لا يمكن بأي شكل من الأشكال اتهام الإعلام بأنه وراء اندلاع حرب أو حتى تأجيج صراع. فالإعلام بوسائله كافة، عبارة عن أداة توصيل للمعلومة بين مَصدر ومُتلقٍ. فلا الصحافة والإعلام أو القنوات الفضائية تخطط لشن حروب أو لاختراق حدود أو غزو بلدان، ولا دور مفترضاً لها في هذه التحضيرات. فهذه "مهمة" أركان الجيوش والقيادات السياسية في مناطق النزاع. وتقتصر مهمة وسائل الإعلام على نقل "أخبار" التحضيرات والاستعدادات وتحاول تقديم تحليلات سياقية للحدث او للحرب المُتوقعة، وفي بعض الأحيان تحاول وضع سيناريوات للمعارك، ودراسات افتراضية لما يمكن أن يحدث على أرض المعركة أو في كواليس المفاوضات التي تسبق أو تعقب أو تواكب الحروب. وقد يحدث أن يكون للوسائل الإعلامية العاملة في مناطق النزاع أو الموجهة لها، دور في تأجيج الصراع الدائر فيها بعد اندلاعه أو حتى قبله، حين تحاول الالتصاق بتوجهات الرأي العام في مناطقها، واسترضاءً له ولقرائها، فترفع مبيعاتها عبر مداعبة عواطف دفينة في اللاشعور الوطني في المحيط المباشر للنزاع، أو عبر التشديد على المصالح المباشرة الاقتصادية أو السياسية للرأي العام الذي يشكل رأس مالها. لكن هذه الظاهرة تكون محصورة جغرافياً وهي باتت صعبة الممارسة في ظل عولمة الإعلام وشموليته وانفتاح مجموع المتلقين للمعلومات على الكم الإعلامي المكثف المتوافر من جهة أخرى. وحتى إن وُجدت، فهي تكون على صورة "آراء" أو "تعليقات" أو "كلمة تحرير" في صفحات ملاصقة لصفحات الإعلام. وكما هي الحال مع الحرب كذلك مع اي حدث، فالإعلام ليس مصدر الحدث، ولا يمكن تسجيل حركة المعلومة عبر أداة التواصل ميديا إلا بعدما تكون "حركة الحدث" قد سبقتها بفترة، وإن تكن وجيزة جداً. قد يمكن في بعض الأحيان أن تستبق "حركة المعلومة" الحدث، وتغوص في تحليلات استباقية وتدرس مجموعة من الاحتمالات، أو تبني على اتجاه محتمل لتوجه الأحداث، لكنها في هذه الحالة تكون مبنية على حركة استباقية نابعة من سياق الحدث أي بمعنى آخر حركة حدث بالقوة أو احتمال من بين جملة احتمالات، يعزز من إمكان حصوله سياق الأحداث السابقة. إذاً لا يمكن أن تكون الوسائل الإعلامية منبع الأحداث مهما كانت قوتها ووزن تأثيرها على الرأي العام إلا في حالات نادرة ومتميزة مثل إطلاق إشاعة أو خبر عار من الصحة. وتأثيرها يأتي بعد معالجتها للمعلومة ولمحيطها الكم التراكمي للمعلومات التي تصب في حقل المعلومة موضوع المعالجة لما يمكن أن يقود إليه الحدث من نتائج وترتيبات جديدة. ولكن إذا التفتنا إلى شبكة الإعلام العالمي اليوم نجد أن موضوع الحرب التي تهدد الولاياتالمتحدة بشنها على العراق، تغطي صفحات وسائلها المكتوبة وشاشات إعلامها المتلفز والقنوات الفضائية. يحصل كل هذا والحرب لم يعلن عنها، فعلى رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين الداعية للتخلص من نظام صدام حسين، فلا الرئيس الأميركي جورج بوش أعلن الحرب على العراق، ولا المسؤولين في دائرة القرار الأميركي، أعلنوا صراحة أن الحرب واقعة لا محالة. ومع كل هذا فإن الصحافة تعيش أجواء حرب مقبلة. التحليلات والتقارير الواردة في الصحف والنشرات التلفزيونية لم تعد تتعاطى مع الأمر تحت