"يوم تهدم غريزة الضعيف، يرتد على نفسه الكلام، تدب حافية الكراهية ولا تدرك طيرها الضائع" ينظر الشاعر علي العمري في مجموعته الأخيرة "لا فوق لمثلك" ملياً في وجوده ككائن يقف في مواطئ الظلمة والتلف. يتملى ذات كائنه ويدوّن كل ذلك في كتاب شعري متميز في القيمة الفنية، وفي القدرة على الكشف والصدع والبيان. تعود نصوص الكتاب بالقارئ إلى اتساع العالم وضيقه في آن واحد. تسائله ككائن وتطرح عليه أسئلتها وكشوفها ولا يقينها.لا تشير إلى زمان أو مكان أو حياة بعينها أكثر من حياة كائن يعتزل. نلمح منذ البدء في الكتاب وجوداً ملحوظاً لصيغ النفي، فهو بعنوان "لا فوق لمثلك" وعبر النفي تهدم نصوص الكتاب، ترفض، تزعزع، تتلف، تمحو... وإضافة إلى حضور لا المباشر في ثلاث من عناوين قصائد الكتاب، هي لا فوق لمثلك، لا، وإلا فلا هناك عشرات من صيغ النفي تتخلل القصائد وتسيطر عليها أسلوبياً... هذا النفي هو طرد لحالة الثبات والركود والسكون، لما تعارف عليه العالم "خارج الذات الشاعرة". كما أن الأفعال المبنية للمجهول تحضر بقوة في نصوص الكتاب، ولو تتبعناها في بداية نص واحد هو الوحش عاجز عن الرضا لوجدنا "يؤخذ - تُخطى ? تُفك ? تُترك ? يُخطأ - تُسكن ? تُعرف ? تُسقف - تُلمح ? تُدرب- تُغلَّق". وفي المقابل فإن أسماء الفاعل هي التي توجد مقابل هذه الأفعال، وليس غريباً أن يكون أول هذه الأسماء هو "الغائب" ويليه "الكائن ? الفاقد ? الخالق ? الصائد ? الساهر ? الزائد ? الناظر ? النابت ? الهابط ? السالي ? القارُّ". وتكاد نصوص المجموعة جميعاً أن تتوجه لقارئها بضمير المخاطب، ومن ثم فإن أفعال الأمر ستكون جديرة بالملاحظة في هذا الكتاب. من خلال النفي يؤسس الشاعر رؤياه لذاته ولما هو كائن حولها. أما العالم وتفصيلاته فيكتفي بإحالته لمجهول، فيما يكون ضمير المخاطب هو الأقرب لطبيعة النصوص، التي تتأمل فيها الذات عالمها ويقينياتها، في حوار طويل مع شطرها المنغمس في هذا العالم. تبدأ النصوص في الكتاب بنص" دقت اللحظة"، حيث يغادر الشاعر غرفته ويكون حكاية المنتظر أسفل الشارع. يغادر وجوده ككائن له أبعاده، مكانه المحسوس. ليصير مجرد حكاية". يدخل إلى اللغة متتبعاً كائناً آخر يشير. والإشارة قد تأتي من أزمان أخرى، من ذوات تالية أو سابقة أو مجردة.لأنها ستحمله من الشارع إلى الجبل، حيث الكشف والرؤية. من الحياة إلى الإطلالة المتسعة. بين دقة اللحظة ونهاية الكتاب حيث اللحظة، نعيش تجربة هذا الانفصال الذي عاشه الشاعر في سبع عشرة قصيدة، معظمها قصير لا يتجاوز الصفحة" وراء جدار ? على الشفا ? لا ? على التراب ? اليتيم ? المعجزة ? المائل ? على الأذى ? النجاة ? لو أمكن ? الشريك ? حفار ? وإلا فلا ? الزائر ? بلا باب" وقصيدتان طويلتان هما"لا فوق لمثلك ? الوحش عاجز عن الرضا". في القصائد القصيرة يلبس الشاعر ? الحكاية أقنعة عدة ليطل عبرها، فهو اليتيم حيث" لا تكفي الرأفة الباطلة، ولا الحياة تطرق باليدين بعدما تُحرس الوجهة"،" يمشي خافضاً العين، يوم لا تنفع الفكرة ولا يقتلع العالم من سراج اليتيم"... وهو" المائل" الذي "ولو مال يأخذ بما يلزم" و" لا يدري السبيل فيما سوى الميل"... هو حيناً "المقهور" في "على الأذى" وهو "الضعيف" في ذات النص الذي "يوم تهدم غريزة الضعيف، يرتد على نفسه الكلام، تدب حافية الكراهية ولا تدرك طيرها الضائع". هو حيناً "الماكث" في "النجاة" وهو "الشريك" في نص يحمل ذات الاسم "أجيء حتى أهزها الهدأة وأردم كل ملاذ أبصرته في كلامك" هو "حفار". لا يلزمه أن يحفر الحفرة فكل ما يحتاج إليه هو أن يقولها. أليس هذا الكتاب كله حكاية؟ "قل الحفرة وعاجل المسحاة في المغلق حين تراه بارداً الوقت" هو الزائر الذي ينهره الشاعر بغلظة :"خذ الإياب ولم عدة الانتظار". في قصائد أخرى يؤشر الشاعر على عالمه، الذي انقطع عنه في هذه الحكاية عبر نظره في ذاته أيضاً، الذات التي قوامها الكلام واللغة، يشير للغائب "الغائب بالقبضة مهزوزة على الشأن الذي انسد" في "وراء جدار" حين يقال المعنى على شمعة وراء جدار. يستبطن الشاعر علي العمري مجدداً من على شمعة وراء جدار في المعنى: "ولا معنى، لأن القول يحفز الدلاء يصعدها ناشفة" وبعد أن يكون قد صعد الجبل وحامت عليه النسور، سينهزم في وضوح "أن تهوي إلى وقتك الراكد في التحت أخف، فهي الحفرة، ولا فوق لمثلك". عدا اللغة حيث التأمل والنظر في المعنى هناك الخطوة، التجربة لكنها تظل كما هو حال المعنى والسلوان والغياب ناقصة أبداً "الخطوة ولو تكشفت القفار وبان في جوفها المعبر يلوح، لا تخطى جزافاً ولا تأنس، تمشي عدوة خطوها،مهابة الخطأ، خوف تنسحق النجاة على سدة السباع". خاتمة الكتاب كانت اليقظة حيث كان السلام خروجاً من هذه الحكاية. إنها حكاية عالية فتحتها الكثير "الطير يسهر، الكلمات تأكلها الأبوة، اللحظات أحجار على الروح". أما هذا الكتاب ? الغياب وفي ذات الوقت الكتاب ? الكشف فإن الشاعر سيغادره منشداً: "كنت حارسة الرغبة، من يرأف بالعين في الشدة، كنت النحلة تبتكر في الظلال الشهوات، اليقظة الأمينة. والآن السلام يا آخر ما يهدم في بصيرة اليتيم".