الكتاب: تخت شرقي شعر الكاتب: شربل داغر الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، عمّان 2000 الكتابة، وكتابة القصيدة في "تخت شرقي" لشربل داغر، تردد صريح بين الشعر والشعري في محصل هذه القراءة البدئية حينما تلوذ القصيدة بمكر اللغة المستعملة الموروثة، حيث منطق الجملة النحوية يُجوِّز كل شيء. ودلالة الشعر "تدلال" Signifiance لا يزال الى حد الآن محل جدل، وقد كان، بين واصفي المعنى الشعري ومتأوليه، بين من يبحث عن "السر" في اللغة من ينصب اهتمامه النقدي على "سر اللغة". ودلالة الشعر هي التردد اللا - واعي أيضاً لحظة تكتب القصيدة شربل داغر، كأن يستحيل القلم ذاكرة أخرى، هي النسيان، تسمية مخاتلة للفرار ب"تاريخ الذات" من سلطة التدجين الى ممكن وحشي المعنى، وتعتيم المضاء بالقصد، في اتجاه، سعياً الى انارة جوانب غامضة في سراديب الروح المنطوية على ذاتها خوفاً من انكشاف مخادع أو احتجاب كاذب، في اتجاه آخر. فالقصيدة بهذا المنظور في "تخت شرقي" بدء، مشروع للكتابة، "أصل منفتح"، حيث اللحظة زمن، والزمن لحظة تُختصر. يطالعنا التصدير، نقرأه، ثم نتخطاه الى القصائد، ولا نعود اليه. وكأننا بذلك نخشى السقوط في فخ التوجيه، فنبحث لنا عن بكر السبيل، عن الوهج الذي به تتعالق روحان وتتنافذ قراءتان، إذ الكتابة في بعدها الأول قراءة، والقراءة في بعدها الأول أيضاً كتابة، وفي البدء كانت القراءة ولا تزال. فما كتبه شربل داغر شعراً في تجربة "قصيدة القصيدة" هو القراءة، ذلك الصدى المدوي في أقاصي الروح حوّله الذهن والقلم من ذبذبات مبهمة مستعصية الى مداد، ومن "فرس جموح" في لحظة تشكل معنى ما الى مُهرة تسابق ريح المعنى ولا تستكين. فاللغة التي ينشد شربل داغر بلوغها في "تخت شرقي" هي الوجه الآخر للغة قبل حدوث "الانفساخ" أو "الانحراف" عن الوجه الأول في "غدير" المرآة الأولى باكتساب مساحيق المعنى الحادث منذ فاجعة الفطام في تاريخ الكائن وصعوده من أسافل الحس والشهوة الى أعالي القيمة والمثال فاجعة الفطام تتكرر في حيوات الأفراد، وارتعاشة الوجه في مرآة اللغة تذكير ب"عالم المشيمة" وانذار بمصير الضياع الأبدي، ولكن الشعري يظل بالمرصاد لخطر النسيان الكامل. واللغة التي يروم شربل داغر بلوغها في "تخت شرقي" هي ما قد لا تستطيع اللغة قوله ابتداء، أي ما تستعيره لفظاً ولا تستعيره دلالة، ما يُعَبِّر عرضاً في اتجاه وما يرقى الى مستوى اعادة التسمية في اتجاه آخر. كالتناص الشعري المختلف الذي يصل بين أطراف عدة في اعلان الانتصار لمشروع جديد لكتابة القصيدة العربية ينسف الحدود الفاصلة، التي وضعها فقهاء اللغة والنقد قديماً بين الشعر والنثر، بين نثرية القصيدة أحياناً وشعرية النثر أحياناً أخرى، بغية تضليل القراءة وتوحيد المتعدد وتسكين المتحرك. وإذا معنى "فقدان الذاكرة" في تصدير