يقول تعالى في كتابه الحكيم: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون الزمر42, وبذلك يبين لنا سبحانه وتعالى أنه يتوفى الأنفس في حالتين: الأولى عند النوم حيث تفارق أثناءه الروح البدن, ولكنها تظل معلقة بأسباب الحياة لهذا البدن, ثم تعود اليه عندما يستيقظ, ويطلق عليه الموت الأصغر, والثانية عند الموت حيث تصعد فيه الروح الى بارئها ولا تعود وهو الموت الذي نعرفه, ويقول تعالى أيضا وهو الذي يتوفاكم بالليل, ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي الأنعام60, وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته حين ناموا ففاتتهم الصلاة : إن الله قبض أرواحكم حيث شاء وردها حيث شاء صحيح البخاري, ويلاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم كلمة الأرواح مرادفة لكلمة الأنفس في الآية الشريفة للحصول على نفس المعنيى. وبغض النظر عن هذا الخلاف الجزئي الذي تحدثنا عنه باستفاضة في المقال السابق, إلا أننا نرى بوضوح أن صلة الروح بالجسد أثناء المنام تختلف تماماً عنها في حالة اليقظة , فالله يتوفى الروح أو يقبضها في المنام, وبذلك تتحرر الروح وتخرج من قيود الجسد الذي يحد من قدراتها وإمكاناتها لتدخل إلى حالة التوفي, وهي حالة خاصة يظهر فيها من وقت لآخر ما لتلك الروح من قدرات يختفي معها حاجز الزمان وحاجز المكان, فهي تستطيع أن تستقبل ما لا يدركه الإنسان بحواسه المعروفة ذات القدرات المحدودة, وإدراكه المقيد بإمكاناته البشرية حبيسة الزمان والمكان, ويمكنها آنذاك أن تتصل بعالم الأرواح البرزخي فتلتقي الأرواح وتتزاور, وتظل الروح على اتصال بجسم النائم بصورة لا يعلمها إلا الله عز وجل, إلا أن البعض يعتقد أن هذا الاتصال قد يكون عن طريق الحبل الفضي الذي يصل الروح بالجسم الأثيري المشابه تماما للبدن, فتنقل إليه كل ما تلقاه وتشاهده وتسمعه, وقد يكون ذلك بشكل مباشر أو بصورة رمزية قد يصعب تأويلها في كثير من الأحيان. وقد ثبت أن هناك التقاء لأرواح الأحياء والأموات اثناء النوم, فالحي يرى الميت في منامه فيستخبره, ويخبره الميت بما لا يعلم الحي, سواء حدث ذلك في الماضي أو سوف يحدث في المستقبل, وربما أخبره الميت في منامه بمال دفنه في مكان لا يعلم به أحد سواه, وربما أخبره بدين عليه, ويذكر له شواهده وأدلته, وربما يخبره بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحدا من البشر, وأبلغ من هذا أنه قد يخبره بأنه سوف يأتي الى عالمهم في وقت كذا وكذا, فيكون الحدث كما أخبر, وأنا شخصيا أذكر رؤية روتها لنا أمي في صباح نفس يوم وفاتها المفاجئة, وهي في سن الثانية والأربعين فحواها أن والدها وحماتها اللذين توفيا قبلها بعام واحد يعدان القبر لاستقبالها وهم في حالة من السرور, وقد حدث ما روته لنا, وكنا جميعا شهودا على ما قالت. وبين الموت والنوم شبه واتصال عبر عنه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين قال: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا, وإذا انتبهوا أبصروا, وعرفوا ما كانوا فيه من غفلة, فقد قال تعالي: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ق22, والنائم شرعا إنسان حي مرفوع عنه التكليف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأن القلم مرفوع عن ثلاثة, فعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة, عن النائم حتى يستيقظ, وعن الصبي حتى يشب, وعن المعتوه حتى يعقل, ومن خلال الآية42 في سورة الزمر التي ذكرناها في أول المقال يتبين لنا أن هناك فرق بين الوفاة والموت, فالوفاة تحدث في كل من النوم والموت عندما تغادر الروح الجسد, والفاعل في الحالتين هو الله عز وجل, إلا أنه في حالة الموت تخرج الروح من الجسد بواسطة ملك من الملائكة هو ملك الموت وبالمناسبة لم يثبت أن اسمه عزرائيل, كما هو شائع