ينبع الخبر من الحدث ويحوله إلى مجموعة معلومات تعالجها الوسائل الإعلامية، إما إخباراً أو تحليلاً، لتنقله إلى المتلقي، ليحل محل أخبار أخرى. لكن الأخبار تلعب مع تأثيراتها المباشرة أو غير المباشرة دوراً مهماً في تدافع الأحداث وبالتالي الأخبار الجديدة المتعلقة بها. ويقال في مهنة الإعلام ان خبراً يطرد خبراً. وتسهل ملاحظة هذا التدافع عبر مراقبة يومية للأخبار وربطها بالأحداث التي ولدتها. أي بشكل آخر يمكن للخبر المتعلق بحدث ما أن يولّد حدثاً ويكون بذلك مؤثراً في سياق الأحداث. والأمثلة على ذلك في الأيام القليلة الماضية كثيرة. فعلى سبيل المثال أي خبر عن احتمال شن هجوم أميركي أو مجرد خبر أو تصريح عن الاستعدادات العسكرية الاميركية، يكفي لدفع أسعار المواد الأولية وفي طليعتها النفط، إلى الارتفاع. لكن الأخبار من هذا النوع تظل في سياق الموضوع العراقي. فالعراق بلد نفطي وموقعه في الخليج العربي في قلب أكبر منطقة تصدير للطاقة النفطية في العالم، ومن الطبيعي أن تؤثر أخباره على أسعار النفط العالمية. لكن في خضم الأخبار المتعلقة باحتمال امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل تتوالد الأحداث المرتبطة مباشرة بأخبار العراق والتي تؤثر في قضايا تبدو بعيدة جداً عنه لتعود وترتد على مجريات الأزمة العراقية وبالتالي على الأخبار المتعلقة به. ففي الأسبوع الماضي أعلنت كوريا الشمالية عزمها على إعادة تشغيل مفاعلها النووي الرئيسي وطلبت من الوكالة الدولية للطاقة النووية سحب مراقبيها. وبالطبع احتل هذا الخبر الصفحات الأولى في وسائل الإعلام. لكن بعد الفترة اللازمة من الزمن لاستيعاب القوة الإعلامية للخبر ضمن سياقاته الكورية والآسيوية والأميركية والعالمية، عادت المعلومات الصادرة عن هذا الخبر لتصب في خانة الحدث العراقي لأسباب بديهية. ارتباط الاخبار ويعود السبب في ذلك إلى أسباب ترتبط بنوعية متلقي الخبر أكثر من ارتباطها بمضمون الخبر الذي لا يتغير. فبالنسبة الى الرأي العام الأميركي فإن التمعن بمضمون الخبر الأساسي حقيقة تفعيل العمل بمفاعل نووي وما يمكن أن يتبعه من الحصول على مواد انشطارية لازمة لصناعة أسلحة دمار شامل يقود لا محالة إلى الأخبار المتعلقة بالأزمة العراقية حيث مضامينها الرئيسية تدور حول البحث عن احتمال وجود أسلحة دمار شامل. ومهما قيل عن تأثير الإعلام الأميركي المتعامل بشكل يومي مع الحدث، فإنه لن يستطيع تجاوز التناقض الظاهر في الحالتين اللتين يعالجهما. وبالفعل بعد مرور أقل من 48 ساعة على إعلان خروج مراقبي الوكالة من بيونغ يانغ بدأت وسائل الاعلام الأميركية بالمقارنة بين "الخطر المحتمل" في العراق، والذي تحشد واشنطن قواتها لاقتلاعه، وبين "الخطر المؤكد" والمعترف به في كوريا الشمالية، والذي تتجاهله الإدارة الأميركية ويعتبره كولن باول "لا أزمة"! ويبين هذا المثال كيف تتعامل الصحافة وبالتالي الرأي العام العالمي بشكل مترابط ومتشابك في قضايا تبدو غير مترابطة. ولا يمكن الجزم بأن ارتداد الخبر الكوري على الخبرالعراقي أو ارتباطه به أثر في الاستعدادات للحرب في العراق، زيادة أم نقصاناً، ولكن يمكن الملاحظة أن التصريحات التي تصب في مصلحة تراجع حتمية الحرب تزايدت على ألسنة المسؤولين الأميركيين والبريطانيين في الفترة الأخيرة، وتناقلتها الوسائل الإعلامية بتحليلات لا تتطرق إلى المسألة الكورية بشكل مباشر. وفي مثال آخر تتحدث الأخبار المدعومة بالإحصاءات عن تدهور شعبية