واقع هل تقع الحرب، بل تحت واقع متى تبدأ الحرب. وهنا يبدو بديهياً التساؤل عن مصدرالحركة التواصلية التي قادت إلى إطلاق "حركة المعلومة" الأساسية أي المتعلقة بالحرب والتي كانت المحرك "الأول" لوسائل الإعلام بالشكل الذي نراه ونسمعه ونقرأه. والتحري النظري بشكل أساسي عن مصدر الحركة التواصلية يسعى للكشف عن مصدر أول معلومة تؤدي إلى بناء تراكم معلوماتي تنطلق منها التحليلات والتنبؤات التي تقود إلى الاستنتاج بأن "الحرب واقعة لا محالة". ان هذا البحث النظري شبه مستحيل في ظل الكم التراكمي الإعلامي وتعدد الأسباب والمسببات وتشابكها اضافة إلى العوامل اليومية المؤثرة على الأحداث والمبنية في معظم الحالات على ما سبقها من أحداث... هي أيضاً وليدة كم إعلامي مرتبط بالمعلومة الأولى التي يُبحث عنها ومتأثر بها. ولكن على رغم صعوبته فإن التحري عن المعلومة الأولى مهم ويساعد في فهم مسلك العملية التواصلية خصوصاً أهدافها الخفية. والأهم في عملية البحث محاولة تجنب سقوط الوسائل الإعلامية في حقل التلاعب. وفي عودة إلى معالجة محيط أخبار الحرب غير المعلنة على العراق الكثيف بالأخبار والمعلومات، نرى أنه وعلى رغم غياب المعلومة الأولى التي يفترض أن تكون المحرك الأول لهذا الخبر، ولكل ما ينبع عنه من أخبار دائرية تدور حوله أو جانبية متفرعة منه، وكل ما يمكن أن ينتج من عملية إذاعته ونشره من نتائج مترابطة به من جهة ومؤثرة بالأحداث التالية زمنياً والآتية بعده، أن جو الحرب موجود بقعل وسائل الإعلام. وأن القناعة الذاتية للمتلقين من قراء ومشاهدين ومستمعين باتت تسبح في مستنقع الحرب الواقعة لا محالة! ويقود هذا الاستنتاج الخطير إلى تأكيد نظرية لم يتردد بعضهم في إطلاقها وتبنيها، وهي ان الإعلام يمهد التربة الخصبة لمنطق الحرب أو يساهم بشكل قوي بجعل الحرب "ممكنة"! ولا يفصل بين هذا القول والقول بأن الإعلام هو مسبب الحروب إلا مسافة قصيرة قد لا يتردد كثيرون في قطعها، على رغم أن دور وسائل الإعلام، حسب علم التواصل الإعلامي ومفهوم الإعلام سابقاً وحالياً لا يتعدى نقل معلومة من مصدر ما قد تكون حدثاً او خبراً تحليلياً مبنياً على تصريح أو تحليل للتصريح أو للحدث، لمتلق هو قارئ أو مشاهد أو مستمع. ومن هنا أهمية محاولة معرفة المصدر الأول للمعلومة الأولى المجردة نظرياً التي قد تكون حدثاً مثل إعلان حالة التأهب، أو إرسال عتاد وأسلحة إلى منطقة القتال وبدء الاستعدادات العسكرية. كما يمكن أن يكون المصدر الأول ممثلاً بإخبار أو تصريح مباشر أو إعلان الحرب. ولكن منذ سنوات بات تحري المصدر الأول للمعلومة صعباً للغاية، فالمعلومات تسرب عبر "مصادر موثوقة" أو عبر معلومات "استخبارية من غير الممكن الإفصاح عن مصدرها" أو من خلال "مصادر خاصة مقربة من مراكز القرار" وغيرها. ولكن على رغم هذا التعتيم والضبابية في المصادر الأولى للمعلومات، فإنه من الضروري محاولة اكتشاف من يقف وراء الشرارة المعلوماتية الأولى. وفي الحالة العراقية محاولة معرفة من يحاول التأثير على الرأي العام العالمي بشكل عام، ولكن كما تبين أيضاً منذ أسابيع، خصوصاً على الرأي العام الداخلي وبالتالي على صانعي القرار السياسي وبالتالي توجيه السياسة