الكتابة الأدبية، خصوصاً الرواية، يفترض ان تعنى بما هو أكثر حركة وأكثر سخونة في المجتمع، لكن الروائي العربي لم ينجز هذا الأمر، فكيف يستطيع كاتب يعيش حياة هامشية ان يلتقط قلب المتن المتحرك ويكتبه؟ يختار الكاتب ما يعرف: سيرته الشخصية أو سيرة أهله وأصدقائه، الحدث السياسي والاجتماعي في انعكاسه على الأفراد العاديين، صراعات الاحزاب أو الصراع داخل الحزب الواحد بين أحساس فردي غنائي بالمبدأ وبراغماتية تعتمدها القيادات. حقل المعرفة والخبرة المحدود هذا يتكرر في السرد العربي المعاصر، وإذا أراد الكاتب هروباً فإلى سرد ماضوي يستند الى مرجعيات تاريخية عمومية ايضاً، ذلك ان كاتب التاريخ العربي، في عصوره كافة، ليس أحسن حالاً من السارد المعاصر، يردد مثله الأقاويل ويحاول مثله تحليلها وفق مزاجه وهواه، ولا يستطيع من موقعه الهامشي ان يطول متن حدث كبير تشكل تداعياته البعيدة مادة السرد التاريخي فالسرد الأدبي. كم يبدو الأديب العربي بعيداً عن مواقع القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتحكم بمصائر المواطنين وبالتالي بمصائر أبطال القصص المتخيلين. وفي الوضع العربي الحالي تضيق دائرة القرار لتقتصر على مجموعة مستشارين أغلبهم مجهول وخارج الصورة المعلنة للناس تتخذ قرارات تؤثر في الحياة العامة والشخصية لشعب بكامله، احياناً بطريقة غير متوقعة وفي مواعيد مفاجئة. وربما أدت هذه القرارات الى إلغاء أفكار متعارف على أنها افكار السلطة يرددها المجتمع، وربما صعّدت أفكاراً كانت تعتبر من ضروب "الخيانة". لا يسمح أصحاب القرار للكاتب بأن يعايشهم في اللحظات الخاصة وان يطلع على معطياتهم السرية، وليس من وثائق يمكن الاطلاع عليها لاحقاً إذ أن أصحاب القرار العرب مقدسون ولو بعد مئات السنين، يتركون للكاتب ما هو معلن ومطلوب ان يذاع على الناس. وقد يلجأون اليه لكتابة سيرة شخصية تعادل البيان الاعلامي ولا تزيد سوى ببعض الزينة والتفاصيل. مثلما فعل جمال عبدالناصر حين سمح لعبدالرحمن فهمي بإكمال رواية كان الزعيم المصري الراحل بدأ كتابتها في شبابه. ومثلما فعل صدام حسين حين دعا كتاباً عراقيين الى جلسات يروي فيها شفهياً حكايات حياته، ونظم مسابقة لأفضل رواية تستند الى هذه الحكايات فازت فيها رواية عبدالأمير معلة "الأيام الطويلة". لكن الكاتب الفلسطيني أفنان قاسم الذي انتظر أربعين يوماً لمقابلة الرئيس ياسر عرفات أثناء اقامته في تونس، كتب يوميات انتظاره وتخيل "المشاغل الجليلة" التي تمنع عرفات من استقباله، وأصدر عن ذلك روايته الساخرة "أربعون يوماً في انتظار الرئيس" صدرت في طبعة محدودة في الجزائر، ويبحث عنها القارئ اليوم عبثاً فلا يجدها ولن يجدها. ومثل الرؤساء هناك قادة سلطات أخرى في مجتمعاتنا: رؤساء الميليشيات والأحزاب المتعسكرة والطوائف المنكفئة ومافيات المخدرات والتهريب. قادة لا يعرف الكتّاب عنهم شيئاً على رغم تحكمهم في حياة الناس ومصائرهم وحتى في حياتهم الوجدانية والروحية. ليس المطلوب الادانة أو المدح من الناحية الأخلاقية، وانما المطلوب حضور الكاتب في متن الحركة حتى يكتب عنها، فيما هو مغيّب، وغالباً مرتاح الى غيابه، يكتب عن الأصداء من موقع هامشي ويزيّن ذلك بالشكوى والبراءة. مع ذلك تزداد في أدبنا العربي المعاصر الحساسية السياسية، حساسية التابع البوق أو الهامشي الحزين، تدعي معاناة السياسة لكنها تجهل بعمق مواقع القرار فتهتز للمفاجآت كاهتزاز أي مواطن عادي.