تشكل الصورة الفوتوغرافية عنصراً مهماً ومؤثراً في الصحافة المكتوبة، كما هو الأمر في الإعلام المرئي حيث يحل الريبورتاج المصور الحي محل الصورة ليزيد من قوة المعلومة التي يحملها الموضوع. وعلى رغم هذا التماثل في التعبير بين الصورة في الإعلام المكتوب، والريبورتاج في الإعلام المرئي، إلا أن قوة تعبير "الصورة الثابتة" ما زالت قوية الى درجة أن العديد من الريبورتاجات التلفزيونية ما زالت تلجأ إليها في بعض الأحيان لدعم ريبورتاجاتها. ولهذا تفسيرات كثيرة، منها أن الصورة الفوتوغرافية تعبر عن مجموعة عوامل مجتمعة في فترة زمنية قصيرة جداً هي لحظة "قطف" الحدث، ومن هنا تأثيرها في الإدراك التواصلي اللاشعوري لدى المتلقي الذي يعطيها هذا البعد العميق. ويدرك المتعاملون بالإعلام هذه القوة التواصلية التي تحملها الصور، لذلك تتنافس وسائل الإعلام للحصول على أفضل الصور المعبرة والحاملة لمعان يمكنها دعم قوة الوصف والحجج الواردة في المقال المرافق. وهذا ما يدفع المصورين الفوتوغرافيين الى التنافس الشديد للحصول على أفضل لقطة فوتوغرافية وتحت أجمل الزوايا. لكن صانعي الأحداث يدركون أيضاً قوة الصورة، ولهذا يحاولون دائما الظهور في "ديكور" مدروس يستطيعون التأثير عبره على الصورة التي يمكن أن تلتقط لهم، وبالتالي على الأبعاد التي تحملها. وهكذا نرى أن المؤتمرات الصحافية لبعض المسؤولين تكون دائماً في أجواء معينة، فيتم وضع رموز خاصة تحمل في معانيها رسائل تواصلية سياسية أو عامة. وعلى سبيل المثال فإن معظم مسؤولي الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يشددون على وجوب وضع علم الاتحاد الأوروبي إلى جانب علم دولتهم في المؤتمرات الصحافية والاجتماعات، وفي هذا إشارة واضحة إلى رمز سياسي تحمله الصور. وبدوره كان الرئيس ياسر عرفات يحرص، قبل أن يُحاصر في رام الله، لدى استقباله أي مسؤول أو أثناء عقده أي لقاء صحافي، أن تظهر صورة القدس وراءه بشكل واضح بحيث تكون رسالة سياسية تحملها كل الصور والريبورتاجات التي تغطي الحدث. وكانت صورة مسجد قبة الصخرة تزين دائماً عمق الصور المأخوذة للزعيم الفلسطيني. ولعبت هذه الصورة دوراً كبيراً في تثبيت صورة مسجد قبة الصخرة كرمز لمدينة القدس بشقها العربي على الأقل، إلى أن وصلت المحادثات مع الحكومة الإسرائيلية السابقة إلى ملف القدس وكثرت الأحاديث والتكهنات حول ما يمكن للإسرائيليين تقديمه من انسحابات من القدسالمحتلة وما يمكن للفلسطينيين القبول به، خصوصاً حول المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين، الذي لا يظهر في "الصورة التواصلية" التي تسعى السلطات الفلسطينية إلى التواصل عبرها للتشديد على حقوق الفلسطينيين والمسلمين وتعلقهم بمدينة القدس. وجهد مسؤولو الملف الإعلامي في تبرير أن صورة مسجد الصخرة ترمز إلى كامل القدس العربية وأنها تشمل المسجد الأقصى. شوفي حالات أخرى يشكل غياب الصورة تعاملاً تواصلياً لا يقل فعالية عن صورة معبرة. فالمبدأ التواصلي المبني على "غياب الواقع" يستند الى مخيلة المتلقي لتوسيع رقعة التأثير عليه وتعميق قوة الرموز التي تحملها النصوص المكتوبة والأخبار المتواترة حول الموضوع. واستخدم هذا الأسلوب كثيرون من الأثرياء الأميركيين الذين كانوا يمنعون التقاط أي صورة فوتوغرافية لهم مما كان يسمح لهم ببناء "صورة تواصلية" حسب ما يريدون ويساهم في تكوين اسطورتهم. وكذلك تفعل اسرائيل بكل ما يتعلق بقوتها النووية. فهي تمنع الصحافيين بشكل صارم من الاقتراب من مفاعل ديمونة في النقب، ويشكل غياب صور المفاعل قوة تواصلية تدعم السياسة الاسرائيلية