دخل الصراع على الشرق الأوسط وفيه مرحلة جديدة مع دخول الدبابات الأميركية إلى بغداد. لكن النصر السريع والسهل الذي حققته قوات ما يسمى بالتحالف لا يجب أن ينسينا حقيقة أن الحرب على العراق لم تكن ضرورية أو حتمية بل كانت عملاً إرادياً اختيارياً يمكن تجنبه، فضلاً عن أنها شكلت عدوانا واضحاً لأنها تمت خارج إطار الشرعية الدولية وبالمخالفة لأحكام القانون الدولي. لأن الغالبية الساحقة من شعوب العالم لم تقتنع بالمبررات الأميركية للحرب، فسيظل الجدل حول الأسباب الخفية لهذه الحرب مثاراً لفترة طويلة مقبلة، وبالتالي عرضة للعديد من الاجتهادات المختلفة والمتباينة. فمن قائل إنها حرب من أجل النفط، من منطلق أن السيطرة على حقول النفط كانت ولا تزال إحدى أهم الأدوات اللازمة للهيمنة على العالم، ومن قائل إنها حرب لتطويق إيران ومعها الأصولية الإسلامية، من منطلق أن عزل طهران ومحاصرتها يشكل ركناً مهماً من استراتيجية مكافحة الإرهاب الذي ضرب الولاياتالمتحدة في 11 أيلول سبتمبر 2001، ومن قائل بأنها حرب صليبية تستهدف تأديب العرب والمسلمين ككل، بدءاً بالعراق. غير أنني لا أميل إلى أي من هذه الآراء. فالحرب على العراق ليست حرباً من أجل النفط وحده، على رغم أن رائحة النفط تفوح منها بشدة، ولا هي حرب تندرج في إطار ما يسمى بمكافحة الإرهاب، رغم أن أحداث 11 أيلول تشكل أحد أهم مشاهدها الخلفية، ولا هي حرب صليبية ضد العرب والمسلمين، على رغم حضور البعد الديني والثقافي فيها، وإنما هي حرب من أجل إسرائيل أولاً وقبل كل شيء، وهي من صنع وتخطيط الجناح اليميني الأميركي المتطرف المرتبط باليمين الإسرائيلي الأشد تطرفاً. ولذلك فقد لا نبالغ إذا قلنا إنها حرب بالوكالة تقوم بها الولاياتالمتحدة نيابة عن إسرائيل ولحسابها. والحروب بالوكالة قديمة ومعروفة في كل الحقب التاريخية، خصوصاً في مرحلة القطبية الثنائية التي استحالت فيها المواجهة المباشرة بين القطبين المتصارعين بسبب توازن الرعب النووي. غير أن حرب الولاياتالمتحدة على العراق تبدو فريدة في نوعها. فللمرة الاولى في التاريخ، وعلى عكس ما هو شائع، تخوض دولة مهيمنة على النظام الدولي حرباً بالوكالة نيابة عن دولة صغيرة ولحسابها، وهو ما يعد إنجازاً نوعياً يحسب لمصلحة إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية يتطلب مراجعة جذرية للفكر العربي السائد حول طبيعة العلاقة بين إسرائيل والقوى المهيمنة في النظام الدولي. فقد تمحور هذا الفكر حول الدور الوظيفي الذي تلعبه إسرائيل لحساب القوى المهيمنة في النظام الدولي وليس العكس. لكن حرب الوكالة هذه تشير إلى أن بوسع الحركة الصهيونية، إذا ما توافرت ظروف وملابسات علمية وإقليمية ومحلية معينة أن تستولي على عقل ومشاعر الإدارة الأميركية من داخلها. فكيف حدث ذلك؟ الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب تشريحاً مدققاً لموقع الصراع العربي- الإسرائيلي على خريطة العلاقات العربية -الأميركية. فقد بات على الولاياتالمتحدة، حين تقدمت للمنافسة في حلبة الهيمنة على النظام الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أن تعثر على صيغة للتوفيق بين مصالحها النفطية، وكانت مع العرب، ومصالحها الاستراتيجية، وكانت، بحكم طبائع الأمور وقوانين وراثة الوجود البريطاني في المنطقة، مع الحركة الصهيونية. وربما كان لقاء الرئيس روزفلت الملك عبدالعزيز آل سعود على ظهر الطراد الأميركي "كوينسي" في مياه البحيرات المرة وسط قناة السويس يوم 14 شباط فبراير 1945 هو أول احتكاك أميركي مباشر، على هذا المستوى، بتلك المعضلة. فبينما كان الملك عبدالعزيز جاهزاً ومستعداً للتعاون مع الولاياتالمتحدة الأميركية في مجال النفط إلى أقصى حد، بل ومنح هذه الدولة أولوية مطلقة على ما عداها من الدول الأخرى، إلا أنه لم يكن مستعداً لتقديم أي تنازلات تتعلق بإطلاق هجرة اليهود إلى فلسطين، وكان مطلباً أميركياً ملحاً في ذلك الوقت!. وقد عثرت الولاياتالمتحدة على حل لهذه المعضلة من خلال صيغة تقوم على تقديم كل دعم ممكن لإسرائيل والحركة الصهيونية في الحدود التي لا تعرض مصالح الولاياتالمتحدة النفطية في المنطقة. غير أنه تعين على هذه الصيغة أن تكيف نفسها مع مستجدات دولية وإقليمية مهمة كان من أهمها: بروز الدور السوفياتي على الصعيد العالمي، من ناحية، وتصاعد التيار القومي العربي بقيادة مصر الناصرية، من ناحية أخرى. غير أن الولاياتالمتحدة لم تجد في الواقع صعوبة تذكر في هذا الصدد، بعد أن تكفلت التناقضات العربية بحل كل الصعوبات، واستطاعت، وبمهارة شديدة، استغلال هذه التناقضات على نحو يظهر الأنظمة العربية الراديكالية المتعاونة مع النظام السوفياتي الملحد وكأنها تشكل الخطر الحقيقي على مصالح الدول والشعوب العربية! والتقطت نظم عربية كثيرة الطعم الأميركي، وحينئذ أصبح بمقدور الولاياتالمتحدة أن تزيد كثيراً من هامش دعمها ومساعداتها العلنية والمستترة لإسرائيل من دون أن تخاطر بمصالحها النفطية في المنطقة. وحققت هذه السياسة نجاحاً مذهلاً مكّن إسرائيل من توجيه ضربتها القاصمة للحركة القومية العربية والنظم العربية الراديكالية العام 1967. وساهم هذا النجاح في ترسيخ قناعة الولاياتالمتحدة بأن كل ما يحقق مصلحة إسرائيل يحقق مصلحة الولاياتالمتحدة في الوقت ذاته. غير أن هذه الاستراتيجية ما لبثت أن واجهت مأزقاً جديداً حين استطاع التحالف المصري - السوري - السعودي أن يشن حرباً عسكرية ناجحة في مواجهة إسرائيل العام 1973، وأن يستخدم النفط في الوقت نفسه كأداة ضغط سياسي على الدول المتعاونة معها وفي مقدمها الولاياتالمتحدة نفسها. وهنا تعين على الولاياتالمتحدة أن تغير استراتيجيتها. وتمكن هنري كيسنجر، وبمعاونة الرئيس السادات هذه المرة، من وضع أسس هذه الاستراتيجية الجديدة التي استهدفت الحيلولة دون تكرار ما حدث في 73 من خلال الفصل الكامل بين النفط وبين الصراع العربي - الإسرائيلي. وكان أبرز ما تضمنته الاستراتيجية الأميركية الجديدة من عناصر ضرورة القيام بدور الوسيط النزيه لإيجاد تسوية سلمية دائمة للصراع العربي- الإسرائيلي. غير أن هذه السياسة ما لبثت أن دخلت بدورها في مأزق بسب عدم نضوج المجتمع الإسرائيلي لتسوية مقبولة عربياً تقوم على: انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة في 67 وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في حدود 67 