ليكود بشكل عام بسبب الفساد والرشوة وتراجع نسبة التأييد لشارون في الانتخابات المقبلة في 28 الشهر الجاري. وبدأت حمى الانتخابات ترتفع بعدما ظهر بصيص أمل باحتمال أن لا تكون خسارة حزب العمل بالشكل الذي كان متوقعاً، ما يسمح بإعادة بعض التوازن الى الحكم اليميني في إسرائيل. وتحت مظلة موجة الأخبار عاد الحديث عن إمكان الخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها الأراضي المحتلة، واحتمال العودة إلى طاولة المفاوضات بعدما أثبتت تجارب عدم نجاح سياسة القبضة الحديدية بفرض حل على الفلسطينيين، وهذا ما يرفض اليمين الإسرائيلي الاعتراف به. وإلى جانب هذا السيل الإعلامي الذي أعاد بعضاً من رمق الحياة إلى اليسار الإسرائيلي، كانت وسائل الإعلام تنقل أخبار مفاوضات بين الفصائل الفلسطينية تحت مظلة مصرية في محاولة لضبط المقاومة ضمن نطاق الأراضي المحتلة، كنوع من التجاوب مع مبادرات عربية وأوروبية لإفساح المجال للعودة إلى طاولة المفاوضات. وكانت وسائل الإعلام العربية والإسرائيلية، وبصورة أقل وسائل الإعلام العالمية، تعالج أخبار الموضوعين في سياق واحد على أساس أنها تصب في خانات متقاربة من الناحية الإعلامية التواصلية. فجأة، سقط خبر الهجوم الانتحاري المزدوج في تل أبيب ل"يطرد" الأخبار المتعلقة بالحدثين المستمرين السابقين ويبعد الاهتمام عنهما مستقطباً اهتمام الرأي العام. وبغض النظر عن تقويم العمليات الانتحارية في استراتيجية استعادة الفلسطينيين لحقوقهم، ومن الناحية الإعلامية فقط، يمكن القول أن خبر العملية الانتحارية جاء ليحل محل أخبار تراجع شعبية حزب ليكود في استطلاعات الرأي، وأخبار المفاوضات بين الأطراف الفلسطينية في الوعي الإعلامي الإسرائيلي والفلسطيني والعربي والدولي. وكما حصل إعلامياً بالنسبة الى كوريا الشمالية، عاد خبر العملية الانتحارية ليرتبط بأخبار الحدثين السابقين. فبعد أقل من أربع وعشرين ساعة عادت الأخبار المتعلقة بالانتخابات الإسرائيلية إلى واجهة الصحافة العبرية، ولكن عبر خبر العملية الانتحارية، لتعلن استعادة "ليكود" المبادرة في الانتخابات وربط الدوافع بالعملية الانتحارية مع تحليلات تبرز "إيجابيات" شارون في قمع الانتفاضة. في حين غابت الأخبار المتعلقة بتصرفات "ليكود" وقضايا الرشوة عن الصفحات الأولى، حتى ان هذا التحول الإعلامي شكل مخرجاً إعلامياً لنجل شارون الذي كانت الشرطة قد استدعته للتحقيق معه. رمزية تواصلية ومن جهة المفاوضات بين الأطراف الفلسطينية شكل الهجوم الانتحاري "رداً إعلامياً" على صعوبة تقدم المفاوضين نحو اتفاق، من دون الحاجة للإعلان عن تعثر الاتفاق. من الصعب إيجاد علاقة سببية بين الهجوم الانتحاري وبين تقدم "ليكود" في استطلاعات الرأي العام من دون تحليل ودراسة مجموعة عوامل سياسية تاريخية واجتماعية ونفسية متشابكة لا مجال لها هنا، غير أنه من الناحية الإعلامية البحتة يمكن اختصار العملية التواصلية بالقول أن الرمزية التواصلية لتراجع ليكود في مؤشرات استطلاعات الرأي والتي كان يمكن أن تكوّن بفعل التراكم كمّاً إعلامياً سلبياً للحزب اليميني الحاكم، انقلبت بحكم الرمزية التواصلية للعملية الانتحارية إلى "كم إعلامي إيجابي يقطفه "ليكود" وعلى رأسه شارون. وفي حال صحت التوقعات المتعلقة بالانتخابات يكون الخبر المتعلق بالهجوم الانتحاري قد لعب دوراً ليس فقط إعلامياً بل سياسي وأثر مباشرة في الرأي العام إعلامياً أولاً لينتقل في مرحلة تالية إلى