كتب فولني في إحدى رسائله «هاهو الطفل قد عاد إلى أهله.. لم يستطع النظر طويلاً بوجه الشمس..»، وقد تنطبق هذه الحكمة كثيراً على سارتر وعلى مواقفه ولا سيما في قضية عادلة وجوهرية كفلسطين، وكموقف من مواقفه الصعبة من الأمم المغدورة في ذروة حركة التحرر الوطني والقومي في العالم وتصفية إرث الاستعمار، لا كموضوعة أخلاقية وهو الذي دشن بعمق الفلسفة الاخلاقية بوجوديته والتزامه، إنما كقضية إنسانية أيضاً، فالموقف هنا هو ثقافي بالتأكيد حيث تحرض الثقافة نحو ما يطلق عليه دريدا بتفكيك الحق.. طالما أن العدل لا يمكن تفكيكه، غير ان الأمر كان على خلاف ذلك، ولذا بقيت هذه الموضوعية خدشاً كبيراً في ضمير سارتر، وضمير تابعيه من العرب زمناً طويلاً. لقد شكلت مواقف سارتر الواضحة من حرب الجزائر وفيتنام نصراً كبيراً للوجوديين العرب، فقد كان موقفاً عادلاً، وواضحاً وجلياً، وقد كرس نفسه ومجلته الأزمنة الحديثة في تلك الفترة لخدمة هذه القضية، ووقف بحزم وشدة لا تلين بوجه اللوبي الذي كان يناصر مبدأ القوة والاحتلال والاكتساح والاجتياح والتدمير والاجتثاث الثقافي، لكن موقفه من القضية الفلسطينية كان مخيباً على نحو فاضح، وقد عانى المثقفون العرب الذين بشروا بالوجودية أو الذين ناصروها بشكل علني أو الذي حسبوا انفسهم على تيارها مشاكل جمة في تبرير مواقفه أو شرحها وهم الذين ربطوا دون مسوغ بين النضال القومي والنزعة الفلسفية الوجودية. طبعاً وللأمر قصة طريفة يمكن الآن سردها: في العام 1967 وقبل اندلاع حرب الأيام الستة قام سارتر رفقة سيمون دوبوفوار وكلود لانزمان رئيس تحرير مجلة الازمنة الحديثة آنذاك، بزيارة مصر الناصرية بدعوة من صحيفة الأهرام، وكان في استقباله مجموعة من المثقفين المصريين من بينهم لطفي الخولي واحسان عبدالقدوس وفتحي خليل وانيس منصور الذين حاولوا شرح القضية الفلسطينية وأبعادها بصورة مستفيضة، وقد بقي سارتر وبوفوار ولانزمان أسبوعين في مصر، زاروا أثناءها المعامل والجامعات والقرى، والتقو بالمثقفين والسياسيين ومن بينهم عبدالناصر، وقاموا برحلة إلى قطاع غزة واطلعوا عن كثب على معاناة اللاجئين الفلسطينيين، وأكد سارتر تفهمه للمأساة الفلسطينية في لقائه مع طلبة جامعة القاهرة، وعد حق عودة اللاجئين أمراً لا تنازل عنه وفق صيغة من صيغ التعايش مع الإسرائيليين، وقرر أن يكون عدد الأزمنة الحديثة المقبل مخصصاً لشرح وجهتي النظر الاسرائيلية والعربية من القضية الفلسطينية، كما وعد بعدم مشاركته في العدد التزاماً منه بالحياد والموضوعية. بعد عودة سارتر الى باريس بأيام اندلعت حرب الأيام الستة فقد شنت إسرائيل هجوماً غادراً واحتلت أراضي عربية، وربما انقسم العالم إبان ذاك إلى نصفين، غير أن سارتر كان يعرف المكان الذي عليه أن يصطف داخله، فقد وقف دون مواربة مع الصف الإسرائيلي ووقع مع عدد من المثقفين اليمينيين عريضة تضامن مع إسرائيل وتدين العرب، وقد صعق الوجوديون العرب ولا سيما الذين كانوا في باريس من موقف سارتر الجنوني، وقد قال عبدالكبير الخطيبي: «الأمر واضح لا لبس فيه.. قامت إسرائيل باحتلال أراض عربية... كيف يمكن لسارتر أن يوقع عريضة تدين الذي وقع عليه فعل الاحتلال...». أنا أعتقد أن سارتر شعر بهذا التمزق الاخلاقي، وشعر بالاضطراب والتلكؤ وعدم القدرة على التمييز الحقيقي، وهذا ما دفعه إلى الإلحاح على مقابلة لطفي الخولي عند زيارته لباريس بعد هذه الحادثة بأعوام، وحاول شرح الظروف والملابسات التي جعلته يوقع هذه العريضة ومحاولته الاتصال ببعض المثقفين العرب لشرح موقفه.. غير ان هذا الأمر لم يكن مهماً على الاطلاق، فسارتر بقي محافظاً على علاقته الاستثنائية بالدولة العبرية وبمثقفيها وبمؤسساتها، وكتب لطفي الخولي في كتابه المميز لقاء مع برتراند رسل وسارتر، ان سارتر أكد له على ضرورة ايجاد صيغة عادلة تتيح التعايش بين الاسرائيليين والفلسطينيين ضمن دولة واحدة وبأن الرأي العام الفرنسي منحاز لاسرائيل بسبب حرب الجزائر، إلا أن سارتر مثله مثل أكثر المثقفين الفرنسيين كان يرزح تحت عقدة الهولوكوست. الصورة الأخيرة لسارتر في الثقافة العربية إن الصورة الأخيرة لجان بول سارتر في الثقافة العربية هو ما رواه إدوارد سعيد عن اللقاء الذي تم بين المثقفين العرب والإسرائيليين في شقة ميشال فوكو، فقد وقع سارتر في شيخوخته تحت قبضة سكرتير يهودي غريب الأطوار. وقد سرد سعيد بنبرة حزينة إحباطه حيال طريقة تنظيم اللقاء بين المثقفين الاسرائيليين والعرب والفرنسيين، واندهش من الحالة المزرية التي صار بها سارتر في نهاية عمره وخضوعه التام لشخص غريب الأطوار يدعى بيار فيكتور وهو الاسم المستعار لبيني ليفي، اليهودي المصري الذي تزعم تياراً طلابياً ماوياً يدعى اليسار البروليتاري أثناء انتفاضة 68. وقد تعرف عليه سارتر إلى جانب أشخاص آخرين وأسهم معه في تأسيس صحيفة ليبراسيون في العام 1971 ثم تحول الى سكرتيره الخاص من العام 1973 حتى وفاته في العام 1980. وهي الفترة التي تحول فيها سارتر إلى خرف، وضرير، ومهلوس، وقد هيمن عليه (بيني ليفي) وأحكم سيطرته عليه، وفرض عليه شروطاً وقنن لقاءاته حتى مع أقرب اصدقائه، وقد نشر سلسلة من الحوارات المطولة معه، ظهر فيها هذا الأخير بصيغة مناقضة كلية لأفكاره ولوجوديته ولإرثه الفلسفي، نشرتها اسبوعية لونوفيل أوبسيرفاتور. فأثارت هذه الحوارات حينها ضجة كبيرة دفعت بسيمون دو بوفوار الى الاحتجاج واتهام بيني ليفي بالاستحواذ المطلق على سارتر.. الصورة الأخيرة لسارتر مخزية للوجوديين العرب، فسارتر يهذي، ويرى بصعوبة، يأكل ويتساقط الأكل على قميصه.. والعهدة على إدوارد سعيد.