وتسوية عادلة لقضية اللاجئين الفلسطينيين. ولأنه لم يكن بمقدور الولاياتالمتحدة، ولأسباب معروفة وواضحة، أن تفرض على إسرائيل قبول تسوية ليست مستعدة لها، فقد اختارت سياسة الهروب إلى الأمام وأصبحت مضطرة في الواقع لتوفير الدعم اللازم لأي خطوات تراها إسرائيل ضرورية لإزالة العقبات التي تعترض طريق التوصل إلى تسوية بشروطها. وهكذا ظلت الولاياتالمتحدة حبيسة الرؤية الإسرائيلية للتسوية، ما أدخل علاقاتها العربية في تعقيدات بالغة. فألقت الولاياتالمتحدة بثقلها وراء مبادرة السادات بزيارة القدس، لكنها لم تنجح في تحويلها إلى أساس لتسوية شاملة، وهو ما تطلب ضغطاً على كل من إسرائيل ودول الخليج العربية كان بمقدور الولاياتالمتحدة أن تقوم به، لكنها لم تفعل. وهكذا أجهضت الولاياتالمتحدة، بوعي أو من دون وعي، فرصة تاريخية للتوصل إلى تسوية شاملة، وحجمت قوة الدفع التي خلقتها مبادرة السادات لتختزل، كما أرادت لها إسرائيل، في معاهدة سلام منفصلة تتسبب في عزلة مصر عن عالمها العربي. ولم تكتف الولاياتالمتحدة بذلك بل عادت ومنحت إسرائيل، عقب اغتيال السادات في مصر، ضوءاً أخضر للقيام بمغامرتها في لبنان العام 82، وهي المغامرة التي استهدفت تدمير منظمة التحرير الفلسطينية وإقامة نظام سياسي عميل لإسرائيل في لبنان. وكانت إسرائيل تأمل أن يمكنها إنجازها العسكري في لبنان من تهيئة الأوضاع الإقليمية لفرض تسوية بشروطها على بقية الدول العربية بعد نجاحها في تحييد مصر. غير أن سياستها في لبنان ما لبثت أن دخلت في مأزق لا فكاك منه وانتهت بالفشل الذريع. وعلى أنقاض هذا الفشل بدأت تتبلور جبهة صمود سورية - لبنانية بعمق إيراني ومدعومة سوفياتياً، نجحت في محاصرة المشروع الإسرائيلي للتسوية. وظلت سورية تأمل أن تتمكن هذه الجبهة من تحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل يوماً ما، وبما يعوض غياب مصر عن المعادلة العسكرية في الصراع. غير أن الآمال السورية بدأت تتلاشى تدريجاً بعد وصول غورباتشوف إلى السلطة في منتصف الثمانينات. ومن المفارقات أن يؤدي اختفاء الاتحاد السوفياتي، ليس فقط إلى دفع إسرائيل نحو المزيد من التطرف والتصلب في مواقفها، ولكن أيضا إلى زيادة التلاحم الإسرائيلي- الأميركي، على رغم أن الدول العربية الرئيسة الثلاث: مصر وسورية والسعودية، وليس إسرائيل، كانت هي التي أسهمت بالدور الأكبر في تمكين الولاياتالمتحدة من تحقيق أهدافها الاستراتيجية كاملة في حرب الخليج الثانية. وعلى رغم أن إسرائيل أجبرت على أن تدفن رأسها في التراب خلال هذه الحرب، فإن العجز الأميركي عن ممارسة أية ضغوط عليها ظل على حاله. وتجلى هذا العجز كأوضح ما يكون في الملابسات التي أحاطت بمؤتمر مدريد. صحيح أن إسرائيل بدت وكأنها حضرت المؤتمر مكرهة بعد ضغط مكثف من الحكومة الأميركية، لكنها عادت لتمسك بزمام الأمور من جديد ونجحت في النهاية في إفشال المؤتمر وإفراغه من أي مضمون حقيقي بعد تحويله إلى مجرد منبر لإلقاء خطب رنانة توطئة لمفاوضات ثنائية تتحكم هي في سرعتها وفي إيقاعها وفي مساراتها. وهكذا أفلتت من الولاياتالمتحدة فرصة جديدة لإقرار السلام في المنطقة. فإسرائيل لم تكن جاهزة