هناك من الروايات ما يكون جميلاً ومعبرًا وهو يتعاطى مع اليومي والعابر والأحزان والأفراح الشخصية، وهناك منها ما يكون ذا طابع ملحمي وهو يطل على مجتمع بأكمله فيقبض على فضائله وآثامه ويختار، لسبب فني ما، عينات منه ليجعلها محاور تدور حولها الرواية، وهذا الطابع الأخير هو الأكثر عمقًا ورسوخًا والأبلغ في الدلالة والتأثير، وهكذا كانت (شارع العطايف) لعبدالله بن بخيت الصادرة حديثًا عن دار الساقي ببيروت. ابن بخيت القادم مما يشبه الحداثة والخارج عليها وعلى فنونها الأدبية النخبوية إلى رحابة المقالة الصحافية الرشيقة؛ اختار أخيرًا أن يدلف إلى الرواية مثقلاً بأسلحته الناقدة التي صقلها طول الكتابة في الشأن الاجتماعي، ليقدم أكثر الروايات التي عرضت فترة السبعينيات تماسكًا، ولعل أكثر الأسئلة التي كانت تجابه قارئ ابن بخيت وهو يستعد لقراءة (شارع العطايف) هو ما الذي سيتسرب من مقالات ابن بخيت إلى روايته ؟ فمن المفروغ منه أن أي كاتب يعمد إلى تمرير مشروع ما إلى قرائه، وبخاصة إذا كان هذا الكاتب يتعاطى القضايا الاجتماعية السعودية الحساسة كالفتاوى والتدين السلفي والصحوي والمرأة والحريات الاجتماعية، وابن بخيت الكاتب تعامل مع هذه القضايا بمبضع جراح مرة وبساطور قصاب مرات أكثر حتى أثار حوله عواصف أكثر من تلك التي تدهم بغير شفقة أجواء الرياض كل ربيع . لهذه الأسباب كان متوقعا أن يكون المسكوت عنه في هذه الرواية تشريحًا لأكثر المجتمعات محافظة وتشددًا، والحال أن ابن بخيت كان صريحًا وكاشفًا في روايته وهو يقارب هذه الموضوعات، غير أن الرواية ارتفعت عن الصراعات الصغيرة والنمائم السياسية والاجتماعية، وبنفس روائي مقتدر أطل ابن بخيت على كل هذه القضايا بنظرة بانورامية فلم يغره طول التجربة المقالية، ولم تستفزه مواقف شخوصه العصاة ليكتب رأيًا أو حتى ليقدم موعظة ثقيلة لأبطاله المشوّهين أخلاقيًا، لكنه قبض على زمام السرد فحسب وترك للرواية أن تقول ما تشاء. الفنون لا تحاكم أخلاقيًا، وبخاصة أنها تتوسل بالواقع الذي طالما كان أشد مأسوية من أكثر السوداويين بشاعةً، وكما أن المشاهد لا يستطيع محاكمة كاتب أو مخرج هوليوودي في أبطاله المجرمين أو الشاذين والمرتكبين؛ فإنه لا يستقيم فنيًا مساجلة ابن بخيت حول أخلاقيات شخصياته الآثمة والمقهورة في آن، واختيارها موضوعا للسرد، بالمعيار الفني وحده يمكن مجادلة ابن بخيت حول مئة وعشرين صفحة من الألم النفسي في قراءة المكسور روحًا والمنتهك جسدًا (فحيج) وبالمعيار نفسه يمكن مقايسة (شنغافة) الشخصية التي تقدم لأول مرة بهذا السطوع وهذا التقمص الذكي لرقيق معتق حديثًا في تلك الفترة المفصلية من عمر الرق في السعودية. على أن ابن بخيت لم يترك شخصياته تتمرد على مشروعه، فحتى لو زعمت تلك الشخصيات أن الحب هو محركها، فالحب في هذه الرواية معاق ومحكوم عليه بالفشل سلفًا لدى (شنغافة) و(سعندي) فبينما كان الحب مجرد مخرج لناصر من جرحه المفتوح، جاءت (معدية) معبرًا لتيسير إلى شرعيته الاجتماعية فحسب، كما كانت (بنت مستورة) لسعندي متنفسًا مراهقًا لبطالته وفشله أو قبحه كما عبر ابن بخيت. وفي خضم ما أطلقت عليه دور النشر روايات سعودية تجيء شارع العطايف مفردة وبريئة من الترهل، ولايجب أن تسهم ملاحقة الحسية العارمة في الرواية والرغبات والصبوات والاقترافات والمشاهد الممنوعة في طمس أحداث أكثر أهمية تناسلت لتعالج قضايا اكتنزت بها الرواية كالنفاق والتكاذب الاجتماعي، والتحرش، والمرابين الجشعين في (المحيفرة) ومشكلة النزوح