ها هي وزيرة الخارجية الأميركية تعود إلى المنطقة في زيارة هي الثالثة من نوعها منذ العدوان الإسرئيلي الأخير على لبنان والذي لم تكتف الولاياتالمتحدة بدعمه أو تأييده وإنما كانت شريكة رئيسية فيه وتولت إدارة وتوجيه تفاعلاته السياسية كي تجعل منه أداة لصناعة"شرق أوسط جديد"أكثر تجاوبا مع طموحاتها في الهيمنة الامبراطورية المنفردة على العالم. ورغم شهرة السيدة رايس باعتبارها أكثر المسؤولين الأميركيين اعتدالا في الإدارة الحالية، إلا أنها كانت من أشدهم حماسة للحرب على لبنان وإصرارا على أن لا تنتهي قبل أن يظهر المخاض ويطل المولود الذي اختارت بنفسها اسمه، أي"الشرق الأوسط الجديد"، برأسه في المنطقة. ومن الواضح أن زيارة رايس الحالية للمنطقة تأتي في أجواء تبدو مختلفة كثيرا عن تلك التي سادت أثناء زيارتيها السابقتين والتي جرى خلالهما تقسيم للعمل وتوزيع للأدوار بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. فبينما تولت إسرائيل، من خلال إطلاق العنان لآلتها الحربية الجبارة، مهمة تدمير القدرة العسكرية والقتالية ل"حزب الله"كخطوة رئيسية نحو إضعاف قوى الممانعة في المنطقة، أخذت الولاياتالمتحدة على عاتقها مهمة الإدارة السياسية للحرب وتولت رايس بنفسها قيادة وتوظيف آلة الديبلوماسية الأميركية الضخمة لنسج خيوط"الشرق الأوسط الجديد"الذي كان مقررا أن تتمخض عنه الحرب، وذلك بالتعاون والتنسيق مع قوى الموالاة. غير أن عجز آلة الحرب الإسرائيلية عن تحقيق الأهداف العسكرية، بسبب الصمود الأسطوري للمقاومة والتفاف الشعب اللبناني والشعوب العربية والإسلامية حولها، عرقل عمل الديبلوماسية الأميركية وحال دون تمكينها من تحقيق كامل أهدافها السياسية، وتعذر على رايس بالتالي سماع صراخ مولودها الشرق أوسطي الجديد قبل عودتها إلى واشنطن. صحيح أن رايس استطاعت أن تحصل من مجلس الأمن على القرار 1701 الذي حقق لإسرائيل مكاسب سياسية أكبر بكثير مما استطاعت آلتها العسكرية تحقيقه على الأرض، غير أن هذا القرار لم يشر إلى الفصل السابع من الميثاق ولم يخول للقوات الدولية التي راحت تتدفق على لبنان صلاحية نزع سلاح"حزب الله"بالقوة، كما كانت تأمل الولاياتالمتحدة وتتمنى. ومع ذلك فقد نجحت الولاياتالمتحدة في أن تضمِن هذا القرار من الألغام والقنابل الموقوتة ما يكفي لتفجير الوضع برمته من جديد إذا لزم الأمر. وإذا كانت زيارة رايس الحالية تتم في أجواء تبدو فيها آلة الحرب الإسرايلية معطلة، مؤقتا على الأقل، لتفسح المجال أمام العمل المنفرد لآلة الديبلوماسية الأميركية التي راحت تنشط مرة أخرى، إلا أن تساؤلات كثيرة تطرح الآن حول ما يمكن أن تحمله كوندي في جعبتها إلى المنطقة هذه المرة. بعض المراقبين يرون أن الشرق الأوسط بدأ يتغير فعلا في الاتجاه الذي تحبه الولاياتالمتحدة وترضى عنه، ويعتقدون من ثم، أن الديبلوماسية الأميركية تعود إلى المنطقة لتسلك وتكمل طريقا كانت آلة الحرب الإسرائيلية مهدت له وبدأت في تعبيده. ومن الواضح أن هذا الفريق يبني رؤيته وتقديره على ما تردد من أن لهذه الزيارة هدفا مضمرا وحيدا وهو"توحيد قوى الاعتدال في المنطقة خلف الولاياتالمتحدة في مواجهة قوى التطرف". أما البعض الآخر فيرى أن الشرق الأوسط بدأ يتغير فعلا ولكن في اتجاه معاكس لما كانت تأمله الولاياتالمتحدة والتي تعود إلى المنطقة هذه المرة لتصحح، بالديبلوماسية، ما وقعت فيه آلة الحرب من أخطاء. ويعتقد هذا الفريق، والذي يبني رؤيته على تصديق الهدف المعلن للزيارة والمتمثل في البحث عن طريق لإعادة إحياء عملية تسوية كان العرب قد أعلنوا عن وفاتها رسميا، أن الولاياتالمتحدة بدأت عملية لإعادة تقويم سياساتها الشرق أوسطية سوف تضطرها إن عاجلا أو آجلا إلى التخلي عن طموحات تدرك الآن