للسلام، والولاياتالمتحدة لم تكن راغبة في، أو قادرة على، الضغط عليها. ولذلك لم تبدأ عجلة عملية السلام تدور من جديد إلا بإرادة إسرائيل الذاتية بعد وصول رابين إلى الحكم وقراره إجراء مفاوضات سرية مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية أسفرت عن اتفاق أوسلو الذي حرص البيت الأبيض على الاكتفاء باستضافة حفل توقيعه. هنا أيضا نلاحظ أن الجهد الضخم الذي بذلته إدارة الرئيس كلينتون كان جهداً مسخراً لخدمة إسرائيل في المقام الأول وموظفا لممارسة أقصى قدر من الضغوط على الدول العربية وعلى السلطة الفلسطينية. فقد ذهب ياسر عرفات إلى مؤتمر كامب ديفيد بضغط أميركي هائل، رغم يقينه من عدم توافر أية فرصة لنجاحه. ولم يتردد كلينتون في تحميل السلطة الفلسطينية، وعرفات تحديداً، مسؤولية إفشال المؤتمر ليقدم بذلك أكبر هدية لليمين الإسرائيلي. فقد انتهز شارون الفرصة وأقدم على زيارة للمسجد الأقصى كان معروفاً سلفاً أنها ستثير ردود فعل عنيفة. وهكذا تفجرت الانتفاضة التي تعلل شارون بالتظاهر بإخمادها لكنه كان يريد في الواقع إخماد أنفاس عملية التسوية السلمية ذاتها. لم يكد اليمين الأميركي المتطرف برئاسة جورج دبليو بوش أن يصل إلى السلطة في الولاياتالمتحدة حتى لحق به بعد ذلك بشهرين يمين لا يقل تطرفاً في إسرائيل. وكما كان لليمين الأميركي المتطرف رؤيته الخاصة بالهيمنة على العالم بوسائل تختلف عن تلك التي اتبعتها إدارة كلينتون، كان لليمين الإسرائيلي رؤيته الخاصة للهيمنة على المنطقة بوسائل تختلف عن تلك التي اتبعها حزب العمل. كان اليمين الأميركي يرى أن الهيمنة على العالم لا تتم إلا بإزاحة ما تبقى من أنظمة "عاصية" وتصفية "مخلفات" الحرب الباردة، وهو ما يتطلب استخداماً مكثفاً للقوة العسكرية، وكان اليمين الإسرائيلي، يرى أن تمرير التسوية بالشروط الإسرائيلية غير ممكن من دون إزاحة قوى المقاومة: حماس، الجهاد، حزب الله، وكذلك الدول التي تدعمها خصوصاً سورية وإيران، حتى ولو تطلب الأمر استخداماً كثيفاً للقوة العسكرية. ثم جاءت أحداث ايلول لتتيح أمام إسرائيل فرصة تاريخية ليس فقط لكي تحصل على ضوء أخضر لتصفية "جيوب المقاومة" للمشروع الإسرائيلي، ولكن أيضا لكي تشرك الولاياتالمتحدة معها أو نيابة عنها في تصفية هذه الجيوب بقوة السلاح. لكن كيف ولماذا تعين البدء بالحرب على العراق إذا كان الهدف النهائي هو تصفية كل صور المقاومة للاحتلال الإسرائيلي؟. لم تكن الإدارة الأميركية التي انتقلت إليها السلطة في كانون الثاني يناير 2001 مجرد إدارة تمثل اليمين التقليدي الذي ظل يمارس، من خلال الحزب الجمهوري، لعبة تداول السلطة مع الحزب الديموقراطي، الأكثر ليبرالية، حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي. لكنها كانت إدارة من نوع مختلف وتمثل تحالفاً بروتستانتياً أصوليا عرف سياسياً باسم "اليمين الديني الجديد". وقد ظهر هذا التحالف للمرة الاولى في السبعينات من القرن الماضي ولعب دوراً مهماً في وصول ريغان إلى السلطة في انتخابات العام 1980 ليصبح منذ ذلك الحين قوة سياسية خطرة وعميقة التأثير في المجتمع الأميركي. وتشير دراسات عديدة إلى أن جورج دبليو بوش نفسه، ونائبه