الأميركية في شأن يمكن أن يعرّض أرواحاً أميركية وغير أميركية للخطر، ويؤثر على التوازنات السياسية والعسكرية في مناطق معينة من العالم. وفي غياب أي إمكانية للبحث في طريقة الرجوع إلى وراء، أي محاولة ربط آخر معلومة بالمعلومة التي تسبقها مباشرة وهكذا دواليك حتى الوصول إلى المصدر الأول، يمكن اللجوء إلى طريقة البحث عن المستفيد الأول من عملية خلق "جو الحرب" في الحقل الإعلامي العالمي. والجواب هو من دون شك: الولاياتالمتحدة. فالولاياتالمتحدة هي المصدر التواصلي الوحيد القادر على هذا الإغراق الإعلامي المتعدد الاتجاهات والأهداف بشكل شمولي لكلا التيارين. فمن ناحية الاتجاهات فإن السياسة التواصلية للحالة العراقية كثيرة، منها ذات الاتجاه الداخلي لتبرير الحملة العسكرية والخسائر المحتملة في الأرواح بين الجنود الأميركيين ولتبرير صرف نفقات للمجهود العسكري ولموازنة المعركة ولكن هل من المؤكد حصولها؟، ومنها الموجهة إلى الحلفاء الغربيين في محاولة لدفعهم لمساندة تلك الحملة الافتراضية، وكذلك الموجهة إلى الدول المحايدة في هذا الصراع. وأخيراً السياسة الموجهة الى الدول "العدوة" والتي يمكن أن تعتبر عدوة محتملة محور الشر حسب تعبير الرئيس بوش. لكن هذا التقسيم يشمل تقسيمات أكثر عمقاً وتشعباً. فالسياسة التواصلية الموجهة نحو الداخل تشمل أيضاً في طياتها تناقضات تواصلية مهمة، فالتعامل الإعلامي مع المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية الفاعلة في المجتمع الأميركي، يختلف عن التعامل مع أوساط اليمين المتطرف ومؤيدي استعمال القوة الأميركية في حل النزاعات، كما هو مختلف التعامل الإعلامي مع الطبقات غير المسيسة والمؤثرة انتخابياً. كذلك الأمر في السياسة الإعلامية الموجهة نحو الحلفاء، عليها الأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية للحلفاء وهي متعددة اضافة إلى "تنوع" الحلفاء واختلاف درجات التحالف التي تربطهم بواشنطن، ما يزيد من تعدد السياسات التواصلية المطلوبة لإرضاء أوسع الشرائح لدى الرأي العام الحليف إلى جانب إرضاء وإقناع القيادات السياسية التي لها أهدافها السياسية الوطنية الخاصة. وكذلك الأمر ولو بدرجة أقل، مع الدول المصنفة حيادية بالنسبة الى موضوع الخلاف التي تشكل الرأي العام العالمي المحايد Passive international public opinion فهي على رغم ضعف تأثيرها على مجريات الاحداث تشكل الحضن الاعلامي للرأي العام العالمي وتتأثر بالاجواء الاعلامية وتتكيف معها لغياب المصالح المباشرة المهددة في الصراع. ويمكن ان يشمل الرأي العام العالمي المحايد الرأي العام المتحالف لأسباب تاريخية أو دينية أو عاطفية مع الدولة المستهدفة في الحالة العراقية الشعوب العربية والإسلامية ويشكل هذا العامل مزيداً من التعقيد في عملية التواصل الإعلامية المطلوب القيام بها. أما بالنسبة الى الدول المصنفة في خانة الأعداء فإن العملية التواصلية ليست بالسهولة التي يمكن تصورها، فهي توجب التفريق بين الفريق الحاكم والفريق المدني، أي شعوب الدول بشكل عام التي يتم التعامل معها على أنها ضحية الفريق الحاكم. وقد يكون في هذا الشق توافق مع العملية التواصلية الموجهة الى الداخل حيث يتم