فقد قال تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون السجدة11, ويساعد ملك الموت كوكبة من الملائكة يقومون بنزع النفوس نزعا من الظالمين حيث يقول عز وجل: ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم الأنعام93, ويقول تعالى أيضا: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم النساء97, أما الطيبون فتتولاهم ملائكة الرحمة وتبشرهم برضوان من الله ومغفرة وسلام منه ورحمة, فيقول تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون, وقال تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر27 30. والنوم ليس حالة من حالات الخمول كما يبدو للبعض, وإنما هو ضرورة تحتمها بيولوجية الجسم, وإذا حللنا ما يحدث أثناء النوم بدراسة التغيرات التي تحدث في موجات رسم المخ الكهربائي فسوف نجد أنه يمكن تعريف النوم بأنه عبارة عن سلسلة أو دورة متكررة تدوم كل منها لمدة90 دقيقة في المتوسط, وتتألف كل دورة من دورات النوم من خمس مراحل: المرحلة الأولى والثانية: وتمثلان مرحلة الدخول في النوم, وأثناءهما يمر الإنسان تدريجيا من حالة اليقظة الكاملة إلى حالة فقدان الإحساس بما حوله, ويسجل رسام المخ الكهربائي موجات خاصة تسمى ألفا تتكرر بمعدل7 12 موجة كل ثانية, وهي إشارة إلى استرخاء المخ وهبوط نشاطه تمهيدا للدخول في النوم, ثم يلي ذلك المرحلتان الثالثة والرابعة, وتمثلان مرحلة السبات, وأثناءهما يسجل رسام المخ الكهربائي موجات بطيئة جدا تتكرر بمعدل1 2 موجة كل ثانية, وتسمى موجات دلتا, وتشير إلى سكون المخ, وهدوء خلاياه وهي مرحلة النوم العميق الذي يفقد الإنسان خلالها إحساسه النسبي بالزمن, كما يفقد الاتصال بما ومن حوله من أحداث ومشاهد وأصوات, إلا ما كان منها مزعجا أومدويا أومن أجل استغاثة أوسابق إنذار, حيث تكون الأذن هي وسيلة الاتصال الوحيدة العاملة أثناء النوم, وذلك بفضل الاتصال المزدوج التأثير بين الأذن, وجهاز الوعي بالساق المخي, ويزداد أثناء ذلك إفرازمادة السيروتونين بالمخ, وهذه المرحلة من النوم العميق التي تسمي بالسبات, وما يصاحبها من فقد الإحساس بالزمن هي أقرب المراحل تشبيها بالموت, لذلك يطلقون على النوم: وفاة راجعة أو صغرى. أما المرحلة الخامسة من دورة النوم فهي مرحلة الأحلام, وأثناءها يزداد نشاط المخ, ويسجل رسام المخ الكهربائي موجات سريعة مميزة, ويصاحب ذلك زيادة في إفراز النورأدرينالين الذي يسرع النبض, ويسرع التنفس وتبدأ العينان المغمضتان في الحركة السريعة في الاتجاهات المختلفة, حتى أنهم أطلقوا على هذه المرحلة: مرحلة حركة العينين وتستمر تلك النوبات السريعة لفترات قصيرة يعود بعدها الدماغ وباقي الأعضاء إلى حالة السكون والهدوء في المرحلة الثانية, حيث تتكرر الدورة الواحدة عدة مرات كل ليلة, وقد لاحظ العلماء أن تلك المرحلة هي التي لها علاقة بحدوث الأحلام أثناء النوم, وإذا استيقظ الشخص أثناء هذه الفترة, فإنه يتذكر ما كان يحلم به آنذاك, فالحقيقة العلمية أنه ليس هناك شخص لا يحلم, ولكن الكثيرين لا يتذكرون أحلامهم, وتدوم هذه المرحلة نحو10 30 دقيقة في المتوسط, وربما خلال هذه الدقائق القليلة, تسافر الروح إلي بلاد بعيدة, وتتحدث مع أموات, وتعيش لسنوات, حيث لا حساب لعنصري الزمان والمكان عندما تترك الروح الجسد, وتمثل فترة الأحلام نصف ساعات النوم مجتمعة في الأطفال, إلا أنها لا تتعدى ساعتين من ساعات النوم للإنسان البالغ, وتقل تدريجيا مع التقدم في العمر, وقد ورد في الحديث الذي ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه, إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها, وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين, وكان صلى الله عليه وسلم عندما ليستيقظ يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. عن الأهرام المصرية