شعر قاطع كفأس، وأوّلي، ويشبه شفرة تلمحها خطفاً في منام، ومتبدّد مثل قبضة مياه مالحة، وهذياني ومرعب ويعود بك الى ما يشبه الكهوف وحياة الصقيع والجبال او البحر، هو شعر عباس بيضون في مجموعته الأخيرة "لمريض هو الأمل"*. ويكتب قصائده في ما يشبه الروباص الشعري، وهي حال ترجع بالشعر الى آليته وبدائيته، بل الى حركته اللاواعية، مع ما تنطوي عليه هذه الحركة من لعثمة الخبط في ظلمة، حيث كل خطوة محفوفة بخطر الارتضاض، وحتى الموت، وحيث لا نستطيع تخمين خط السائر في النوم الى اين، وكيف... لذا فإن ثمّة هلعاً هائلاً يرشح من نصوص هذا الشاعر. وفي كل مرة تمسك فيها بيد النص خوفاً عليه من الالتواء او السقوط عن زيح سيره الدقيق، الذي لم يُرسم له اصلاً، بوعي، تراه يفلت منك بمراوغة حقيقية، بل بحيلة متابعة عصفور مريض هو الأمل لسيره، او لطيرانه حتى بلا اجنحة، فوق بحر "فقدَتْ امواجه عُرفها"، وصارت "محض شهيق"، كما يقول الشاعر، والبحر نفسه بات "عمقاً فقط"، "والذين يلعبون فوقه لم يشعروا بغيابه". وتشمّ روائح البحر في نصوص عباس بيضون هو ابن مدينة صور، لكنه بحر اول مهمل وغير مدجّن. بحر خام تعبق منه روائح وخمٍ وسمك "وحقول يُود تفوح من سرّة الظلام"، وتتحسّس لديه المحارة وهي في الطمث، ورائحة "صيدلية الحيتان"، والحركة البطيئة للحشيشة وهي تنفتح وتنغلق، وطعم الجذور الغامضة النيئة، والأسماك "التي تمرّ قرب الأفواه"، "والملح الذي ينقف في الحجرات"، فقد تبدّد بحر صور من جغرافيته، وانحلّ الى اجزائه الاصلية، ثم غار في سويداء الشاعر، وتحوّل الى ما يشبه الأحاسيس الأولية الجسدية له، في مسامه، اطرافه، أنفه، عينه، و"الأسماك التي يطبعها قلبه". وهي هنا روائح وشقوق وسرطانات وهدير. ثم اكثر، صار البحر يتدفّق فيه من خارجه أي من خارج البحر: "البحر ليس هنا، لكنه بطريقة ما، على الشرشف المفروش دون ثنية واحدة، لم يحتج الى هدير"، "شعرتُ الأمواج تتدفّق من حنفيّة المياه"، ويبقى منه هذا الهول البصري: "الغيلانُ لا تزال هناك، لم يسرّحها احد من الحفرة". قصائد البحر في الديوان، مجموعة تحت عنوان "امواج"، وهي مكتوبة عام 1984. وفي تجربة تخطيط لإحدى القصائد، وهي بعنوان "موجة" ص59، بالإمكان رسم بيان النص كالتالي، وتقديم ما يشبه الخطة .. لولادته وتغيّراته: الموجة - حركة تقلّب الموجة - محو فقدت عُرْفها - تحوّل الموجة - شهيق محض شهيق - تحوّل البحر - غياب - تحوّل البحر - رائحة اخرى - تحوّل الماء - جفاف - تحوّل فمفاتيح هذا النص البحري ثلاث كلمات: الموجة، البحر، الماء. وهي عناصر حركة وإحياء في العادة، إلا ان تحوّلاتها في النص تتجه بها نحو الفقدان، بل المحو. ولا يُثْبت الشاعر منها في آخر القصيدة، سوى شاهد ذي انطباع بصري ملتبس "البركان الطفل يضحك فوق الأمواج". من هذه الثنائيات التي ينطوي عليها النصّ ]المحو والفقدان لعناصر البحر من جهة /وثبات المشهد الاخير منه، بالمقابل[، تتولّد من الرسم حصيلة ارتجاج النظر الى البحر كشخص هائل وطفل /راسخ ومتحلّل /باق وزائل. وهو ما يتكرر مثيله في نصوص عباس بيضون في ما نسمّيه التباسات الحال والعبارة لا ننسَ ان عنوان