على رغم الانحدار العام في مستوى الغناء العربي خلال ربع القرن الأخير من الزمن، أي منذ انتهاء "العصر الذهب" للأغنية العربية، نعرف طبعاً، ان ثمة فنانين من أمثال هاني شاكر وعلي الحجار وماجدة الرومي وجوليا ومحمد الحلو ومحمد منير وغيرهم، ظلوا يدافعون عن شرف الأغنية العربية ويسهمون في الحفاظ على خيارات متميزة في مجالي الكلمات والألحان. ولكن من الواضح ان وجود هؤلاء، ثم انبعاث أصوات جديدة خلال مراحل تالية، لم يتمكنا من قلب التيار نهائياً، إذ ظل السائد هو الأغاني الخفيفة الموسومة ب"الشبابية"، والتي عملت التلفزات عموماً على الترويج لها بتحويل الأغنية شريطاً راقصاً يضم المغريات كلها باستثناء الفن الأصيل نفسه. هذا الواقع جعل كثيرين يبتعدون عن الغناء، وييأسون من أي تجديد، وكانت النتيجة التمسك بأغاني العصر الذهب وابقاء الاتصال، فنياً، مع أسماء كبيرة رحلت أو صمتت أو غيّبت في مهاوي النسيان. ولكن في المدة الأخيرة، وحتى قبل الانتفاضة والأحداث السياسية المتلاحقة خلال الأشهر الأخيرة، والتي أعادت نوعاً من الجدية والكرامة الى بعض الفنون العربية ومنها فن الغناء، بدا كأن ثمة انبعاثاً للفن الجميل، وتحديداً لفن الغناء الجميل. ومن المرجح ان استعادة عدد من فناني الأغنية الشبابية، بعض الأغاني القديمة، مثل أغاني ليلى مراد وأسمهان وفايزة أحمد وعبدالحليم حافظ، أسهمت في توعية أجيال جديدة من المستمعين على وجود غناء حقيقي وجميل يختلف في كلامه وموسيقاه ومناخاته العامة، عن السائد في الغناء. وفي اختصار، كان لا بد لهذا كله من أن يؤتي ثماره. والثمار اليوم مجموعة من المغنين والمغنيات، معظمهم آتٍ من معطف أم كلثوم أو من عوالم محمد عبدالوهاب ليرفد الحياة الفنية العربية بجديد. ومن المؤكد ان نجاحه المتزايد، بفعل جماله الخاص ولكن أيضاً بفعل عوامل سياسية جديدة أو متجددة، سيكون ذا أثر كبير في نهضة غنائية عربية جديدة. وقد يكفينا، في هذا المجال، أن نذكر فنانتين شابتين، خرجتا معاً من معطف الغناء الجاد الجميل، لتشكل كل منهما شخصية استثنائية محببة، ونعني بهما أنغام وغادة رجب. الأولى أثبتت مكانتها منذ سنوات وبدأت تتسلق سلم نجاح حقيقياً، وغالباً بفضل ألحان يضعها لها أبوها الفنان محمد علي سليمان. والثانية بدأت تطل اطلالة قوية، بعد بداية كلثومية لافتة. الاصغاء الى آخر أغاني أنغام وغادة رجب، والانتباه الى حسن اختيارهما الكلمات والالحان، أمران سيضعاننا مباشرة في مناخ من التفاؤل بمستقبل قريب يحل فيه الغناء الجميل محل الخبطات السريعة، أو تضطر معه التلفزات أكثر وأكثر الى ابدال فن غناء حقيقي بأغاني الايقاع الراقصة والسريعة، ذكرنا هنا اسمين من أسماء أصحابه، ولكن في وسعنا كذلك أن نذكر أسماء أخرى بينها جديد يطل مفعماً بالطزاجة وحب الفن، وبينها قديم متواصل صمد على الجمال، أو عاد اليه بعد غيبة. "عين"