بالفعل عجز قدراتها عن تحقيقها. وفي تقديري الشخصي أن الولاياتالمتحدة لم ولن تتغير وبالتالي لم ولن تتخلى قط عن أي من طموحاتها أو أهدافها، خصوصا في ظل الإدارة الحالية، وأن السيدة رايس جاءت إلى المنطقة لتستكمل بالوسائل الديبلوماسية ما عجزت وسائل إسرائيل العسكرية عن تحقيقه. وفي تقديري ايضا أنه لا يوجد تعارض بين الأهداف المعلنة للزيارة وأهدافها المضمرة، والتي لم تعد خفية في الواقع بعد أن كشفت عنها السيدة رايس بنفسها في مقابلات أجرتها قبل الزيارة مع مجالس تحرير عدد من الصحف الأميركية المهمة، منها"نيويورك تايمز"و"وول ستريت جورنال". فأكدت رايس في هذه المقابلات على أن الشرق الأوسط ينقسم بشدة بين معتدلين ومتطرفين، وأن الصراع بين هذين المعسكرين ليس سهلا ومؤقتا ولكنه صراع معقد وطويل الأمد، وأن مواجهة القوى المتطرفة، مثل"حماس"و"الجهاد"و"حزب الله"المدعومة من إيران والتي تمثل في رأيها مركز الثقل الرئيسي لقوى التطرف، لن يكون ممكنا من دون دعم الدول العربية المعتدلة. وكان لافتا للنظر قيام رايس بتسمية هذه الدول المعتدلة صراحة وحصرها في: السعودية ومصر والأردن، وفي الديموقراطيات الجديدة: كالعراقولبنان وحتى الأراضي الفلسطينية. وتساعد تصريحات رايس التي سبقت زيارتها للمنطقة، في تقديري، على استنتاج جوهر الأفكار والخطط التي ستحاول تسويقها خلال الزيارة، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي: 1- أن الولاياتالمتحدة أصبحت مقتنعة تماما بأن تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي تمثل مفتاح الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها وأن هذه التسوية هي المدخل الصحيح لمعالجة واحتواء خطر الإرهاب المتفاقم. 2- أن قوى التطرف في المنطقة، وعلى رأسها إيران، هي المسؤول الرئيسي عن عدم التوصل إلى تسوية لهذا الصراع، وبالتالي فإن عزل هذه القوى ومحاصرتها يعد شرطا رئيسيا لبدء مفاوضات جادة بين إسرائيل والقوى الفلسطينية المعتدلة، فضلا عن أن إضعافها وهزيمتها قد يكونا شرطا لازما لتمرير وتثبيت ما تسفر عنه هذه المفاوضات من تسويات. 3- أن ذلك كله يستدعي توحيد قوى الاعتدال في المنطقة، ومن ضمنها إسرائيل بالطبع، تحت قيادة الولاياتالمتحدة الأميركية في مواجهة قوى التطرف والإرهاب. وإذا صحت هذه الاستنتاجات، وأظن أنها صحيحة، فسوف تحاول رايس خلال زيارتها ترجمة هذه الأفكار إلى خطة عمل قابلة للتطبيق على الأرض. وتنطلق هذه الخطة، في تقديري، من مسلمات عدة يدور معظمها حول عدد من الدروس المستفادة من الحرب على لبنان. أول هذه الدروس هو الوعي بحدود القوة العسكرية وبخطأ استخدام إسرائيل كأداة عادة ما تأتي بنتائج عكسية تساعد في دعم قوى التطرف بدلاً من عزلها ومحاصرتها. وثاني هذه الدروس: هو الاقتناع بأن زمن الأحلاف العسكرية في المنطقة ولّى وحان وقت استبدالها بتحالفات سياسية. وثالث هذه الدروس هو الاعتقاد بأن الدول التي تغيب فيها السلطة المركزية القوية، مثل لبنانوفلسطينوالعراق، والمهددة بالسقوط في يد"قوى التطرف والإرهاب"تشكل مسرح العمليات الأنسب لاختبار فعالية هذه التحالفات. واتساقا مع هذه الدروس ستدعو رايس لبناء تحالف من مصر والسعودية والأردن هدفه دعم قوى الاعتدال في مسرح العمليات أو المواجهة الحالي، أي في لبنانوفلسطينوالعراق، من منطلق أنه يشكل السبيل الوحيد لعزل وتحجيم قوى التطرف في المنطقة وبالتالي إضعاف الحلف السوري الإيراني الذي يمثل العقبة الاصعب أمام تسوية تؤسس لقيام شرق أوسط جديد معتدل ومستقر. وفي هذا السياق من المتوقع أن تطلب رايس من مصر والسعودية والأردن صراحة تأييد ودعم القوى المناوئة ل"حزب الله"في لبنان، ول"حماس"و"الجهاد"في فلسطين، وللمقاومة المسلحة في العراق، والمساعدة