أتابع كتابات المفكر وعالم اللغويات Linguistics اليهودي الأمريكي الشهير البروفيسور نعوم تشومسكي منذ بداية عقد الثمانينيات، وقمت بترجمة وعرض العديد من كتبه ومقالاته خلال العقدين الماضيين، التي كان هدفه منها جميعًا فضح الادّعاءات الأمريكية بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، في الوقت الذي اعتبر فيه أمريكا ليست فقط الدولة الأولى في العالم انتهاكًا للحقوق والحريات، وإنما أيضًا الدولة الأولى في ممارسة الإرهاب الدولي، وهو ما أثبته في كتبه ومقالاته التي تمحورت حول تلك الانتهاكات والممارسات في فيتنام وأمريكا اللاتينية، وفي فلسطين التي احتلت مساحة بارزة في كتاباته التي عبر فيها بشجاعة وشفافية عن انتقاده لإسرائيل والتحالف الأمريكي - الإسرائيلي الموجّه أساسًا لدعم الاحتلال وممارسة أساليب القمع والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني. هذا القول يأتي في مناسبة زيارة تشومسكي مؤخرًا لقطاع غزة هو وزمرة من الأكاديميين والمفكرين من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكندا بعد محاولات عديدة سابقة لم يكتب لها النجاح بسبب الرفض الإسرائيلي. والحقيقة أن هذه الزيارة ذكّرتني بزيارة مماثلة قام بها الفيلسوف والأديب الفرنسي المعروف جان بول سارتر وزوجته سيمون دوبوفوار وكلود لانزمان رئيس تحرير مجلة الأزمنة الحديثة بعد زيارتهم لمصر على إثر دعوة تلقوها من صحيفة الأهرام للتعرف عن كثب على معاناة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات القطاع. وقد اندلعت حرب حزيران بعد تلك الزيارة ببضعة أشهر، وإذا بسارتر يخيب آمال المثقفين العرب بتوقيعه علي عريضة في غاية الإجحاف تتضامن مع إسرائيل وتدين العرب والفلسطينيين. لعل القاسم المشترك بين سارتر وتشومسكي ليس فقط في كونهما من أبرز مثقفي العصر، وأشهر المقاتلين الغربيين من أجل حرية الإنسان، وهو ما تمثل في حالة سارتر في وقوفه ضد حرب فيتنام ومن قبل في مناصرته للقضية الجزائرية، وفي عمله الضخم (دروب الحرية) بأجزائه الثلاثة، وإنما أيضًا، ولعله الأهم، في موقف الرجلين من القضية الفلسطينية، فسارتر تظاهر بادئ الأمر بالتعاطف مع الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين في غزة، لكنه لم يلبث أن أفصح عن موقفه الحقيقي بعد اندلاع حرب 67 عندما وقف إلى جانب العدوان الذي أدّى إلى المزيد من المعاناة والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني. تشومسكي، على النقيض من ذلك، لم يتزحزح عن تشبثه بموقفه الثابت والشجاع الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة منذ سبعين عامًا بما في ذلك حقه في الحياة وتقرير المصير والدولة الحرة المستقلة، ولم تثنه الحملات الصهيونية التي تستهدفه منذ عدة عقود عن تغيير موقفه، والدليل تلك الزيارة التي تعتبر بمثابة كسر للحصار الثقافي والأكاديمي للقطاع. الهدف المعلن عن الزيارة المشاركة في مؤتمر اللغة الإنجليزية الدولي الأول في اللغة وآدابها واللسانيات الذي تستضيفه الجامعة الإسلامية في غزة، أما الهدف الحقيقي فهو كسر الحصار الإسرائيلي، وإرسال رسالة من غزة إلى العالم كله بأن مفكري وأحرار العالم يقفون بصلابة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ضد الاحتلال والحصار والجدار.