مروة الغميان شابة سورية محجّبة. تناقلت صفحات «فايسبوك» تدوينة كتبتها باللهجة الشامية المحكية، بعد إطلاق سراحها من أحد السجون السورية لمشاركتها في التظاهرات. «مذكراتها» خواطر حميمة وعامة في آن. على وجهها يطفو بعض من أبرز تجليات نساء ملتزمات دينياً، إنما من نوع مختلف عما ساد خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. هكذا روت مروة مشاركتها في بدايات التظاهرات في آذار (مارس) الدمشقي: «مشينا إلى ساحة الحريقة. كنا نهتف: الله، سورية، حرية وبس. وفوجئنا بشبيحة النظام يهتفون: الله، سورية، بشار وبس. اشتبكنا وتفرقنا. كان الاتفاق أن نعاود التجمع عند الجامع الأموي. طوال الوقت هتفنا، لكن للأسف لم يتجاوب معنا التجار، وهذا ما حزّ في نفسي. كنت أضع نظارات شمسية، خلعتها وصرخت بهم: «أنا شامية متلكم، أنا بنت الشام منكم، قفوا وقفة حق وقولوا ضميركم، فسيأتي يوم ويحاسبكم رب العالمين على هذه اللحظة». رب العالمين سيحاسبهم هذه المرة، إذاً، لأنهم لم يساندوا ناسهم في وجه المستبد، وليس لأي عمل دنيوي آخر. وهذه اللحظة، عند مروة، لا شيء سواها. ثم اعتُقلت الشابة المتحمسة: «قضينا اليومين الأولين في تحقيقات وضرب، يستدعونني في أي لحظة للتحقيق، ليلاً أو نهاراً، خلال ثوان يجب أن أكون عند المحقق، لذا لم أكن أنزع حجابي، حتى في الزنزانة...». بحجابها تناضل مروة، ومعه. ليس لأن هناك من يريد نزعه عن رأسها. وليس لأن أحداً يحقّره كرمز سياسي. بل هي تهتف لإسقاط نظام لطالما خطب ودّ الدّين (أو فرعه الأغلبي الذي لا يشاركه الحُكم). نظام يشجع افتتاح مدارس تحفيظ القرآن، وترتاح في رعايته «شيخات» التعليم الديني للنساء في البيوت، حتى نالت مجموعة منهن لقب «القبيسيات» الشهير نسبةً إلى كنية إحدى «الآنسات» التي تحجّبت على يديها مئات الفتيات الدمشقيات. لكن، حالة مروة، وكثيرات مثلها، فالحجاب مسألة غير ذات صلة. «بنات بلقيس» خلال الأسابيع الأولى لانطلاقة الانتفاضة اليمنية، وقبل تعرّض الرئيس علي عبدالله صالح لمحاولة الاغتيال، خرج ليهزأ من تظاهرات مليونية مطالبة بإسقاطه. لعب على الوتر الديني المحافظ، محذّراً من أن تلك التظاهرات «مخالفة لمقتضيات الشرع» باعتبارها تسمح بالاختلاط بين الجنسين. وزفر عبارته المشهودة: «أدعوهم إلى منع الاختلاط في شارع الجامعة الذي لا يقرّه الشرع،... فالاختلاط حرام». وأتاه الردّ عملياً: تظاهرات نسائية حاشدة، تجاوزت العاصمة صنعاء إلى عدن وذمار وغيرها، ولم تكن الأخيرة. قبل أيام سقطت الخمسينية المنقبة «عزيزة» برصاص قوات صالح. وسارت تظاهرة نسائية بالنقاب الأسود، تلوّنه صور تشي غيفارا. في تعز، مشين جنباً إلى جنب مع الرجال، وفي صنعاء وعدن شكّلن كتلاً مستقلة. محجّبات، بينهن منقّبات، هتفن: «نحن بنات بلقيس»، واستحضر بعضهن دور نساء النبي في المعارك والحروب. نزلن متزودات بما يشبه سليقة أنثوية عميقة. بادرن إلى اختيار ما يناصرهن من تاريخهن وتراثهن الديني. والجدير بالتأمل ههنا إحصاءات تشير إلى أن ربع اليمنيات فقط يجدن القراءة والكتابة، ونسبة 17 في المئة منهن أكملت تعليمها الثانوي. لعله معطى عربي-ديني جديد يتبلور. النساء ظاهرته الأوضح، في ظل أسلمة اجتماعية تراكمية منذ عقود، برهانها الأسطع انتشار كثيف للحجاب ثم النقاب، بعدما كانت النساء في بدايات القرن الماضي، سافرات أو نازعات نحو السفور. ليست القضية هنا في الإسلام نفسه، بل في صورة مغايرة لهذا الإسلام، من قلب الثورات. قد لا يسعنا تنبؤ المسار