تشيني، ومستشارته للأمن القومي كونداليزا رايس، ووزير دفاعه رامسفيلد، ينتمون جميعاً، بدرجة أو بأخرى، إلى هذا التيار الأصولي البروتستانتي. لكن الأخطر من ذلك أن عدداً من كبار الموظفين والمستشارين المسؤولين عن صوغ وتوجيه السياسات الخارجية والدفاع في هذه الإدارة، هم إما من اليهود المرتبطين بأكثر التيارات تطرفاً في الحركة الصهيونية والأكثر قرباً من شارون، أو من "الأصوليين المسيحيين" المؤمنين دينياً بأهمية وجود إسرائيل الكبرى كشرط لعودة المسيح! من هؤلاء: دوغلاس فيث، ودافيد وورمزر، وريتشارد بيرل وجون بولتون وإليوت أبرامز، وبول وولفووتز، وغيرهم كثيرون. ويعتبر هذا التيار نفسه امتداداً طبيعياً ومسؤولاً عن السياسات الدفاعية التي وضعت أسسها في عهد الرئيس ريغان وأثمرت انهيار الاتحاد السوفياتي في عهد بوش الأب سباق التسلح وبرنامج حرب الكواكب. ولهذا التيار رؤية محددة لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأميركية جوهرها أمران: الأول، العودة إلى مشروع الهيمنة الذي كان بوش الأب بدأه ولم يتمكن من استكماله بسبب عودة الديموقراطيين بزعامة كلينتون وسيطرتهم على السلطة خلال معظم حقبة التسعينات، والثاني، رفض ممارسة أي ضغوط على إسرائيل أو إجبارها على قبول تنازلات لا تريدها، مهما كانت الظروف. ويلاحظ أن إدارة بوش الابن كانت بدأت على الفور، وقبل شهور طويلة من وقوع أحداث ايلول، تتخذ خطوات محددة، ومستفزة للمجتمع الدولي كله وللعالم العربي كذلك، لكنها تعكس عمق الإيمان بهذه الرؤية. فقامت على الصعيد العالمي، برفض الانضمام إلى اتفاقية روما لإنشاء محكمة جنايات دولية كانت إدارة كلينتون وقعت عليها بالأحرف الأولى، وانسحبت من بروتوكول كيوتو الخاص بالمحافظة على البيئة. أما على الصعيد الإقليمي فقد منحت هذه الإدارة تأييدها غير المشروط لشارون ورفضت استقبال عرفات الذي اعتبرته مسؤولاً عن انهيار عملية التسوية. ثم جاءت أحداث ايلول لتتيح فرصة ذهبية أمام جناح الصقور فيها، وهو جناح يرتبط عضوياً بالليكود الإسرائيلي، لصوغ رؤية معدلة للسياسة الخارجية الأميركية يحتل مشروع "إسرائيل الكبرى" موقعاً مركزياً فيها باعتباره حلقة رئيسة في مشروع الهيمنة الأميركي. وفي سياق هذه الرؤية تحولت حروب الولاياتالمتحدة من أجل الهيمنة المتخفية تحت مظلة مكافحة الإرهاب إلى حروب تصب في مصلحة إسرائيل الكبرى. وإذا جاز لنا أن نبسط منطق وركائز هذه الرؤية في نقاط محددة فإننا نجملها على النحو التالي: 1- أن الولاياتالمتحدة أصبحت في موقف الدفاع الشرعي عن النفس لأنها تعرضت لعدوان مسلح من خارج أراضيها، وهو ما يخول لها استخدام القوة المسلحة وفقاً للطريقة التي تراها. 2- أن مرتكب هذا العدوان ليس دولة بعينها أو حتى تنظيماً بعينه وإنما شبكة معقدة من الإرهاب الدولي تمتد خيوطها كالعنكبوت على اتساع العالم بأسره، وهو ما يتطلب بالتالي رداً طويل الأمد والنفَس قد يستغرق سنوات وقد يتطور عبر مراحل ستختلف فيها أساليب المواجهة وأنماط التحالفات بالضرورة. 3- أن الواجب الملقى على عاتق الولاياتالمتحدة لاستئصال الإرهاب من جذوره، بموجب حقها المقرر في الدفاع عن النفس، يخولها في الوقت نفسه حقا ضمنياً للقيام بعمليات سياسية وعسكرية "استباقية" أو حتى "إجهاضية" من دون انتظار تفويض أو تصريح من أحد بما في ذلك الأممالمتحدة نفسها. 