أعادت الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان تسليط الضوء على المفاعيل التي ما يزال يولدها الصراع العربي - الاسرائيلي والمخاطر التي يفرزها. مثلت هذه الحرب محطة من محطات الحروب التي خاضتها الدولة العبرية منذ تأسيسها. سقطت على واقع عربي يتسم بالعجز وانعدام القدرة على التأثير في مجرياتها. طرحت سؤالاً تكرر منذ العام 1982: هل يمكن القول ان هذه الحرب هي آخر الحروب الاسرائيلية - العربية أم هي إحدى جولات هذه الحروب؟ وما الذي يوحي باستحالة الجزم بعدم تجدد القتال؟ مما لا شك فيه ان الصراع العربي - الاسرائيلي ما يزال مفتوحاً بأشكال مختلفة، منها الساخنة في الأراضي الفلسطينيةولبنان، ومنها الباردة في سائر الأقطار العربية المحيطة بفلسطينالمحتلة. منذ العام 1967 وصدور القرار 242 الذي طرح تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي تقوم على مبادلة الأرض بالسلام، مارست اسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة سياسة اغفال كل أشكال التسوية الممكنة والعادلة ولو نسبياً. أصرت على سياسة قائمة على فرض السيطرة الكاملة وإخضاع شعوب المنطقة وفقاً لأهداف المشروع الصهيوني في الهيمنة. وضعت اسرائيل تعريفاً للسلام يقوم على الاستسلام لشروطها ومطالبها. لم تشذ الاتفاقات التي وقعتها مع مصر والأردن عن هذا السياق. أدى انسداد شرايين تسوية الصراع العربي - الاسرائيلي الى تفاعلات داخل المجتمعات العربية، كان صعود ألوان متعددة من المقاومة المسلحة أحد نتائجها. برزت تنظيمات مسلحة ذات أبعاد ايديولوجية دينية اتصفت أعمالها أحياناً باللاعقلانية بمقياس حساب الكلفة التي يدفعها الشعب من حياته واقتصاده ومجتمعه. تشكل الأراضي الفلسطينية اليوم ميداناً رئيسياً لهذه الوجهة. على رغم قبول القيادة الفلسطينية منطق التسوية وتوقيع اتفاقات اوسلو 1993 وما تلاها، إلا أن الخطة الاسرائيلية - الأميركية امعنت في منع قيام تسوية تضمن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة. سلطت السياسة الاسرائيلية حمى القتل اليومي والتدمير المنهجي لمقومات وارادة الشعب الفلسطيني. شكلت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 أحد الأجوبة عن امتناع اسرائيل عن تحقيق هذه التسوية. أدت هذه السياسة الاسرائيلية الى قيام التنظيمات الاسلامية المقاومة في فلسطينولبنان كما تغذى صعود هذه التنظيمات من فشل البرنامج القومي اليساري لأنظمة الاستقلال العربية منذ الخمسينات وعجزه عن تحقيق مهمات التحرر القومي وعلى الأخص استعادة الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ملأت هذه التنظيمات الفراغ الناشئ بأيديولوجيا ما فوق قومية، وقدمت برنامجاً أساسه تحرير كامل التراب الفلسطيني ورفض مشاريع التسوية، مقترنة بتقديم أشكال من العنف المسلح المتضمن عمليات انتحارية بصفتها الوسيلة الأنسب لضرب اسرائيل. كما أفادت هذه التنظيمات من العجز العربي الرسمي الذي سعت ايران هذه المرة لملئه مقدمة نفسها كراعية ومحتضنة وداعمة لهذه التنظيمات، فربطت بين توجهات الجمهورية الاسلامية الايرانية وبين شعارات وأهداف التنظيمات الاسلامية المقاومة. ما تزال سجالات تدور حول لاعقلانية العمل المسلح المقاوم في فلسطينولبنان خلال السنوات الأخيرة. يبدو التساؤل مشروعاً بمقياس حسابات المصالح وموازين القوى عندما يتسبب أسر جندي في اسرائيل وجنديين في لبنان بهذا الحجم من الردود الاسرائيلية التدميرية وتكليف الشعبين الفلسطينيواللبناني خسائر رهيبة في البشر والحجر. لكن التساؤل عن لاعقلانية أشكال مقاومة هذه التنظيمات يجب أن يسلط الضوء على لاعقلانية السياستين الاسرائيلية والأميركية تجاه الشعب الفلسطيني في الأساس وسائر الشعوب العربية على العموم. ان لاعقلانية المقاومة ضد اسرائيل هي الابنة الشرعية للسياسة اللاعقلانية لاسرائيل والولاياتالمتحدة في اصرارهما على إخضاع المنطقة والهيمنة على مقدراتها وسحق شعوبها وتأييد تخلفها. اضافة الى ذلك، تسبب عدم الوصول الى تسوية ونمط الممارسات الإسرائيلية والأميركية تجاه العالم العربي في نتائج سلبية تجلى في حجز تطور المجتمعات العربية وانسداد أفق نمو وتطور القوى الديموقراطية والعقلانية، وانفلات الفكر الاصولي بتطرفه ولاعقلانيته من كل قيود. أتت المطالبات الشعبية العربية بدعوة المقاومة اللبنانية لإكمال حربها، ولو وحيدة، نحو تحرير فلسطين نموذجاً لهذه اللاعقلانية العربية ايضاً، عبر تقديمها لحلمها ورغباتها من دون الأخذ في الاعتبار ما يستطيع أن يتحمله لبنان وحده في حرب مفتوحة. طرحت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان والمنطقة سؤالين: الأول يتصل بختام الحروب الإسرائيلية - العربية، وهو أمر يستحيل تصور تحققه بالنظر لاستحالة التسوية والسلام حتى الآن ولانعدام وجود حلول سهلة في هذا المجال مما قد يرشح المنطقة لجولات إسرائيلية أخرى من الحروب. أما السؤال الثاني فيتصل بما أفرزته حرب إسرائيل على لبنان وما قدمته من معطيات جديدة في ميدان الصراع. خاضت إسرائيل في لبنان حرباً من نوع مختلف عن حروبها السابقة مع الدول العربية. تكبدت في هذه الحرب خسائر بشرية ومادية ونفسية لم تألفها سابقاً، وهو أمر ستأخذه في الاعتبار في حروبها المقبلة. ان صمود المقاومة في لبنان وتسجيلها مكاسب فعلية في مواجهة اسرائيل وإلحاقها هذا الأذى بالكيان الاسرائيلي سيلقي بثقله على وجهة الصراع المقبل ويحدد بعض مساراته. في المقابل، يحدو الأمل أن يكون لصمود المقاومة في لبنان أثر على المجتمعات العربية وشعوبها، في إمكان توليد قوى معارضة تسعى الى التأثير على أنظمة العالم العربي نحو تجاوز سياسة العجز والاستسلام السائدة في مواجهة السياستين الاسرائيلية والأميركية. ان الأواصر الوثيقة التي تشد المشروعين الصهيوني والأميركي تجاه المنطقة العربية وسعيهما المستمر للهيمنة، ستظل تؤسس لحروب مستمرة. وحده الاقتناع بالوصول الى تسوية عادلة تضمن الحد الأدنى من الحقوق العربية يمكن أن يوقف نزيف الدم والآلام في المنطقة. * كاتب لبناني