السياسي والاجتماعي الذي سيسلكه متدينون، في مصر وتونس المحررتين، وبعد انتهاء مخاض سورية وليبيا واليمن. هذا أمر متروك للوقت، ولرهان على وعي ومثابرة حثيثين من أجل تحقيق التوازن. لكننا نعرف الآن أن الحجاب، تقليدياً كان أم إيديولوجياً، بات يندمج أو يحاول، في صواب سياسي أعمّ وأشمل. فقبل أيام، اعتصمت نساء ليبيات، كثيرات منهن بحجاب، لمطالبة المجلس الانتقالي الوطني بإيلاء الجرحى أولوية، وإمداد المستشفيات المنكوبة باللوازم الطبية. وطاولت حملة اعتقالات في سورية أخيراً طالبات وناشطات شُددن من بيوتهن. نساء مسلمات، ملتزمات دينياً وثقافياً، في حلّة مستجدة. حلّة ربما تكون غير مسبوقة منذ ضربت قريناتهن المصريات بخمورهن على وجوههن، وترجّلن من خدورهن إلى شوارع القاهرة، هاتفاتٍ لسعد زغلول. تغيّر الكثير منذ حقبة الاستعمار/الانتداب، مروراً باستقلال الأوطان وتأسيس العرب «دولاً حديثة»، وصولاً إلى «الربيع العربي» الذي سبقه تنميط ممتد للعرب والمسلمين في إطار الإرهاب والتطرّف. صورة «القاعدة» في مستهل الألفية الثالثة، اختطَف زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، صورة الإسلام في العالم، بصرف النظر عن كثرة أو قلّة «الجماهير» المتعاطفة معه، أو لنقل المناهضين للسياسة الخارجية الأميركية، الذين شاهدوا انهيار برجي نيويورك على شاشات التلفزة مبتهلين إلى من يُمهل ولا يهمِل. وذلك بعد حوالى عقود ثلاثة من هيمنة «إسلام حرفي» وعابر للتاريخ. إسلام متناقض مع مفاهيم مشاركة النساء في السياسة، يشبه الصورة التي تناقلها ناشطون مصريون عن «مؤتمر المرأة» ل «حزب النور» السلفي، حيث لم تتضمن المنصة الرئيسة أي امرأة. وشاء المسلم والمسلمة أم أبيا، فإن بن لادن، منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، تحوّل «ممثلاً» شبه حصري للعالمين العربي والإسلامي. أصبح، وتنظيمه، مشرّعاً ومحرّكاً لسياسات وإجراءات أمنية وقوانين قد تخرج تمييزية في حق فئات قومية، جندرية، ودينية، كالتشريع الأوروبي ضد الحجاب، ومن نوع لعب علي عبدالله صالح المستمر على فزّاعة «القاعدة»... باتت كل عملية ل «القاعدة»، أو تصريح أو تهديد، تستتبع الإرهاب ومكافحته، بدءاً من سلسلة حروب لم تنته مفاعيلها حتى اليوم، وصولاً إلى التضييق على حرية الفرد وحركته ومعتقده السياسي أو الروحي. قد يحتاج نقاشاً مطولاً الافتراض بأن مقتل بن لادن، ثم أنور العولقي وغيرهما من القياديين، إضافة إلى حصار جحور «القاعدة» (التي لا ظهور نسائياً فيه بالمطلق)، هي عوامل مؤثرة في فعالية التنظيم واستمراريته. لكن المؤكد أن الثورات العربية أفرجت عن صورة طال احتكارها، وكادت تخلد نسختها الطالبانية. نشهد اليوم تلاوين مروحة إسلامية واسعة، من السلفيين إلى الإسلام الشعبي/المدني/التقليدي، مروراً ب «الإخوان المسلمين»، في مصر وتونس وليبيا وسورية وغيرها. والنساء الملتزمات المحجبات يخضن الثورات شريكات، بل يقدنها أحياناً. يطالبن ويحتججن. كانت اليمنية توكّل كرمان، الثلاثينية المحجّبة التي تقاسمت «نوبل للسلام» مع ليبيريتين، أول من قاد التظاهرات الجامعية ضد حكم الرئيس صالح. وهناك نوّارة نجم وأسماء محفوظ، المدوّنتان المصريتان المحجّبتان اللتان كرّسهما الإعلام مصدراً للأخبار عندما ضُيّق على الإعلاميين المتحررين من موالاة حسني مبارك، وتابعهما الثوار على الانترنت منشّطتين ومنسّقتين لحركتهم. في ليبيا، تزامن اشتعال الثورة مع اعتصام زوجات وأخوات وأمهات لرجال قضوا في مجزرة