4- نظراً لأن المجموعة التي ضربت البنتاغون في واشنطن وبرجي التجارة العالمية في ايلول كانت كلها من العرب والمسلمين وتحمل جنسيات دول صديقة للولايات المتحدة، وبخاصة سعودية ومصرية، فمن الحكمة توسيع نطاق عمليات وتطوير سبل وأساليب مكافحة الارهاب لتشمل الجميع، بما فيها الدول "الصديقة"، ولا تقتصر على الدول "المارقة" أو "العاصية" وحدها. 5- أن العديد من الأنظمة السياسية المستبدة والفاسدة في العالمين العربي والإسلامي تحاول التخفيف من حدة ردود الفعل الشعبية المحتملة على سياساتها القمعية وممارساتها الفاسدة بالسماح للتنظيمات الإرهابية بالتنفيس عن كبتها وغضبها للقيام بعمليات انتقامية ضد الولاياتالمتحدة وإسرائيل، فإن الأمر تطلب من الولاياتالمتحدة إعادة النظر في موقفها من هذه الأنظمة! وكان من الطبيعي أن تقود هذه الرؤية، منطقياً وتلقائياً، إلى اقتناع قطاعات متزايدة من النخب الأميركية بأن حرب الولاياتالمتحدة على الإرهاب تقتضي إحداث تغييرات جوهرية في البنى وفي الخريطة الشرق أوسطية على الصعيدين الثقافي والسياسي. ولم يتطلب الأمر من دوائر التفكير ومراكز صنع القرار جهداً كبيراً للتوصل إلى نتيجة مفادها أن تغيير النظام العراقي بالقوة هو المدخل الصحيح والمنطقي لأي خطة متكاملة تستهدف وضع هذه التغييرات موضع التطبيق. فالنظام العراقي يبدو خارجاً على الشرعية الدولية ومنهكاً بفعل الحصار والعقوبات، وبالتالي قابل لأن تتعاون دول كثيرة عربية وغير عربية مع الولاياتالمتحدة لإسقاطه. ولأن العراق بلد غني باحتياطاته النفطية الهائلة، وبأنهاره العذبة وبه قوة عمل ماهرة ومدربة، فإن إقامة نظام "ديموقراطي" موالٍللولايات المتحدة فيه يمكن أن يشكل نقطة انطلاق كبرى نحو تحديث العالم العربي وإضعاف القوى الراديكالية فيه، بخاصة القومية والإسلامية، المعادية للسياسات الأميركية في المنطقة، وهي القوى نفسها التي تحمل لواء المقاومة للاحتلال وللسياسات الإسرائيلية في المنطقة. ومن الواضح أن مثل هذه الرؤية قابلة لأن تفرز خطة عمل قادرة على أن تزاوج بين مطالب دعاة الهيمنة وبين أنصار إسرائيل في الإدارة الأميركية. فاستيلاء القوات الأميركية على ثاني أكبر الدول إنتاجاً ومخزوناً للنفط في العالم يثلج صدور دعاة الهيمنة لأنه يمنح الولاياتالمتحدة مزيداً من القدرة على التحكم في منظمة "الأوبك" وفي التدفقات الرأسمالية النفطية في العالم، وضرب الدول والتيارات القومية والإسلامية في المنطقة يقوض دعائم المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ويفتح الباب أمام تنفيذ خارطة طريق يريد له شارون أن يفضي إلى تسوية بالشروط الإسرائيلية. والواقع أن قراءاتنا الخاصة لطبيعة ولتطور العلاقات الإسرائيلية - الأميركية تجعلنا أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن إسرائيل لن تجد، بعد هذا النصر الأميركي السهل والسريع في العراق، صعوبة تذكر للتأثير على صانع القرار الأميركي وإقناعه بأهمية المضي قدماً في تنفيذ الاستراتيجية الرامية للإجهاز