النووية المبنية على الردع عن طريق التستر على قوتها، على عكس القوى النووية الأخرى التي تبني سياستها الردعية على مبدأ عرض القوة وبالتالي مدّ الصحافة بالمعلومات والصور عن سلاحها النووي ومفاعلاتها وبعض المنشآت من دون الدخول في تفاصيل أسرارها العسكرية. وتلعب الوسائل الإعلامية دور "آلة الوصل" ميديا لتقديم هذه الصور إلى المتلقي، ومن هنا أهمية اختيار الصور التي ترافق عملية التحرير. ذلك أنه منذ سنوات غير قليلة أصبح تدفق الصور على إدارات التحرير هائلاً، وساهمت شبكة الأنترنت في توسيع رقعة عروض الصور التي تقدم للصحافة في مختلف المواضيع. وحتى بالنسبة الى موضوع واحد فإن آلاف الصور تكون متوافرة لدى مختلف الوكالات المتخصصة ويعود لهيئة التحرير اختيار الأفضل بالنسبة الى زاوية طرح موضوعها ومعالجته. لقد سنحت أخبار الاسبوع الماضي باعطاء فرصة للمس هذا التباين وإدراك قوة تأثير الصورة على المواضيع المعالجة، خصوصاً تأثير اختيار الوسائل الإعلامية على الموضوع المعالج وتلقيه من قبل المستهدف وإمكان التلاعب الموجود في عملية اختيار الصور. فقد ضجت الوسائل الإعلامية بالأزمة التي شهدتها العلاقات بين المغرب واسبانيا بسبب الجزيرة الصغيرة "ليلى"، والتي دامت فترة قصيرة جداً قبل أن يصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بالعودة إلى الحالة التي كانت سائدة من قبل وترك معالجة الأمور لمفاوضات تتم بعيداً عن الأضواء. وما يهمنا في الأمر هو المعالجة الصحافية التي رافقت "الميني أزمة" هذه، خصوصاً جانب التعامل بالصور الذي رافقها والتي لعبت دوراً مهماً إعلامياً لجهل العديد من الناس حول العالم بموقع الجزيرة إن لم نقل بوجودها قبل أن تندلع الأزمة وتقذف بها إلى واجهة الإعلام العالمي. تقع جزيرة ليلى التي يسميها الاسبان "جزيرة البقدونس" على بعد 200 متر من اليابسة أي من الأراضي المغربية تفصل أقرب نقطتين 173 متراً، وعلى بعد أربعة آلاف ومئتين وخمسين متراً 25،4 كلم من مدينة سبتة التي تحتلها اسبانيا . وهي عبارة عن تجمع صخري غير مأهول تبلغ مساحته ما يزيد قليلاً على 130 ألف متر مربع أي حوالى مساحة ملعبي كرة قدم. وتكدست صور الجزيرة التي هرع لالتقاطها مصورون من العالم أجمع، على طاولات رؤساء التحرير وفاضت بها مواقع الانترنت المتخصصة ببيع الصور. وكلها صور مأخوذة من الجانب المغربي لقرب الجزيرة من اليابسة المغربية، وصعوبة التقاط صور للجزيرة من الجانب الاسباني قبل وصول الجيش الاسباني اليها وإخراج الشرطة المغربية منها ، إن لم نقل عدم إمكان فعل ذلك بسبب المسافة الكبيرة التي تفصل بينها وبين سبتة. وقد صُورت الجزيرة انطلاقاً من اليابسة المغربية من كل الزوايا من الشرق والغرب والجنوب. ولكن الطريف في الأمر أن طريقة اختيار وسائل الإعلام للصور التي رافقت تغطية الأزمة كان مختلفاً حسب اختلاف وجهة نظر وسائل الإعلام هذه أو البلدان التي تتواجد فيها. فعلى رغم أن الصور كلها كانت مأخوذة في معظم الأحيان من مصادر موحدة ووكالات مشهورة، فإن الصحافة العربية والمغربية بوجه خاص أفرزت صوراً تظهر فيها اليابسة المغربية وتعكس "المسافة البسيطة التي تفصل بين الجزيرة واليابسة المغربية". بينما غالبية الصور التي ظهرت في الصحافة الأوروبية اكتفت بصورة الجزيرة محاطة بالمياه من جميع الجوانب! وكذلك كان الأمر بالنسبة الى الريبورتاجات الإخبارية التي رافقت تغطية الأزمة. وبالطبع فإن الموقع الجغرافي للجزيرة القريب يعطي حجة قوية للمطالب المغربية، وصورة الجزيرة القريبة والموجودة على مرمى حجر من اليابسة يزيد من "الصورة التواصلية" للحجة