داخل السجن، أمام مقر محكمة في بنغازي، احتجاجاً على اعتقال محاميهن. وفي سورية، حمل أحد أيام الجمعة الاحتجاجية اسم «جمعة الحرائر» بعد تعدّيات رجال أمن و «شبيحة» (تكررت كثيراً في ما بعد) على متظاهرات غالبيتهن بحجاب شاميّ تقليدي هو كناية عن معطف بأزرار وغطاء أبيض للرأس. حتى «الحرائر» (جمع حرّة) كلمة جديدة على أدبيات السياسة الشعبية، تبدو من التراث الإسلامي، لكنها جُعلت معاصرة. سقطت أكثر من 50 شهيدة سورية حتى الآن. وقبل ذلك، أهينت أمهات أطفال اعتقلوا في درعا، وهذا ما فجّر الانتفاضة السورية. واعتقلت المراهقة السورية المحجّبة، طلّ الملوحي، بسبب مدونتها الالكترونية. فيما انبرى ثوار سوريون يعلنون استعدادهم للزواج من نساء اغتصبهن «شبيحة» على الحدود السورية – التركية، إذ لم يعد «الشرف» مقتلة الضحية، بل تُحتضن الأخيرة الآن، وإن من قناة الزواج التقليدية. «الحداثة» من عائشة إلى بثينة في المقابل، هناك صورة نساء السلطة. ففي تونس، كان الرمز الأول والمباشر لتعنّت الحكم، الشرطية التي منعت محمد البوعزيزي من البيع في الشارع، قبل أن يشعل جسده. والأهم، ذائعة الصيت ليلى الطرابلسي بن علي، جامعة ثروة لم تتسع لها حقائب المنفى. ومثلها سوزان مبارك، الضالعة في مشاريع «وطنية» ما زالت فضائح اختلاساتها تتكشّف حتى الآن. ثم «كلوديا شيفر العرب»، عائشة معمّر القذافي. شقراء، هيفاء، متعلّمة، حداثية الهيئة، وغنيّة طبعاً، إضافة إلى نفوذها العسكري والسياسي الذي لم يبدُ أن والدها ميّز فيه بينها وبين أشقائها. في التسجيل الصوتي الذي بثّ لها أخيراً من مقر إقامتها في الجزائر، صدحت عائشة بخطاب أبيها عن «مقاومة المؤامرة» و «القتال حتى الرمق الأخير مع قلة من الشرفاء الأوفياء للوطن». ولطالما جسّدت حارسات القذافي، بلباسهن العسكري المدجج بالسلاح، ذروة نسوية معكوسة، بنكهة بطش ذكوري ممزوج بخيال جنسي مريض. أما في سورية، فنقع حكماً على المستشارة الإعلامية للرئيس بشار الأسد، بثينة شعبان. مثقفة، تتحدث لغات أجنبية، وتعنى بمظهرها على طريقة نساء الدولة الغربيات. وعلى رغم سيرتها الذاتية وأناقتها العصريتين، تسمعها ترطن بلغة حديدية، وبمفردات عفلقية. بل إنها لا تتكبّد عناء صوغ حَبْكة مقنعة ل «نظرية المؤامرة» الرسمية. كأنهما النموذجان النسائيان الأبرز في الثورات العربية: راهنية ثقافية وغربية الطابع، تلفّ نساء السلطة اللواتي تستبطن ممارساتهن وكلماتهن مظاهر أوليغارشية وفساداً ممنهجاً مافيوياً بيروقراطياً ورجعياً. وفي المقابل، تصعد توليفة تقليدية، بنكهة إسلامية في الغالب، ربما تهيمن على هيئات الكثير من الناشطات السياسيات والمدنيات والإعلاميات، في حين أن مطالبهن مدنية المنحى (يسبقن بها الثوار أحياناً). لكن، هل تستبقيهن «الجمهوريات» التي تنهض من تحت ردمها مجموعات «إخوانية» وسلفية؟ أم يستمرئ طروحات الأخيرين وجدان الإسلام الجمعي؟ «الرجال يريدون رحيلنا» خلال زيارة وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، «ميدان التحرير» في القاهرة بُعيد تنحّي مبارك، اقتربت منها سيدة مصرية مشحونة: «أرادنا الرجال أن نشارك في التظاهرات حين طالبنا برحيل مبارك... والآن يريدوننا أن نرحل إلى بيوتنا». فيما تتحدث ناشطات، من طبقات اجتماعية ومستويات علمية متعددة، عن خوفهن العميق من الإجحاف في تمثيل النساء في البرلمان المصري الجديد الذي ستتمخض عنه انتخابات الشهر المقبل. وفي حديث إلى صحيفة «الغارديان»، عبّرت مؤسِّسة منظمة «هاراس