لم تنم عين دار (محافظة بقيق) أمس، كما تنام بقية القرى والمدن، ولم يهدأ لها بال، وهي ترى مضاجع نسائها وأطفالها خالية منهم. فيما بقيت شخوص الضحايا حاضرة في وجدان الأهالي، الذين لم تغمض لهم عين، جراء هذه «الفاجعة المؤلمة»، وإن أرهقهم التعب تارة، وسلموا أنفسهم للنوم قليلاً، فشخوص الضحايا وذكرياتهم تحاصرهم في كل زاويا الذاكرة، لتسلب دقائق الراحة التي كانوا يأملون بأن تعطيهم طاقة، لإكمال البكاء والحسرة على هذه الفاجعة. الطفل عبدالله الهاجري (7 سنوات)، الذي بدأ متوسداً مقعداً في خيمة العزاء، وضع رأسه على حافة هذا الكرسي. فيما غارت عيناه بعيداً، وكأنه يتذكر والدته، التي كان ينعم في أحضانها قبل هذه الفاجعة. وربما كان يتذكر شقيقته الصغيرة، التي لن يراها مجدداً، وتقاسيم وجهه تسأل: «كيف سأواجه هذه الحياة بعد أن فقدت حضن والدتي الدافئ، وحنان شقيقتي الصغيرة التي كنت أتشاقى معها يومياً؟». فيما تنهمر عيناه بالدموع، وهو يسأل عمن سيستقبله حال عودته من المدرسة غداً، ليأتي والده ليعانقه، بعمق ويمسح على خصلات شعره المتناثرة، ويجلسه بجانبه، إيذاناً ببدء مراسم العزاء. ولا يختلف حال الطفل عبدالله، عن الثمانيني فهد بن محمد، الذي بدا هو الآخر متوسداً مقعداً إلى جانب الطفل، متكئاً على عكازه. فيما ابتلت لحيته البيضاء بدموع غزيرة، وهو يتذكر زوجته، التي أبت البقاء في منزلها، وأصرت على مشاركة أهالي الهجرة أفراحهم، على رغم مرضها الشديد. فيما بقي كرسيها المتحرك، يتربع مكان الفاجعة، لترحل وتبقى ذكرياتها «الجميلة» قابعة في ذاكرة هذا العجوز المثكول. مئات الصور المؤلمة التي تداهم ذوي الضحايا، لكنها ازدادت وهي ترى مشاهد تشييع الضحايا، بعد الصلاة عليهم في مسجد «الشدي» في ذات المنطقة «المكلومة». كان المنظر بحسب أحد أهالي هذه القرية «مُفجعاً»، حين اصطفت الجثث أمام المصلين، فيما أقفلت الشوارع على جميع المركبات، عدا تلك المركبات التي كانت تحمل جثث الضحايا. ويروي فهد الخالدي، أحد أبناء عين دار، هذا المشهد المؤلم، «أثناء ذهابنا إلى المقبرة سيراً على الأقدام، شاهدت في الطريق أحد أقاربي، وهو يسير بسيارة رباعية الدفع، فتح بابها الخلفي ووضع جثة أخته، إلى جانب جثة أخيه الصغير». ويلتفت الخالدي يميناً ليرى «سيارة حوض حاملة جثتين لشقيقتين، أعمارهما بين 18 و19 سنة». ولم يتمالك فهد نفسه، وهو يرى «الأب المفجوع، حافي القدمين، يحمل نعش طفلته الصغيرة بين يديه، وهو يحث الخطا نحو المقبرة». ولا تغيب عن ذاكرته تلك السيارة التي كانت تحتضن «جثمانين لشقيقين، صعقهما التيار الكهربائي، وهما يحاولان سحب شقيقتهما الصغرى من مكان الحادثة، بعد أن شاهداها تتفحم أمام أعينهما». فيما كانت المشاهد داخل المقبرة أكثر إيلاماً، إذ امتلأت جوانبها وزواياها بعوائل «ثكلى»، توافدوا لتوديعهم وإتمام مراسم الدفن، وسط عبارات الرحيل ودموع الألم التي كانت شاهدة على هول فاجعة مرت على هذه الصحراء. فيما وقع الأهالي بين مطرقة الألم الذي اعتراهم نتيجة هذا الفاجعة، وسندان الأسباب التي أدت إليها، أي الطلقات النارية الفرحة بالزفاف، والتي يُرجح أنها تسببت في انفلات الكيبل الكهربائي، وسقوطه من الأعلى على حوش الفرح. في الوقت الذي تناسى الأهالي هذه الأسباب، واصطفوا جنباً إلى جنب، لاستقبال المعزين في خيمة كبيرة، أُعدت لهذا الغرض، لتتجدد المطالبات بضرورة «إيقاف استخدام الأسلحة في الأعراس، التي حولت هذا العرس إلى مأتم».