«أنا يا هيبا أنت، وأنا هم... تراني حاضراً حيثما أردت، أو أرادوا. أنا الإرادة والمريد والمراد». هكذا يتكلم «عزازيل» في رواية المصري يوسف زيدان التي تحمل العنوان نفسه، وحصلت على جائزة «البوكر» العربية العام 2009، وتمّت أخيراً ترجمتها الإنكليزية، التي أنجزها جوناثان رايت وأصدرتها دار «أتلانتيك بوكس» على جائزة «أنوبي». زيدان، الروائي والمتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه، له مؤلفات وأبحاث في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي، وتتميز أعماله الأدبية بخصوصية، سواء في بنية السرد واللغة أو على مستوى الفكرة والموضوع. وقبل «عزازيل» صدرت له رواية «ظل الأفعى»، وأصدر كذلك روايتي «النبطي» و «محال»، والأخيرة هي عمل أول ضمن ثلاثية يستعد لإصدار الجزء الثاني منها تحت عنوان «غوانتنامو»، والجزء الثالث عنوانه «نور». هنا حوار معه: من «ظل الأفعى» إلى «محال» هناك تنوع ثري وأصيل، وخصوصاً في «عزازيل» و «النبطي»، ما جعلنا نرى بعض النقاد يشير إلى وجود فارق في الأسلوب وبنية النص، فهل ترى أن «ظل الأفعى» و «محال» ظلمتا نقدياً؟ - التنوع هو أمر لا غنى عنه في الكتابة الروائية، بل هو واحدٌ من أهم شروطها. والعجيب أن نفراً ممن يظنون أنهم «نُقاد» يُنكر عليّ ذلك، وبعضهم تطرّف في الخَبَال، فقال إن الذي كتب هذه الرواية غير الذي كتب تلك. وهو ما يظنون أنه هجوم عليّ، مع أنني أراه مدحاً يقدّمونه لأعمالي من حيث لا يشعرون. ولا أستطيع القول إن هاتين الروايتين لقيتا ظُلماً نقدياً، بل بالعكس، أرى أنهما حظيتا بدراسات نقدية كثيرة ومنشورة في أماكن عدة. وعموماً، فإن ما يهمُّني أكثر من «النقاد» هم القراء، فهؤلاء هم الذين أكتب من أجلهم بلا وساطة. استقبل القراء رواية «ظل الأفعى» في شكل لافت، وصدرت منها حتى الآن ثماني طبعات، عدد نسخها أربعون ألفاً، وصدرت من «محال» ثلاث طبعات، كلٌّ منها عشرة آلاف نسخة، ومع ذلك فهناك نقص في المكتبات، لأن الطبعات تنفد فور صدورها، فكيف لي أن أقول إن ثمة ظُلماً للروايتين، نقدياً أو غير نقدي. في «عزازيل» نلاحظ دقة البحث والغوص في الجانب المادي والروحي للأقباط وهو ما يدل على دقة ووعي بالشخصيات، ما يجعلنا نتساءل عن الجهد المبذول قبل الكتابة وخلالها، كيف تقيّم ذلك الآن؟ - لا يجوز لي أن «أقيّم» ما أكتب، فهذا حق القارئ وحده، وهو صنعة الناقد أيضاً، ولا يحق لي المزاحمة في ذلك. وكل ما يمكننى أن أُخبرك به في هذا السياق، هو أنني أُدقّق كثيراً في تفاصيل النص الروائي، وأعيد كتابته مرات كثيرة قبل النشر، مستخدماً معارف كثيرة، ومستغرقاً في معاناة طويلة لتقديم نصٍّ يليق بالقارئ الذي أحترمه احتراماً يفوق اعتقادي بأنني مبدع. ما شعورك تجاه الغضب الذي انتاب مراجع دينية قبطية من محتوى «عزازيل»؟ - علاقتي بالأقباط وغير الأقباط من أتباع الكنائس المسيحية جيدة، قبل صدور «عزازيل» وبعد صدورها، والأزمة المعروفة أثارتها جماعة من رجال الدين المسيحي الذين كانوا يلعبون دوراً سياسياً مرسوماً لهم لأهداف لا علاقة لها بالرواية، ولو كان هؤلاء صادقين حقاً في موقفهم، لاهتموا بمناقشة كتابي «اللاهوت العربي» بدلاً من الصخب الذي أثاروه عقب صدور رواية «عزازيل»، التي استُقبلت بحفاوة في الغرب المسيحي، وخصوصاً في إيطاليا، حتى أنها مدرَجة هناك ضمن أعلى الكتب توزيعاً. في هذا الصدد، أرى أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في المفاهيم والتصورات العامة، فهذا شرط ضروري لتطور الوعي العام، بصرف النظر عن مصالح أصحاب المذاهب الذين يلعبون بالدين سياسياً. هل في مصر حركة نقدية واعية تساير حركة الإبداع الكثيفة؟ - بالطبع لا. هناك قلة متميزة من النقاد، ولكن الغالبية بائسة، ولا يمكن بأي حال أن نقول بوجود «حركة نقدية»، وإلا فما هي ملامح هذه الحركة؟ وأين حضورها في الواقع الثقافي العام؟ وما هي التوجهات الأساسية لها؟ هل نحن في مأزق بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم عقب «الربيع العربي؟». - طبعاً، نحن في مأزق قديم ومتجدد، والأمر مرهون اليوم بوعي الجماعات المستنيرة وقدرتها على مواجهة أفكار التطرف الديني الإسلامي والمسيحي، لأن التطرف يولّد التطرف، مثلما يولّد العنفُ العنفَ. كتابك «اللاهوت العربي» لم يُلتفت إليه بالقدر الكافي، مقارنة بما حظيت به رواياتك؟ - بالعكس، الكتاب نال اهتماماً كبيراً عند صدوره العام 2010 وصار في تلك السنة «أعلى الكتب العربية توزيعاً»، وفق ما نشرت مكتبات بيع الكتب في مصر والدول العربية، لكن طبعاته قلّت بعد الثورة المصرية لأسباب عدة. وبالطبع، نحن العرب نعاني -عموماً- انسحابَ الفكر الفلسفي لصالح الأفكار الدينية المتشددة التي لا تطيق النزعة الفلسفية ولا تتقبّلها. هذا واقع لا يمكن إنكاره. في رواية «محال» نجد البعد الصوفي، عكس ما نراه في «عزازيل» و «النبطي»، هل هذا صحيح؟ أم أنه قصور في الرؤية؟ - اللغة التي أكتب بها عموماً هي صوفية الإيقاع، وسيظهر التصوف بجلاء في روايتي المقبلة «غوانتنامو»، وهي الثانية في ثلاثية الروايات التي كانت «محال» الأولى منها. لماذا الثقافة العربية غائبة عن المشهد الثقافي العالمي؟ - للأدب العربي حضور ما على الساحة الدولية، خصوصاً بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، ولكن هذا الحضور ضعيف، بسبب تقاعس الحكومات العربية عن دعم كُتّابها والاحتفاء بهم وتقديمهم للعالم، مثلما تفعل الدول الغربية مع مؤلفيها، الذين تعتبرهم كنزاً قومياً، بينما يظنونهم هنا «خطراً قومياً». نميل كثيراً إلى التصنيف، فتارة نلهث وراء «الواقعية السحرية» عند ماركيز، وتارة أخرى وراء ما بعد الحداثة في أعمال كتاب آخرين... هل نفتقد كعرب رؤيتَنا الخاصة عبر الكتابة وعبر رصد واقعنا، سواء كان هذا الواقع هو الماضي أو هو المعيش أو حتى المستقبلي؟ - لا أظن ذلك. كل ما في الأمر هو أن الناس في بلادنا يبحثون عن الجديد، مثلما يفعل الناس في كل مكان، ويتأثرون بما يجري في الساحة الإبداعية العالمية، وهذا أمر ليس فيه مجال لأي لوم.