو ستة من الذين استطيع تذكرهم الآن، وأتذكر أيضاً ثلاث أو أربع مرات قمت فيها بتطرية شفاه الميت بالماء الأخير، وأشعلت البخور الأول وأيضا ما يسمى ببخور الوداع، وشاركت في مناسبات عديدة يجمع فيها رفات الميت ويوضع في إناء، بالإضافة إلى معرفتي بالطقوس البوذية في اليوم التاسع والأربعين عن الوفاة. لم أقابل الثلاثة الذين شاركت في تشييع جنائزهم ذلك الصيف أبدا، ولا وجدت طريقة أتمكن بها من الانغماس في حزن شخصي، ولكن الأمر يختلف عندما أكون في المقبرة فأثناء إشعال البخور أطهر نفسي من الهواجس الدنيوية وبصمت أدعو لراحة الميت، لاحظت جيدا ما يفعله معظم الشباب فهم يحنون رؤوسهم تاركين أيديهم تتدلى، أما أنا فأضم كفي إلى بعضهما مما جعل الناس يعتقدون أني أتقى وأصدق من الآخرين الذين لهم علاقة محدودة بالمتوفى، وما جعل هذا الانطباع يسود عني هو أن الجنائز تقودني للتأمل في حياة وممات أقربائي، وفي هدأة التأمل يسكن قلبي، كلما بعدت قرابتي عن الميت شعرت برغبة جامحة للذهاب إلى المقبرة ترافقني ذكرياتي الخاصة: لكي أشعل البخور، وأضم كفي إلى بعضهما في إخلاص حميم لتك الذكريات، ومع أني شاب في مقتبل العمر الا أن سلوكي المحبذ هذا في جنائز الغرباء ليس شكليا ولا زائفا، بل على العكس فهو لإظهار سعة الحزن الذي يكمن في داخلي. - 2 - لا أتذكر شيئاً عن جنازة والديّ، ولا أتذكر شيئاً عنهما عندما كانا على قيد الحياة، يقول الناس لي: «لا تنس والديك، تذكرهما على الدوام» ولكني لا أستطيع بالرغم من محاولتي، عندما أشاهد صورة لهما تصدمني لا على أنها مجرد لوحة ولا كائن حي، شيء ما بين بين، ولا من فيها قريب أو بعيد.. ولكن شيء ما بينهما، أشعر بتوتر محرج وغريب حينما نقف أنا والصورة في مواجهة، عندما يتحدث أحد عن والدي لا أجد الطريقة المثلى للاستماع وتبقى رغبتي الوحيدة هي إنهاء ذلك سريعا، حين يخبرونني بتأريخ وفاتهما وعمرهما عندما ماتا، فإني أنسى حالاً تلك التواريخ كما لو أنها مجرد أرقام عبثية. سمعت من عمتي أني صرخت وانفعلت في يوم جنازة أبي، وطلبت منهم: «لا تقرعوا الجرس في المذبح، أطفئوا الضوء، واسكبوا الزيت من الإناء بعيدا في الحديقة» هذه هي القصة الوحيدة التي أثارتني بشكل غريب. قدم جدي من طوكيو عندما كانت تسمى باسمها القديم (ايدو) تخرج والدي من مدرسة طبية في طوكيو، ثمة تمثال برونزي لرئيس المدينة في مقبرة (يوجيما تينجين) وفي أول يوم أحل فيه بطوكيو أطلعوني على ذلك التمثال، لقد جعلني أشعر بشيء غريب، تمثال برونزي يعطي انطباعا غريبا عن الحياة لقد جذبني كثيرا لأحدق فيه. كانت جنازة جدتي في السنة التي التحقت فيها بالمدرسة الابتدائية، جدتي وجدي هما اللذان ربياني إلى أن توفيت جدتي عندما شعرت أنها اطمأنت على مستقبل طفل مريض مثلي، أمطرت بغزارة في ذلك اليوم، وبسبب ذلك حملني أحدهم على ظهره إلى المقبرة، وكذلك