الديوان أي مقدمة الشاعر ينكشف عند استقراء النصوص الشعرية ومحاولة تمثل المشترك الدلالي بينها استفحالاً للذاكرة مخافة السقوط في كتابة الإملاء بما ينتزع من الشعر وهج المعنى الممكن ويسكنه ضرباً من التكرار المنمط، على غرار ما تستلزمه القصيدة العربية منذ استبداد "الفرع" ب"الأصل" وغياب تعدد الأشكال في "استواء" القواعد وثبوتها: فلا انحناء، ولا انطواء، والمغامرة جريمة، والاختلاف خيانة، والدهشة جنون، والجنون كفر، والكفر تفرد، والتفرد يتم، تمرد على الجماعة، عصيان في نظر سلطة الناقد، ومن يدعمه في الظاهر والخفاء، يستلزم هدرَ دم القصيدة - اللعنة. وما "استفحال الذاكرة"، إذاً، عكس "النسيان"، في "تخت شرقي"، إلا ضمان للاستمرار في البقاء أمام سَدَنَة الفكر الواحدي ومواصلة الاستمتاع بحق ممارسة اللعب بالحروف في مغالبة ثقافة التراكم و"نسيان الكينونة" والانتصار للتراث الآخر الطريد المحكوم بالغبن والمطاردة والحصار. وكأن "الصدفة"، التي بها تُحد الكتابة تقريباً، تسمية لما يظهر عبوراً، فيقتنص الشاعر بعضاً من الوهج الهارب بالأصوات المتخيلة، تلك الحروف المستعارة تفترض تعالقاً سياقياً حينياً بين "كتابة القراءة" و"قراءة الكتابة". وكأن "الصدفة"، باعتبار "الشاعر صياداً في ماء الصدفة"، على حد عبارة داغر، تسمية لما تعجز الذات الشاعرة عن "تمعينه" من المعنى لسرعة حدوثه انطفاءً أو بعضاً من اشراق عند تمثل فعل الكتابة المتردد بين امكان التعبير باللغة وبين استحالته. أليست "الصدفة"، هنا، تبريراً للقراءة بغية تأكيد الصدفة ذاتها أو الإلماح الى نقيضها الذي هو المعنى مشروعاً دائماً للفهم ومجردَ إمكانٍ للحدوث؟ ان الكتابة في "تخت شرقي" حكاية شعرية تستبق المعنى الممكن وتختزل اللحظة بما يفقد الزمن زمنيته المعتادة فتتهدم بذلك منطق التسمية المعتادة وتفكك فيزياء المكان بمكانية القصيدة المفترضة تخييلاً وتبدد منظومة التتابع والتباعد والانعكاس بنظر باطني لا يقاس بالرائي والمرئي وبال"هنا" وال"هناك" و"الآن" و"الما-بعد"، وانما هو النظر في ما يمكن أن يُرى، وهو الذي لا يرى إلا بعين البصيرة لحظة تتداخل الحواس ف"تسمع العين" و"ترى الأذن": "استباق شغوف /لنظر رقراق" ص 23 وكما تحرص الذات الشاعرة على النظر داخل الرؤيا تحيل الكتابة على كتابيتها بدلالة الاستباق المتكررة: "يتقدمني طرق لساني /مثل مجذاف /يلعق توق الوصول" ص 26 - 27. وكأن مرادف فعل الكتابة، وجوداً، هو السفر الذي يليه سفر بغية الفرار من المكانية بمزيد الإيغال في المكان، شأن الرغبة التي هي بمثابة التوق المستعاد الى تحقيق رغبة ما تنشدها الذات ولا تدركها، فيتألف لذلك الوهم والحقيقة، الرغبة والنقيض، اللغة وبُهْمة الأشياء، حيث العبارة استحالة التدليل على المعنى الذي يمكن أن يكون. ونتيجة لهذا الوضع تتكرر معاني السفر أو حركة الاستباق خشية السقوط الكامل في دوامة استحالة المعنى. وإذا الكتابة، شأن الحركة بدلالة اللغة أو الذات الشاعرة أو الذهن المفكر، مغالبة لنعاس قد يفضي الى ضجعة أبدية، أو ركود يليه انحباس كل الآفاق، أو تكرار معنى هالك ينجر عنه استبداد كامل للفراغ: "لهذا ألغو وألغو ولا أخجل من الدوران" ص 49 فليست "إقامة الشاعر" في قصيدته إلا بعضاً من اقامته في "زمن موقعي"، و"الدازين" بلغة هايدجر، متحول، يظهر في سلسلة لحظات تتناسل من بؤرة "تاريخ ذاتي" Historial، على غرار معنى "الإقامة في الحركة" أو "الظعن في السفر": "أقيم في سفرها وأبارحها كي أعود اليها" ص 54 - 55. وبهذه الصورة يزول الحد بين الحركة ونقيض الحركة أو الوجه الآخر للحركة، وبين الاتجاه والوجهة، وبين السالف والحادث، بل قد يضحي السالف حادثاً والحادث سالفاً، وبين الواحد والعدد حينما ترتبك النواة الدالة على المفرد لتسفر عن حركة انقسام في الداخل يبدد واحدية الإسم والشيء، والذات والمعنى في عدد لا نهائي من امكانات المعنى. وكما تتردد لغة الشعر بين الصوت والصمت، خوفاً من صوت صامت بدلالة الشعر وصمت غارق في العتمة حد تعسر أي امكان للتدليل، تفر القصيدة من أسر الضمير المفرد المتكلم ويخترق الشعري نواة هذا الضمير ليبدد انتظامه المعهود في ماضي القصيدة العربية وبعض من راهنها. كيف يمكن للذات الشاعرة في قصيدة شربل داغر استعادة "جوهر الأصل المنفتح"؟ كيف الرجوع الى "جينالوجيا" القيمة الشعرية قبل انحراف الكلمة، والكلمة الشعرية تحديداً، عن الصوت - الصدى الأول نحو تعبيرية السنن والقواعد المتكررة؟ كيف نكتب الصمت بحثاً عن امكان آخر لكتابة جديدة تعيد ترتيب الأشياء في منظومة "التخت الشرقي" وفي بنيان اللغة العربية بمنظور جمالي مختلف؟ الواحد في قصائد شربل داغر هو ذاك الذي سرعان ما يظهر وسرعان ما يحتجب، والأنا حركة دائمة للانقسام بما هو أبعد دلالة من الانفصام، إذ يفضي العدد الى تكاثر أشد إيذاناً بالانقسام: ضياع في مشاهد الكثرة ووجوه وأجسام وضمائر وتواقيت واحتمالات... وإذا "أنا"، في زحمة العدد، "أنوات"، و"هي" نساء و"نحن" ضمير متكرر، قناع للظهور حيناً والاختفاء أحياناً، وال"أنا" أنت و"الأنت" أنا، فلا حدود تفصل نهائياً بين شتى الضمائر. كذلك هو الفعل الشعري زحمة أفعال، والحركة تواصل وانفصال. وبهذا الاستخدام يستبد فعل التفكيك بجميع الأشياء، وأولها الجسد - الذات الذي ينقسم تبعاً لنسق التركيب اللغوي بما يشبه عناصر هذا البناء كالحروف والمفردات والجملة في المنظومة النحوية: "قبلاتي مفردات / وجذعي جملة /يُلح على الحروف إلحاحاً /هو نفسه /وغيره /في آن" ص 81. وكما تنذر مغامرة التفكيك باضمحلال نواة الذات ومختلف انساق المعنى الممكنة والحادثة تستبد الشهوة بالجسد والمكان واللحظة وجميع الأشياء الحسية والمتذكرة