على حركات المقاومة الإسلامية في فلسطينولبنان، من منطلق أنها منظمات "إرهابية"، وعلى النظامين القومي البعثي في سورية والإسلامي الأصولي في إيران، من منطلق أنهما نظامان يؤويان الإرهاب. غير أن التحرك على هدي هذه الاستراتيجية لا يعني بالضرورة شن حرب عسكرية واسعة النطاق وتكرار النموذج العراقي في كل من سورية وإيران، فالعبرة بالنتائج وليس بالوسائل. وربما لا يتطلب الأمر سوى بعض الإجراءات اللازمة لتوليد قدر من الهلع كافٍ لحمل الأطراف المعنية على تقديم التنازلات المطلوبة لتسوية بالشروط الإسرائيلية. ومع ذلك لا يتعين استبعاد وقوع جناح الصقور في الإدارة الأميركية، بسبب النصر السهل والسريع الذي تحقق أو بسبب العقيدة المستمدة من تعاليم المسيحية الصهيونية، تحت إغراء استسهال النموذج العراقي. وإذا حدث ذلك فلن تكون حرب العراق هي الحرب الوحيدة التي تشنها الولاياتالمتحدة لمصلحة إسرائيل وبالنيابة عنها، وإنما ستكون مجرد بداية لسلسلة حروب أخرى في المنطقة تلوح في الأفق. ومع ذلك فإن احتمال نجاح هذه الاستراتيجية يبدو ضئيلاً جداً، على رغم ما قد توحي به ظواهر الأمور. فالانتصار العسكري السهل الذي حققته الولاياتالمتحدة في العراق، والذي كان متوقعا على أية حال، لا يعني أبداً أن انتصارها السياسي بات في متناول اليد، وسورية وإيران ليستا العراق. وعلى الولاياتالمتحدة أن تدرك أن الثمن السياسي لهذا الانتصار السهل في العراق سيكون كبيراً. فغالبية الساحة من الشعوب العربية، بمن فيها الشعب العراقي نفسه، بدأت تدرك، وللمرة الاولى، أنه لم يعد هناك أي فارق بينها وبين إسرائيل، وهو أمر ستكون له انعكاسات هائلة على مستقبل ومصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة. وقد آن الأوان لكي يدرك الشعب الأميركي، بل وشعوب العالم المحبة للسلام، أن سيطرة مجموعة متطرفة على الإدارة الأميركية بات يشكل خطرا حقيقيا على الاستقرار ليس في المنطقة وحدها وإنما في العالم أجمعه وعلى أية حال فإن الإدارة الأميركية تمر الآن بمرحلة اختبار حقيقي وبوسعها تكذيب كل هذه التحليلات والاستنتاجات. فبإمكانها أن تسحب قواتها بسرعة من العراق وتطلب من الأممالمتحدة إرسال قوات حفظ سلام لتحقيق الأمن والإشراف على انتخابات حرة هناك، وبوسعها أن تنشر خارطة الطريق من دون أن تسمح لشارون بالتلاعب بها وتدعو اللجنة الرباعية لاستكمال عملها على الفور. ولو فعلت ذلك لأثبتت بالدليل القاطع عدم وجود فجوة بين نياتها المعلنة والخفية. غير أن منطق الأمور يقول إن الولاياتالمتحدة لا تسعى إلى إقامة نظام ديموقراطي في العراق بقدر ما تسعى إلى إقامة نظام عميل لها، وأن شارون لا يريد خارطة طريق يفضي إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ولكنه يريد خارطة طريق يفضي إلى دويلة فلسطينية تابعة لدولة إسرائيل الكبرى. ولأننا على يقين من أن شارون لم يتغير وأنه لن يكون بوسع الولاياتالمتحدة، خصوصا في ظل إدارة من هذا النوع، أن تضغط للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة، فإننا نتوقع السيناريو الأسوأ. والأيام حكم بيننا على أية حال. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.