تصوير العمل الحربي المحتمل على أنه لإنقاذ الفريق المدني في الدولة المستهدفة ورفع الظلم عنه. وكما يتبين فإن الولاياتالمتحدة هي الوحيدة القادرة على الضرب على كل هذه الأوتار مجتمعة والتصرف ضمن مسار شمولي جارف. لنأخذ مثلاً من الجمل الكثيرة التي تتضمنها الصحافة اليوم في ما يتعلق بالحرب على العراق، يعلن مثلاً دان بارتلت مستشار الرئيس الاميركي أن بوش "لم يطلب دعماً لأنه لم يتخذ قراراً بعد، ولكن هناك كثيرين مستعدين لمساندة هذه القضية العادلة ... وإذا قرر تنفيذ عملية عسكرية فسيفعل ذلك بطريقة حكيمة". وإذا حللنا هذا التصريح نجد أنه يرضي الافرقاء كافة بمن فيهم ... حكام بغداد! فالرئيس بوش لم يتخذ قرار الحرب: فهو رجل حكيم ومتأن، وفي ذلك رسالة تواصلية موجهة للداخل وللحلفاء والرأي العام العالمي. لكن الرسالة قد تكون موجهة أيضاً الى الرئيس العراقي ما يعني أن الوقت لم يفت بعد للخضوع للمطالب الأميركية بالنسبة للرأي العام الداخلي أو لمطالب الأممالمتحدة بالنسبة الى الرأي العام والافرقاء الآخرين في الخارج. أما الشق الثاني فهو رسالة تفيد أن هناك كثيرين على استعداد لمساندة الرئيس الأميركي وفي ذلك رسالة الى الرأي العام الداخلي كثيرون يشاطرون أميركا سياستها والى الرأي العام الخارجي، من حلفاء ومحايدين لا توجد سياسة تفرد أميركية بالقرار والرأي العام العراقي بشقيه الحاكم والمحكوم العالم كله يقف وراء السياسة الأميركية. أما الشطر الأخير فهو رسالة حازمة تفيد أن الرئيس بوش إذا قرر أن يقوم بعملية عسكرية فستكون ضمن خطة حكيمة. وهذا ما يطمئن الرأي العام الداخلي والخارجي والحلفاء، أما بالنسبة الى العراق فإن صفة "الحكمة" في وصف كلمة "طريقة حكيمة" يمكن أن يكون لها وقعان مختلفان: بالنسبة الى الرأي العام العراقي فالحملة العسكرية المنفذة "بطريقة حكيمة" ستجنب الشعب ويلات الحرب، وبالنسبة للحكام فهي تفيد أن الرئيس "الحكيم" لن يخطئ في تقدير المصاعب والنجاح في الحرب. الجدير بالملاحظة أن الرسالة، التي يمكن القول أنها رسالة تحذير وتهديد، لا تتضمن، من مطلعها إلى آخر كلمة فيها، كلمة واحدة يمكن وصفها بالعنيفة، بل على العكس فإن القوة السيميائية للكلمات المستعملة تشير الى كلمات محببة وأليفة. أما من ناحية الأهداف التواصلية فهي وإن كانت مختلفة عن الأهداف السياسية الا انها تصب في خدمتها. ولكن يصعب جداً من خلال الأهداف التواصلية معرفة درجة تقارب الأهداف السياسية من الموقف الاستراتيجي أو الموقف التكتيكي . فالعملية التواصلية تقصد في ما تقصده التغطية على الممارسة السياسية والأهداف، وليست كما يتصوره بعضهم هدفاً إعلامياً حسب المعنى السيميائي للكلمة: إعلام الآخرين بالمقاصد. فالإعلام هو مهمة وسائل الإعلام بينما مهمة السياسيين السياسة، والعملية التواصلية هي إحدى أدوات السياسة مثلها مثل الديبلوماسية والطائرة والدبابة. وجل ما يجب أن تحاول الوصول إليه وسائل الإعلام هو تجنب الوقوع في فخ "الاستعمال السياسي" عبر العمل التحليلي وتعقب المراجع وصولاً إلى المعلومة البحتة وإيصالها إلى المتلقي مع أكثر ما يمكن من توضيحات دائرية تبعد خطر التلاعب بالقارئ والرأي العام وبالتالي السياسة الدولية