والمتخيلة في غمرة عشق جموح للحياة والكتابة معاً، فتمارس الذات بذلك، شأن الجسد، لعبة الانقسام بحثاً عن سبل ممكنة تفضي الى التخوم القصية للروح بعيداً عن أصفاد اللغة وأثقال المعنى الموروث: "شهوات كامنة وعطر محفوظ ... بياض يدكن مثل شهوة تنقضي" ص 40 - 41. وكأن الكتابة بهذا العدد شهوات حدوثٌ بين حدين: إمكان للشهوة في المتعدد الكامن داخل قوى الجسد والروح وشهوة تنقضي في انتظار شهوة أخرى، كاللحظات تتناسل من فراغ، وتهلك الواحدة تلو الأخرى من غير أن يتوقف الفعل: "أدور وأدور حول حواف جسدك نحاتاً وأُسويه بملامساتي خزافاً، رافضاً طامعاً نشر الجسد بما تحمله أجنحة الشهوة فيه" ص 68. وكما تذوي الشهوة بفعل الانقضاء تنشأ في الأثناء، تقريباً، شهوة أخرى عند تردد فعل الكتابة ومعنى الكينونة بين الخفة والثقل، خلافاً لسيادة الخفة على الثقل، في "كائن لا تحتمل خفته" لميلان كونديرا، إذ أنه، هنا، أثقل من أن يستلزم له نقيضاً الذي هو الخفة، والشهوة وزر ثقيل أشد وطأة من ثقل كونديرا لاستبداد المكبوت المطلق الحرية. فيتحقق، نتيجة لهذا الوضع، الانفصام في عالم شربل داغر الشعري بين الشهوة والرغبة، بين الثقل والخفة، ليظل الكائن مدفوعاً بالرغبة، مشدوداً الى حبال الشهوة، يتجاذبه تاريخ الجماعة وواقع النفس التواقة الى الحرية والانعتاق باشتراك الآخر ممثلاً، بالخصوص، في الأنثى - الرمز المتخيلة: "لهذا قد يكون الرقص شكل تحققنا /الأمثل إذ يؤدي ثقل الشهوة /الطافحة منا الى ان نصير خفافاً بأجنحة الرغبة" ص 72. وإذا المعنى في قصائد شربل داغر مزدوج بدءاً، متعدد انتهاءً، لحظة القراءة. لأنه، وان حافظ على الشكل المنطقي النحوي المعتاد في عمل الإسناد، مشروع للرصد ومحاولة الاقتناص بأسلوب استعاري لا يعتمد قناع الإسم ومرجعية السيرة كتوظيفات التورية في عديد التجارب الشعرية السالفة، وانما هو قناع اللغة ذاتها بفضل الدال المتداول عن الدلالة الممكنة بفعل الاحتجاب الرمزي وانفتاح أفق التداول. صدفةٌ أو بعضٌ من الصدفة في ملامسة الكتابة ذلك الوهج - الصدى. وصدفة أو بعض من الصدفة عند تعالق اللحظتين: الكتابة والقراءة كتعانق نداء الأرض وتوهج السماء في جوهر العقيدة "التاوية". ولكن للشهوة أحكامها وللرغبة معوقاتها الماثلة في الاتجاه الآخر المعاكس لها، شأن الحرية وأطواق الهلاك وثقل أصفاد الذاكرة تشي بفاجعة الفطام الأول في زمن الانفصال عن فرح المشيمة البدائي وفاجعة الفطام الثاني عند "غدر" الأم لوليدها وانتصار قيم الجماعة والذكورة والمطاردة والرقابة والتدجين على فردية الكائن والأنوثة والسيولة والحرية. كذلك هو النص الشعري في "تخت شرقي"، مسكون بثقل الذاكرة، وان لاذ الشاعر ب"النسيان" وتلمس آثار المعنى الهارب في العبارة ذاتها، كما تندس في ما - وراء الدال وتفيض داخل فجوات الظل الهارب من معناه.