ديوانه هو "لمريض هو الأمل" ... وجمع البدائية مع اللحظة الاخيرة للتطوّر، كثنائية لا تنتهي من التباس الحال والعبارة، يجنح ببعض النصوص لديه في اتجاه كهفيّة ما، إلا انها كهفيّة معاصرة، لكأننا امام ما سمّاه هنري ميلر "الكابوس المكيّف"، وفاكسلاف هافل "الكهوف الإلكترونية". إن لدى الشاعر ضغطاً ثقافياً يضغط على النصوص، لكن لديه، من جانب آخر، حال من التنصّل او التفلّت يشدّ بنصوصه الى البدائية. وهي بدائية يحملها معه، تلازمه وهو يقيم في الطابق السابع من المدينة. يقول في قصيدة "الجوَر العالية": "جورتان في الطابق السابع، إحداهما ملأى بالحفيف، الأخرى بالنوم، وأنا احاول دون كلل ان افرغ احداهما في الأخرى، افعل ذلك حتى لا اتعب من السكن في الجوَر العالية". ولعله يصف عالماً كهفياً ما، او عالم صقيع ناءٍ عن المدينة، بل عن المدنيّة. وكلاهما: الكهف والصقيع، ينتابان الشاعر وهو في وسط الحياة، بل في مجريات المدينة. وقصدة "الفتحة" تمثّل هذه الناحية تمثيلاً فذّاً وهي من قصائد "القصّ"، وردت في القسم من المجموعة، المسمّى "حكايات". فالفتحة كناية عن منفذ في فخّ جبلي، ثغرة في مغارة في وسط الجبال انها مغارة الحياة نفسها، ينام على طاولة فيها اربعة رجال، وفوقهم يتضخّم خيال طائر محلّق مؤثرات مشهدية من الجبال، وهم لا يشعرون في ما يشبه السهو. تتدكرب الحجارة من حولهم، ويتحركون الى الفتحة فتحة النجاة. وبجانبهم ايضاً سرطان نائم، عينه مفتوحة على الفتحة نفسها ليس الوضع البشري المعني بالمغارة بل الكائنات كلها. هم ينامون في ما يشبه كفن الثلج بياض الشرشف الذي يعركونه، ويزحفون بطاولتهم نحو الفتحة التي لم يستطيعوا الوصول اليها، بل وقفت طاولتهم بهم على الحافة، ووقفوا هم ايضاً، وما زالوا يَزِنون الخطوة التي تخرج بهم من النعاس. هذا السرْد لسرديّة قصيدة "الفتحة" يتناسب مع ما ينتفي في اصلها من غناء او إنشاد. فقد قطع عباس بيضون مع الإنشاد، وما يستدعيه من حنين. يقول: "ايتها الغيمة، منذ متى لا تشبهين الشعر؟". لا مجال لوزن في ما يعيش فيه الكائن من مكعّب الجليد المقفل. والأحدوثة في القصيدة رمزية، لكنها تكتفي من الرمز بأدنى إشاراته، وتتقشّف في نقل ما يحيط بهذا الوضع الكهفي الحصار الجبلي لأربعة من الرجال وسرطان، من تعليق او مؤثرات وجدانية وتأمّلية: تكاد تكتفي من المشهد - الفخّ بعرضه، او تتركه هكذا معلّقاً بلا مساند. وغالباً ما ينقل عباس بيضون في نصوصه ما يمكن تسميته "تصبير المشهد" او تجليده، تحنيطه. فهو يأخذ في قصيدة "أقلب كلمة الخوف"، من انقطاع مركبة في الصقيع بؤرة لحكاية القصيدة. كل ما يدور حول الانقطاع المخيف يثبّته يجلّده: "الصاعقة تحفر اسنانها في الثلج، الحفر في البرد يتوقف، الأيدي المجلّدة متروكة كمهدّات كبيرة جنب اوراق اللعب المتجلّدة. الحيطان مصبّرة. كسوف تام. الأعمدة محنّطة، والشجرة ... وثمة من كان يدقّ الجدار طلباً للنجدة، انما لم يشعر به احد: "انهم كانوا يدقّون الجدار طيلة الوقت، بدون ان يخرجوا من الحجر والبرد". والشاعر كراوية ومروي عنه، كسارد وبطل معاً ينهي بقوله: "أقلب كلمة الخوف وأمضي". فمحور النص "الخوف"، وأداته وصف انقطاع في الصقيع، ولا شيء اكثر من ذلك، وبأدنى تدخّل، وبلجم اندفاع التأمل والتأسف والتفجّع، نرى اشارة طفيفة تكفي لحشد المشهد المأسوي بكامله "اقلب كلمة الخوف". ففي مكعّب الصقيع هذا، المحشور فيه الكائن، حتى الصراخ يجمد. وفي ما يشبه هذا المكعّب ايضاً، يضع الشاعر نفسه او "الكائن" في قصيدة "اربعون". هنا مشهد انسان موضوع في مربّع، ومن اربعين عاماً وهو يتأمل شيخوخته. يمكن اتيان قصائد عباس بيضون من توقيعات مختلفة فهي موزعة على الاعوام التالية: بحسب ورودها في الديوان: ضد نصيحة رامبو عام 1997، نقوش عام 1994، امواج عام 1984، حياة لم تعشها عام 1985، حكايات عام 1984، توقيعات، وهي بلا تاريخ. لكن هذه التوقيعات ليست مراحل زمانية بمقدار ما هي مساند امكنة وموضوعات لأحوال وأساطير مبكرة ومتمادية في الشاعر. ويلاحظ عدم التسلسل الزماني في اثباتها. فهو في الحقيقة، كأنما يكتب لعالم غياب موت ويصنع اساطير لحيوات كثيرة اخرى انما كمن ينسى حياته... كمن يتذكر "حياة لم يعشها" كما يقول. بل لعله ليس ثمة من امل البتّة، في ان تعاش الحياة. والحال هنا اكثر من يأس وأصعب من أمل، اكثر تعقيداً. فاليأس يعطي في النهاية وزناً للأشياء والكلمات. اليأس يرتّب الأشياء او يعيد ترتيبها، كالأمل تماماً. لكن، ليس اليأس ولا الأمل هما اللذان يحرّكان دخيلة عباس بيضون ونصوصه. ويصعب اجمال ما يحرّك دخيلته بكلمة واحدة. ثمة في نصوصه خوف، بل هَوْل يدخل الاشياء والأحاسيس في بعضها، بل يهاترها، بل يلغيها. فهو في قصيدة "ضد نصيحة رامبو"، يمجّد المهمل "كرجل صادق وبسيط وكامل كزرّ"، كما يقول. ثم ... لماذا الانتباه للعبور بنعال هائلة من ريح رامبو. اي ما نفع العبور والنعال الهائلة والريح؟ ولحياة من؟ لأية حياة؟ تُتناوَل بملاعق القهوة كما يقول إليوت. ولماذا "تقول كل هذه القمامة من حياة لم تملأ علبة كبريت. كل هذا السير ولم نُبلِ حذاء واحداً". فالانتباه للتفاهة أولى بل اجدر من انتباه طال ولم يكن مجدياً للضخامة "لم يبق أحد، والترس الملقى أرضاً سيعود صاحبه حالما يبول خلف الجدار". وهذا الطحن للترتيب العقلي والقيمي والبلاغي لمواد الحياة والكتابة، يعفي نصوص عباس بيضون من ترتيبات قديمة، وأنظمة معهودة. ذلك يخوّله ان يقرن الأحلام بالبطاطا، مثلاً، كما في قصيدة "احلام وبطاطا". وهنا لا تنحدر اللغة من اصل موزون او عاقل بل من منثور الغرابة عينها، ما يجعله يكتب كما لو كلامه طالع من جوف هذياني او انفلات يطرح كل شيء مبقوراً أمامنا ومبعثراً على الصفحة. وغالباً ما تنزّ من نصوصه فضلات كلام مرتبكة وسوداء ما يذكرني بأنطونان آرتو، ما يجعل حتى قاع الكلام او سقفه وهو الخوف او الألم هو بدوره مصدّعاً. وكلمة أمل التي تتردد في اكثر من نص وهي تنطوي على جناس شبه تام مع كلمة ألم - وقد تنبّه نيتشه لتلبّس الأمل بالألم - تنتهي لتكون نفسها، كما يكتب "بلا سعر"، "الألم مجرد توقيع" كما يقول، لأنه يصنع بوفرة ومنقوعاته كثيرة. ونحن ككائنات منقوعة في الألم، ما علينا سوى تشرّبه في مسامهن، ببطء، بدأب، كسمّ، كمرض هو الأمل. صدر الكتاب عن دار المسار - بيروت، 1997.