أختي ذات الأحد عشر أو الاثني عشر خريفا على ما أعتقد حملها أحدهم أمامي صاعدين طريق الجبل الترابي. أيقظ موت جدي في المشاعر الحقيقة الأولى عن مذبح عائلتنا، وفي اللحظة التي لم جدي يرقبني اختلس نظرة لمذبح العائلة المشع في الحجرة الخاصة به، تكرر أن فتحت الباب المنزلق فتحة صغيرة في غفوة جدي ثم أغلقه من جديد، وأتذكر أنني كنت أكره فتح ذلك الفاصل المنزلق بأية حال. وحقيقة الأمر أني كرهت الدخول للمذبح. وكلما انظر في ضوء الشمس الخافت وهو يغسل قمم الجبال بعد نزولها تحت الأفق أفكر في الضوء المنبعث من مذبح العائلة وكأنه يترقبني وانا لا ازال في سنتي الثامنة. خربشت بخط تلميذ في صفه الاول اسم جدتي البوذي الطويل على الفاصل الابيض المتزلق المؤدي إلى حجرة المذبح. بقيت تلك الخربشات هناك حتى بعنا البيت. وبعد سنوات الشيء الوحيد الذي استطيع تذكره من هيئة اختي وهي تُحمل على ظهر الرجل هو ملابس حدادها البيضاء. اغمضت عيني لعلي امسك بتلابيب تلك الصورة فلم ار إلا المطر وطين الطريق الاحمر. يؤلمني ان الرؤية في مخيلتي لا تضاهي الاحداث الحقيقية، وحتى الرجل الذي حملها لم يتجسد هو ايضاً في مخيلتي، ولذا فإن ذلك الكائن الابيض الغض العائم في الهواء هو فقط ما تحمله ذاكرتي عن اختي. نشأت اختي في بيت احد اقاربنا منذ ان كان عمري اربع او خمس سنوات وماتت هناك عندما بلغت الحادية عشرة اوالثانية عشرة، وكأني لم اعرف لا اصل ابي ولا امي ولا حتى اختي. شجعني جدي ان احزن على فقدها. فتشت قلبي، فإذا بي ارتبك لأني لم اجد الطريقة التي اسلم بها روحي للحزن، إلا ان رؤيتي لجدي المنهك وحزنه الذي قد بلغ حده هي بالفعل ما ملأ قلبي ألماً. اتجهت عواطفي الى جدي لتسكن إليه غير تاركة اي مؤشرات بتحولها إلى اختي. درس جدي وتفوق في فنون العرافة، ولكن عيناه اقلقتاه فأصبح في سنواته الاخيرة وكأنه أعمى. سمع أن اختي في يد الموت فهرع يقلب عصي عرافته، وبصمت تكهن بعمر حفيدته. ضعف بصره جداِ لدرجة طلبه مساعدتي في تصفيف تلك العصي. حدقت في وجه جدي الذي بدأ ان السنين قد وضعت بصمتها عليه والنهار يواصل اقترابه من الليل شيئاً فشيئا.. بعد ايام استلمت رسالة ليس بها إلا كلمتان او ثلاث عن وفاة اختي، لم امتلك القدرة لإخبار جدي بها. اخفيت الرساله ساعتين او ثلاثا قبل ان اقرر اخيراً قراءتها عليه. في ذلك السن كنت بالكاد اقرأ الحروف الصينية، ولكن عندما يأتي الامر إلى قراءة احرف مكتوبة بالطريقة المتشابكة فإني لا افهم شيئاً. وفي العادة آخذ كف جدي وامررها عليها مراراً وتكراراً حتى يستطيع التعرف عليها. والى الآن فعندما اتذكر يده وانا امسكها واقرأ عليه الرسالة فإن كفي الشمال تبرد. مات جدي مساء جنازة الإمبراطورة (دواجر). انا الآن في صيف السنة السادسة عشرة من عمري. هم ان يتنفس فنشبت نخامة في حلقة. قبض على صدره، وقالت امرأة بجانب سريره: « كأنه بوذا ! لماذا يعاني المسكين في لحظاته الأخيرة؟» لم احتمل مشاهدته وهو يتعذب، ولذا انصرفت الى حجرة اخرى في الساعة التي تلت ذلك الموقف. بعد سنة تقريباً لامتني إحدى بنات عمي لذلك الشعور البارد تجاه اقرب إنسان الي. امسكت بزمام الصمت، فليس بجديد عليّ ان تفسر تصرفاتي بتلك الطريقة. في طفولتي لم احبذ التعبير عن نفسي. كلمات تلك المرأة العجوز جرحتني جرحاً عميقاً، فذهب تفكيري الى ان عدم وقوفي بجانب جدي حينما داهمه الموت إهانة له. بعدها، بعد أن اصغيت إلى تأنيب ابنة عمي صامتاً، الوحدة التي فارقتني زمناً عاودتني فجأة وغاصت في اعماق اعماقي، ولازمني إحساس بأني الوحيد على وجه الارض من سكنته الوحدة وتفردت به الوحشة. في يوم الجنازة وانا استقبل الضيوف الكثيرين الذين اتوا للعزاء شعرت فجأة بأنفي ينزف، وحينما احسست بنزول الدم غطيت انفي بطرف قميصي وخرجت حافياً على بلاط الحديقة. استلقيت على ظهري في ظل شجرة على الصخرة الكبيرة التي يبلغ ارتفاعها حوالي ثلاثة اقدام في مكان لا يراني فيه احد منتظراً ان يتوقف النزيف. تسلل ضوء الشمس الباهر خلال اوراق شجرة البلوط العتيقة مما مكنني ان المح أجزاء صغيرة من السماء الزرقاء. اعتقد ان هذه هي اول مرة في حياتي يحدث لي مثل هذا النزيف الذي جعلني مستوعباً لمدى ألمي على موت جدي، ولأني الوحيد في العائلة كثير الضيوف وشغوف بالجنائز حضوراً وتشييعاً وتعزية فلم يسعفني الوقت لانتبه لحاجات نفسي. وإلى الآن لا استطيع التفكير في موت جدي او الى اي مدى سيؤثر على مستقبلي، لأني لا اضع نفسي في عداد الضعفاء، إلا أن ذلك النزيف احبطني قليلاً. لم أشأ ان يفسر اختفائي المفاجىء بالضعف، فأنا النادب الرئيسي والجنازة على وشك ان تجيء. لم يبرر احد تصرفي هذا مما اثار ضجة كبيرة. خلوت بنفسي على صخرة الحديقة للمرة الاولى في الايام الثلاثة منذ ان توفي جدي، حيث تولد في قلبي شعور غامض بنفور الناس مني وتخليهم عني. ذهبت في صباح اليوم التالي إلى حيث تجمهر الناس بانتظار عملية الحرق مع ستة اوسبعة من اقاربي ويصحبنا اصدقاء قرويون. لم يكن لمحرقة الموتى الجبلية سقف، وحين تسلمنا الرفات لم تزل هناك طبقة من النار تحترق في الاسفل. ونحن نلتقط العظام من النار بدأ انفي ينزف ثانية. القيت بعيدان الخيزران التي تستخدم كحطب وارخيت وشاحي متمتماً بكلمة او كلمتين وسددت انفي ثم انطلقت راكضاً الى اعلى الجبل. لم يتوقف النزيف كاليوم الاول برغم محاولاتي المتكررة. يداي غطاهما الدم الذي تقاطر حتى على رؤوس العشب. وبينما كنت مستلقياً على ظهري في هدوء نظرت الى البحيرة في سفح الجبل، اشعة شمس الصباح الراقصة على سطح الماء انعكست علي من بعيد وجعلتني اشعر بدوار. ضعفت عيناي وبعد نحو ثلاثين دقيقة سمعت اصواتاً بعيدة تكرر ندائي. ساءني وشاحي الذي اضحى منقوعاً بالدم، ولكن بصيص الأمل في عدم