كثيرون من المثقفين المصريين وضعوا ايديهم على قلوبهم بعد ان بارح المفكر الفرنسي الكبير جان - بول سارتر بلادهم في ختام زيارة قام بها وصديقته الكاتبة سيمون دي بوفوار ودامت اياماً عدة. وسبب ذلك التوجس كان في معرفة اولئك المثقفين ان صاحب "الكينونة والعدم" اعتاد ان يعبر عن خيبة امله بسرعة بعدما يزور بلداً تدفعه حماسة معيّنة اصلاً لزيارته. فإذا بما يراه ويختبره شخصياً، يخفف من درجة حماسته فيعبر عن الخيبة، ما يجعل للبلد سمعة غير طيبة، على الاقل في اوساط مثقفي العالم. والحال ان مصر كانت في ذلك الحين في حاجة ماسة الى ان يساندها اولئك المثقفون، وسط ركام من المعارك المباشرة السياسية والعسكرية او غير المباشرة الحضارية التي كانت تخوضها. ثم، خاصة، في وقت كان فيه من الواضح ان ثمة حرباً جديدة بين العرب واسرائيل تلوح في الأفق وتبدو وشيكة. وشخص مثل سارتر، وايضاً مفكرة من طراز رفيقته سيمون دي بوفوار، كانا نافعين لمساندة الموقف المصري، اذا ارتأيا مساندته ولو جزئياً، لأنهما كانا معروفين بمناصرتهما اسرائيل. من هنا اعتبرت زيارة سارتر ودي بوفوار الى مصر تاريخية. وستكون تاريخية ايضاً مواقفه التي راح يعبّر عنها خلال الفترة التالية، لا سيما بعد ان زار اسرائيل آتياً من مصر، قبل ان يعود الى فرنسا حيث عبّر لاحقاً عن تفهمه للمواقف المصرية وأبدى شيئاً من العتب على اسرائيل. ولقد تجلى ذلك كله في عدد ضخم واستثنائي اشرف جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار على اصداره بعد شهور قليلة من ذلك، من مجلة "الازمنة الحديثة، التي تتحلق من حول سارتر ودي بوفوار وأفكارهما. فالحال ان ذلك العدد التاريخي اتى محايداً، وكتب فيه، من دون قيد او شرط، العديد من مؤيدي الحق العربي الذين هيمنوا عليه بأكثر مما فعل مؤيدو الصهيونية. ولقد كان في وسع المثقفين المصريين يومذاك ان يتنفسوا الصعداء. وكذلك بات في وسع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي كان - خلال زيارة سارتر ودي بوفوار الى القاهرة - قد حرص على ان يستقبلهما بنفسه وأن يقدم لهما وجهة نظره في القضايا الشائكة وفي مقدمها القضية الفلسطينية. قضى سارتر ورفيقته في ذلك الحين 17 يوماً في مصر، كانت برامجهما خلالها حافلة، اذ بالاضافة الى الندوات واللقاءات العديدة التي اجريت مع كبار المفكرين المصريين، وبالاضافة الى الزيارات التقليدية الى المتاحف ومناطق الآثار، ودور الصحف والمراكز الثقافية، نظمت للزائرين - بناء على طلبهما - زيارة قاما بها الى المخيمات الفلسطينية في غزة - وكانت يومها لا تزال في عهدة المصريين، ورتب لهما ايضاً حضور عرض لمسرحية "الذباب" لسارتر نفسه، والتي كانت ترجمتها العربية تعرض في القاهرة حينها... بنجاح كبير. غير ان ذروة ذلك كله كانت، بالطبع، زيارة الضيفين الرئيس عبدالناصر في بيته. واللافت ان الحوار بين الريّس والمفكرين دام نحو ثلاث ساعات. وفيه اتى عبدالناصر على ذكر العديد من الامور، وقال لسارتر ان له قراءً مخلصين يتابعون كتبه ويتأثرون بأفكاره في العالم العربي، كما قال له انه هو شخصياً قرأ العديد من دراساته وكتبه، لا سيما ذات المضمون السياسي منها، مثنياً على وقوف الفيلسوف الى جانب العالم الثالث، ومثنياً في الوقت نفسه على كتابات سيمون دي بوفوار حول المرأة والقضايا الاجتماعية. كانت جلسة طويلة ومفيدة، وحرص سارتر على ان يقول بعدها انه كان شديد التأثر بذلك اللقاء الحار الذي جمعه بجمال عبدالناصر اذ اكتشف فيه "زعيماً فطناً، صائباً وبعيد النظر". يوم 14 آذار مارس اذاً غادر سارتر ودي بوفوار مصر سعيدين بما حققاه فيها، وتوجها الى اسرائيل لإستكمال جولتهما من حول القضية الفلسطينية. واللافت ان الصحافة الاسرائيلية استقبلتهما يومها بكثير من الانتقاد الذي طاول مجمل نشاطهما القاهري، بما فيه اللقاء مع الرئيس عبدالناصر.