التأثير على تصرف الرأي العام حيال عملية سياسية الانتخابات. وأفضل برهان على ذلك لنفترض أن السلطات الإسرائيلية ولسبب ما، عتمت على العملية الانتحارية وعلى عدد ضحاياها، فلن تكون هذه المرة الأولى التي تكذب بالنسبة الى خسائرها البشرية عندما تكون لها مصلحة في ذلك، يمكن القول أنه في غياب عوامل خارجية أخرى، فإن نتائج الاستطلاعات لم تكن لتتغير واستطراداً، لم يكن تراجع شعبية "ليكود" قد توقف ولكان حزب العمل أوفر حظاً بالتقدم وإن كان نجاح اليمين أو اليسار لا يغير شيئاً في معاناة الشعب الفلسطيني الذي خبر الاثنين. تثمير الحدث وتمكن متابعة الآثار الإعلامية للعملية الانتحارية والأخبار المتعلقة بها وتأثيرها في خلق أحداث تنبع منها أخبار جديدة. فمباشرة بعد العملية الانتحارية وما أن انفض الاجتماع المصغر للحكومة الاسرائيلية حتى قصفت طائرات الأباتشي أهدافاً في غزة. وبالطبع حلّ خبر القصف الإسرائيلي محل خبر الهجوم الانتحاري في السياق التواصلي لأخبار فلسطين في الصحافة العربية. ولكن لم يحصل الشيء نفسه في الصحافة العالمية بشكل عام والصحافة الإسرائيلية بشكل خاص. فقد قامت المراكز الإعلامية في الدولة العبرية باغراق الصحافة العالمية بتقارير وريبورتاجات للاستفادة القصوى من الرمزية التواصلية للعملية الانتحارية، في أجواء "محاربة الإرهاب" التي تحيط بالعالم الغربي. وعندما نفدت "الذخيرة الإعلامية" لتغطية الهجوم الانتحاري قامت المراكز الإعلامية بتوزيع ريبورتاجات متنوعة عن مواضيع شتى إلا أنها تتعلق بالعملية الانتحارية في محاولة لتثميرها، مثل ريبورتاجات عن المستشفيات التي عالجت المصابين، أو عن الشارع الذي تمت فيه العملية الانتحارية وعدد المرات التي شهد فيها عمليات مشابهة ثلاث مرات في هذه السنة وغيرها، ما يؤكد رغبة السلطات الإعلامية الإسرائيلية بالاحتفاظ بالمبادرة الإعلامية التي وفرها لها الهجوم الانتحاري، ومحاولة سد الطريق على خبر جديد يمكن أن يسحب الخبر المتعلق بالعملية الانتحارية. لكن وبصورة طبيعية، إلا أنها حتمية في علم التواصل الإعلامي، فإن خبر منع الفلسطينيين من التنقل بين المدن، خصوصاً منع المسؤولين الفلسطينيين من السفر الى لندن. جاء ليطرد خبر العملية الانتحارية من واجهة السياق الإعلامي المتعلق بفلسطين. وبدأت الصحافة العالمية معالجة خبر منع المسؤولين من السفر، من زاوية "تشدد إسرائيل في حقها المشروع في الدفاع عن نفسها" أو من زاوية منع لقاء يهدف الى "اصلاح السلطة الفلسطينية". والغريب أن المسؤولين الإعلاميين في السلطة الفلسطينية ركبوا الموجة الإعلامية الجديدة التي لا تشكل أي رمزية إعلامية سلبية لإسرائيل، فهي تشير إلى "حقها في الدفاع عن نفسها" وإلى "ضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية". وقد كان أحرى بالمسؤولين الإعلاميين التشديد على حقيقة القرارات التي تحول فلسطين إلى سجن كبير، بدلاً من التشديد على بُعد إعلامي لا رمزية له، وهو أن تصرفات شارون ونتانياهو تعتبر تحدياً لرئيس وزراء بريطانيا، وكأن الأمر يهم الرأي العام العالمي أو الإسرائيلي، أو أن للأمر تأثيراً على مصير الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال في حال رفع توني بلير التحدي أو دفع لشارون ثمناً سياسياً في مقابل السماح لعدد من الشخصيات الفلسطينية بالحضور إلى لندن، الأمر الذي يمكن أن يحصل إن لم يأت خبر عن حدث أكثر خطورة ليطرده من واجهة الصحافة فيمر وكأن أمراً لم يكن