والمطالب المغربية. في حين أن هذا ينعكس سلباً على الحجج والمطالب الاسبانية، لذلك اكتفت الصحافة الاسبانية باستعمال الصور التي لا يمكن أن تظهر فيها اليابسة المغربية القريبة من الجزيرة، كما عمد بعض الصحف إلى استعمال تقنية تكبير الصورة بحيث لا تظهر اليابسة. وفي الصور التي لم يكن من الممكن حذف القسم الذي يظهر اليابسة جاءت التعليقات وكلام الصور فضفاضة وغير دقيقة مثل "الجزيرة الواقعة بين الأراضي الاسبانية والأراضي المغربية" من دون تحديد المسافة التي تفصل بينها، والتباعد بين أراضي الدولتين. وقد يتبادر إلى ذهن بعضهم عدم جدوى هذا "التلاعب" بالحقائق الجغرافية، إذ يكفي أن يلتفت أي مهتم بالموضوع إلى أطلس أو كتاب جغرافيا لتبيان موقع الجزيرة إذا ظهرت الجزيرة الصغيرة في الأطلس وفضح المسافات الفاصلة بينها وبين أراض الدولتين، غير أن قلة قليلة من المشاهدين والقراء ستأخذ وقتها وتعود إلى المراجع التاريخية لتتحقق من المسافات والأمتار، والكثيرون منهم الذين يشكلون الرأي العام يتأثرون بالمعلومة الأولى ولا يهتمون بالتفاصيل التي تختبئ وراءها. ومن نتائج التواصل الإعلامي يتشكل الرأي العام بصورة عامة قبل أن تبلوره الأحداث اليومية والمعلومات الوافدة وتعدل من وجهة نظره الإعلام العسكري بعدما اكتشفت الجيوش عقم محاولة منع المصورين من التواجد في ميادين القتال حاولت تقييد حريتهم عن طريق تقديم تسهيلات تواصلية بشكل مرافقة وجولات ميدانية. وتحاول القيادات العسكرية بصورة خاصة الإمساك بخيوط العملية الإعلامية التي ترافق وصول القوات وخروجها من مواقع تدخلها، خصوصاً الصور التي يمكن أن تؤخذ خلال العمليات المؤثرة إعلامياً تدخل أو انسحاب عسكري. ومن أبرز عمليات الإنزال التي تم التحضير إعلامياً لها عملية التدخل الأميركي في الصومال عام 1992 التي يعتبرها بعضهم أنها تنافس أهم أعمال فرانسيس كوبولا من حيث التحضيرات السينمائية التي رافقتها، حيث كانت الفرق التلفزيونية المجهزة بأفضل المعدات تنتظر القوات الأميركية في الليل... حسب الموعد لتصور المارينز بوجوههم المطلية بمواد تمويهية في الليل تحيط بهم جموع من الصوماليين ينتظرون لمشاهدة الإنزال العسكري في ساعة الصفر. وكانت خيبة "التغطية الإعلامية" في مستوى الخيبة التي رافقت الخروج الأميركي من الصومال بعد التنكيل، تحت مجهر كاميرات العالم، بمجموعة جنود وقعت في كمين رجال العصابات في مقديشو. وتمت عملية الانسحاب بعيداً عن الإعلام وأضوائه. ومن النادر جداً أن تفاخر جيوش بانسحابها من مواقعها... مهما كانت الاتفاقات التي سبقتها انسحاب الولاياتالمتحدة من فيتنام عقب اتفاقات باريس مع الفيتكونغ والدوافع التي تحتم عليها هذه الانسحابات انسحاب إسرائيل من جنوبلبنان، لذا فهي تحاول دائما إبعاد الإعلام، خصوصاً المصورين من ساحات الانسحاب ومنع التغطية الإعلامية لها. وواجهت القوات الإسبانية الرمزية 75 رجل كوماندوس مشكلة إبعاد المصورين خلال انسحابها من جزيرة ليلى بعد نجاح الوساطة الأميركية، فهؤلاء كانوا متواجدين على اليابسة المغربية انما على مسافة بسيطة جداً ويمكنهم تغطية الانسحاب وقصف الجنود برشاشات من الصور. وكانت القوة الاسبانية في وضعية شبيهة بوضعية قتالية. فالمطلوب منها الانسحاب من موقع مكشوف "للعدو الإعلامي" من دون التعرض "لنيران كاميراته"، فما كان من الكوماندوس الاسباني إلا تنفيذ مناورة يعرفها جيداً رجال الكوماندوس: الانسحاب تحت غطاء الدخان. وهكذا كان. فقد فشل المصورون في التقاط صور لرجال القوة الإسبانية بسب إطلاقها قنابل دخانية حول مواقعها لتغطية انسحابها