ملاحظته لم يخفت لأن لونه اسود. عدت الى المحرقة فإذا بأعين الحاضرين جميعاً ترشقني بسهام اللوم والتأنيب فالعظام مكشوفة، ولذلك فقد طلبوا مني ان التقطها. وبقلب بائس التقطت العظام الصغيرة ثم ارتديت وشاحي الذي جعله الدم المتخثر جافاً بقية النهار. توقف النزيف الثاني ولم يلاحظه احد، ولا انا بحت به لأحد ابداً. وإلى الآن لم احك أي قصص عن عائلتي ولا سئلت عنهم إطلاقاً. نشأت في الريف بعيداً عن المدينة ولذا فلست ابالغ إن قلت ان كل افراد الاسر الخمسين في قريتنا اشفقوا علي وشاركوني حزني. وقف القرويون في تقاطع الطريق بانتظار موكب الجنازة. كنت امشي امام الجنازة وتحديداً امام صندوق النعش. رفعت النساء اصواتهن بالنحيب. سمعتهن يصرخن: «يا لبؤس هذا الصبي!» شعرت بالحرج وتقدمت في سيري الذي بدا الجفاء على خطواته. بعد تجاوزي للتقاطع سلكت النساء الواقفات هناك طريقاً مختصراً آخر من أجل أن يلاقين موكب الجنازة ثانية فيجهشن ببكائهن. منذ صغري وتعاطف جيراني معي يهدد بأن يجعلني موضع شفقتهم. قبل نصف قلبي إحسان الآخرين بينما رفضه النصف الآخر وكرهه. جنازة جدي وجنازة اخته الصغرى وجنازة عمي ومعلمي وآخرين قريبين مني، كل هذه الجنائز سببت لي الكثير من الحزن والألم. أما الملابس الخاصة التي تركها لي والدي فقد لبستها مرة واحدة فقط في مناسبة سعيدة هي مناسبة زواجي، أما المرات الاخرى التي لا احصيها من كثرتها فإني ارتديها حين ذهابي الى المقبرة الامر الذي جعلهم يطلقون علي (سيد الجنائز). -3- الجنازة الثالثة في عطلة ذلك الصيف في قرية على بعد ميل تقريباً من بيت ابن عمي الذي قصدته مسافراً بدون اي تكلف وكأني ذاهب في زيارة عادية. امضيت ليلة وعندما اوشك موعد رحيلي تبسم احد افراد اسرته قائلاً: « ربما دعوناك مرة اخرى، فعندنا فتاة مصابة بمرض السل والتي يحتمل الا تكمل هذا الصيف». فكيف يمكن ان نجري مراسيم اي جنازة بدون وجودك يا سيد الجنائز». حزمت ملابسي وعدت ادراجي الي بيت ابن عمي في (ستسو)، وهناك وجدت زوجته في الحديقة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة جعلتني احس باعتدال مزاجها. «مرحبا بك في بيتك أيها الحانوتي». «كفي عن كلامك الناعم هذا واحضري لي بعض الملح؟» قلت هذا وانا واقف امام البوابة بالضبط». «ملح؟! ماذا ستفعل به؟» «سأطهر نفسي. لن استطيع الدخول قبل ان اقوم بهذا». «ياله من امر مقزز. كأنك مضطرب نفسياً». أحضرت حفنة من الملح ورشته علي بطريقة غشاها التكلف والزيف. كان ابن عمي على وشك ان يضع قميصي المبلل قليلاً بالعرق والذي خلعته للتو على الشرفة المطلة للشمس لكي يجف. شمت رائحته فنظرت اليّ مقطبة حواجبها وقالت بسخرية: «يا للفظاعة... رائحة قميصك كأنها رائحة قبر». «إن كنت لاتعرفين رائحة القبر فهذا أمر سيىء حقاً». لا يزال ابن عمي مبتسماً،: « أعرف حتما ان رائحته كرائحة شعر محترق».