على قيام سلطة مركزية قوية معتدلة في هذه الدول قادرة، من ناحية، على صنع وحماية السلام مع إسرائيل، ومن ناحية أخرى، على عزل ومحاصرة النظامين السوري والإيراني تمهيدا لإسقاطهما. وتعكس هذه المنطلقات حقيقة المأزق الذي تواجهه السياسة الأميركية في المنطقة والتي ما تزال حتى هذه اللحظة غير قادرة على إدراك حقيقة الأسباب التي أدت إلى تنامي قوى التطرف فيها. فمن الواضح أن الإدارة الأميركية لم تدرك بعد أن مواقفها المنحازة بشكل مطلق لإسرائيل هي التي أدت، وما تزال تؤدي، إلى إضعاف قوى الاعتدال في المنطقة، وأن طرحها الرامي لتشكيل تحالف بقيادتها بين القوى المعتدلة ينطوي على العديد من القنابل التي تعرض المنطقة برمتها للانفجار، وذلك للأسباب التالية: أولا: أن مثل هذا الطرح ينطلق، صراحة، من إصرار واضح على تسويق فكرة أن إيران والقوى المرتبطة بها أو المتحالفة معها، وليس إسرائيل، هي الخطر الأساسي الذي يهدد استقرار الدول العربية وكذا الأمن والسلم العالمي. ثانيا: أنه ينطلق، ضمنا، من إصرار واضح على استخدام الخلافات المذهبية كأدوات في إدارة أزمات المنطقة، من خلال الترويج لمقولة أن تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة يحمل في طياته مداً شيعياً ويمثل بالضرورة خطرا على المسلمين السنة يستدعي تحالفا سنيا في مواجهته. ثالثا: أنه يؤدي، من الناحية العملية إلى عزل سورية واستبدال الإردن بها في المثلث الثلاثي الذي حمل على عاتقه قيادة العالم العربي في أوقات المحن والأزمات، كما يحمل في طياته أيضا مخاطر تعميق الانقسامات الداخلية في عدد من البلدان العربية، خصوصا في فلسطينولبنانوالعراق، ودفعها دفعا إلى حافة الحروب الأهلية. وشهدت الساحتان الداخلية والإقليمية خلال الأيام والأسابيع السابقة لزيارة رايس تطورات لافتة للنظر يصعب اعتبارها من قبيل الصدفة. من هذه التطورات: 1- إعلان محمود عباس عقب عودته من نيويورك ومقابلته الرئيس بوش عن إصراره على ضرورة الاعتراف المسبق بإسرائيل وبالاتفاقات السابقة من جانب أي حكومة وحدة وطنية، ثم إظهار رفض"حماس"وكأنه تراجع عن مواقف واتفاقات سابقة، وأخيرا اندلاع الاقتتال الداخلي بعد قيام قوات الأمن بالتظاهر احتجاجا على تأخر الرواتب! 2- تصعيد بعض القوى اللبنانية من مطالبها الخاصة بنزع سلاح"حزب الله"في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل تطور الأزمة اللبنانية الداخلية واحتقان الساحة السياسية في لبنان أخيرا على نحو ينذر بالخطر. 3- تسريب أخبار في الصحف الإسرائيلية تزعم حدوث اتصالات سرية سعودية إسرائيلية وتلوح باحتمال تغير الموقف الإسرائيلي من المبادرة العربية. 4- إعلان مصر عزمها إحياء برنامجها النووي السلمي وصدور ترحيب فوري من السفير الأميركي في القاهرة. وفي تقديري أن هذه التطورات غير البريئة تدفع بالرياح في شراع المخططات الأميركية الرامية إلى تقسيم المنطقة ودفعها نحو حالة استقطاب لا تحقق لها أي مصلحة عاجلة أو آجلة. فلا توجد أي مصلحة لبنانية أو عربية لنزع سلاح"حزب الله"قبل بناء الدولة اللبنانية والتوصل إلى تسوية شاملة للصراع في المنطقة تحمي لبنان من خطر الغزو الإسرائيلي. ولا توجد مصلحة فلسطينية أو عربية في حمل"حماس"أو اي حكومة وحدة وطنية على الاعتراف المسبق بإسرائيل، لأن المطلوب هو الاعتراف بالتسويات التي قد تسفر عنها المفاوضات وليس بإسرائيل الكبرى. وحماية الوحدة الوطنية في لبنانوفلسطينوالعراق واجب قومي قبل أن يكون واجبا وطنيا. فالاحتلال الإسرائيلي والأميركي للأراضي العربية، وليس إيران، هو الخطر الأكبر على هذه الأمة. فهل نسمح لأميركا بأن تستكمل بالديبلوماسية ما عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن تحقيقه؟ * كاتب مصري