ماب»، ريبيكا كايو، عن قلقها لأن «الجميع يقول إن الوقت غير مناسب الآن لطرح المساواة الجندرية». أما في تونس، فالحراك النسائي ينطلق من سُلّمة أعلى بفضل أسس علمانية مُعزّزة أصلاً لحقوق المرأة، لا سيما في قوانين الأحوال الشخصية، أرساها الرئيس الحبيب بورقيبة، واستُكملت مضطردة في عهد بن علي (من دون حقوق الإنسان وشفافية الحكم طبعاً). ومع ذلك، تتفشى الخشية من أصوات تعلو بين الأحزاب الصغرى، لا يستهان بغطائها الديني، وتشكك في وجود نساء يتمتعن ب «الكفاءة» اللازمة للمشاركة في الحكم طبقاً للكوتا المُقرّة. علماً أن تصويتاً إيجابياً أقرّ 50 في المئة من القوائم الانتخابية لمرشّحات، إضافة إلى 20 في المئة من مقاعد اللجنة المولجة وضع القانون الانتخابي لنساء. وفي المقابل، يؤكد زعيم «حزب النهضة» الإسلامي، راشد الغنوشي، حرص حزبه على تمثيل «الملتزمين دينياً» كما «العلمانيين»، في استلهام واضح لتجربة «العدالة والتنمية» في تركيا. إلا أن مراقبين كثيرين يرون في خطاب الغنوشي غموضاً والتباساً شبه دائمين، حين يلامس السؤال حقوق المرأة وتمثيلها والحريات الشخصية. وهذا ما يقلق تونسيات كثيرات، خصوصاً أن استطلاعات الرأي تظهر، حتى الآن، أن «النهضة» يتمتع بالنسبة الأكبر من التأييد المعطى لحزب واحد، وهي حوالى 30 في المئة. والحال المصرية شبيهة بنظيرتها التونسية، تحديداً في قانون أحوال شخصية «صديق للمرأة» دعمته سوزان مبارك. يستوي التشابه في قلق من الآتي. إذ، ومع الصعود السياسي ل «الإخوان المسلمين» الأكثر تنظيماً، إضافة إلى السلفيين الأكثر صراحة في رفض مشاركة النساء، يسرّب ناشطون سياسيون إسلاميون أنهم في حال تولي السلطة، سيعملون على تطبيق الشريعة الإسلامية، تشريعاً، وفصلاً بين الجنسين في أماكن العمل، الخ... في حين دعا المفتي إلى مراجعة «القوانين العلمانية» للأحوال الشخصية. والخبر المرعب الغريب كان تأكيد منظمة العفو الدولية خضوع ناشطات اعتقلن، قبل سقوط مبارك وبعده، ل «فحص العذرية»... في ربط واضح بين التمرّد الثوري والجنس كمحرّم أخلاقي-ديني. وأخيراً، كان لافتاً أن أكثر الفضائيات العربية تأييداً للثورة الليبية أغفلت اعتصاماً لنساء ليبيات محتجّات على انعدام تمثيلهن في المجلس الانتقالي. ولولا وكالات أنباء أجنبية، لدُفن الحدث في أرضه. في ذلك كله ما يرسم علامة استفهام حول تناقض يغرق فيه بعض أهل الثورات، وتُحابيهم في تزكيته الثقافة الإعلامية والسياسية. فيُشدّ من أزر ثقافة وإسلام سابقين على الثورة، ضد ثقافة وإسلام لاحقين عليها. لعل الثورات العربية، بنسائها، ألهمت وأحياناً فرضت نتائج معينة، حتى في مجتمعات عربية لم يتطور فيها «الربيع»، ويسودها التزام ديني متفاوت التشدد. فنظمت جمعيات نسوية في المغرب، حيث تزايدت نسبة المحجبات في شكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، اعتصاماً أمام مجلس النواب، تحت شعار «الشعب يريد نساء في البرلمان»، احتجاجاً على القانون التنظيمي الجديد لمجلس النواب، والذي حصر حصّة النساء من مقاعد البرلمان بنسبة 15 في المئة، بينما يخصص النص الدستوري الجديد ثلث المقاعد لهن. أما في «الربيع» الذي مرّ عليه صيف، ويداخله خريف مجهول المعالم، فهناك مروة الغميان التي لقّبها المطالبون بالإفراج عنها ب «زهرتنا»... ومثلها كثيرات. اختتمت مروة الجزء الأول من يومياتها التي لم تكتمل بسبب الاعتقال الثاني: «عندي إيمان يا أصدقائي بأن النهاية السعيدة سنكتبها معاً... عاشت سورية حرّة أبيّة».