الجماعي للشباب إلى السفر والاستعطاء والبطالة والجهل والفقر والقسوة والانهيار الأسري والخدمات الصحية ... كأنما هي شهادة المهمشين في العالم السفلي وأهل القاع على مجتمع نسيهم أو تناساهم، إنها صرخة المعدمين في وجه الثراء والمعتلين في وجه السلامة، وإذا كانت شارع العطايف تنقل الكتابة الروائية في السعودية إلى مستوى آخر أكثر نضجًا وأكثر متانة؛ فإنه لا يمكن فحصها إلا بإزاء أعمال عربية من مستواها، ومعها يمكن استعادة تلك الخضَّة التي أحدثها محمد شكري في سيرته الروائية أواخر الثمانينيات على مستوى النقد والكتابة الروائية العربية، بل إن التقارب بين ما أحدثته سيرة شكري و ما ستحدثه، قطعا، شارع العطايف لا ينحصر في الهزة العنيفة للشكل التقليدي من البناء والكتابة الروائية ولا في التجاسر على المحظور وتناول الممنوع وتسميته باسمه؛ بل يتجاوز ذلك إلى تماثل فيما سمي الكتابة الجديدة التي تسرد عبر فلاشات صغيرة ومقطَّعات لا تستخدم الجمل الطويلة ولا تحتاج إلى الفواصل وحروف العطف، إنها تعتمد في تصوير لقطاتها على إضاءة سريعة على المشهد الذي يستغرق في الكتابة التقليدية فقرات كاملة، هكذا جاءت جمل ابن بخيت وجمل شكري، وإذا كان الدكتور صبري حافظ قد نقل عن شكري قوله إنه كتب الفصل الأول من (الخبز الحافي) في مقبرة؛ فان القارئ سيتذكر تمامًا كيف كانت المقبرة في شارع العطايف موقعًا لمآسٍ كثيرة. لكن الممايزة بين الكتابتين يمكن لمسها بوضوح لأن عدسة ابن بخيت تلتقط مشهدًا أكثر اتساعًا، فهو لا يسرد حكايته الشخصية مباشرة كما فعل شكري، بل يخلق عوالم جديدة ويؤرخ لمرحلة صعبة، كما أن ابن بخيت تجاوز بمهارة في روايته الأولى لعبة السرد المنتظم إلى صناعة روائية تقنية معقدة على مستوى الزمن، فالمشاهد عنده متداخلة والزمن فيها يسرد بنظام تداعي الأفكار واستعادتها دون ترتيب منطقي، إنه التكنيك الاسترجاعي الذي استقدمه الروائيون من كتاب السيناريو في السينما، بحيث يتعانق زمنان وصوتان لينتجا تداعيًا حرا للأحداث، ورغم ما أحدثه ذلك من إرباك فإن ابن بخيت كثيرا ما نجح في إثارة القارئ وتشويقه لملاحقة الأحداث ومتابعة خباياها، وبخاصة أنه زرع المفاجآت و الخيبات في كل مكان، فظل القارئ يلاحق صفحاتها ليتابع مصائر الشخصيات الرئيسية، بل ليطل بفضول على مآلات هامشية كالرضيع المدفون في المقبرة وضياع (معدية) و(بنت مستورة) وكنز (شنغافة) المدفون في قبو النادي، إلى أن يفاجأ بأن الروائي خاتله بتركها مفتوحة على التأويل والاحتمال . نساء حلة ابن بخيت مهمشات في الرواية كما هن في الواقع، فلا صدى لما تريده (نوف) حقًا ولا تعرف ما حكاية (معدية) ولا استنطاق (لبنت مستورة) التي لا تفاصيل عنها سوى شبهها بسميرة توفيق وأثاث غرفتها، لقد جاءت النساء في هذه الرواية ليكن مجرد عناصر رديفة لحكايات الشخصيات الرئيسية الثلاث، ناصر وتيسير وسعد، الذين استفردوا بصفحات الرواية، وهو أمر قد يتيسر تبريره كما في أمهات الروايات العالمية التي تستخدم شخصيات غير واضحة المعالم لتدعيم شخصيات الرواية وأبطالها فحسب؛ لو أن ابن بخيت برر تمامًا تصرفات أبطاله، فإذا كان مفهومًا ومبررًا روائيًا انتهاك (فحيج) كحدث محوري ومنعطف دمّر حياته، فليس مبررًا مطلقًا استمراؤه هذا الانتهاك بدون تفسير يورد ولو في سطر واحد، كما أن (شنغافة) مدمن الخمر وصانعه والمشتهر باستهتاره وتهتكه يقوم على خدمة (معدية) ثلاث سنين طوال دون مقابل، وهو الجشع السكير، بانتظار أن تتطوع الرواية لمكافأته على ذلك بشكل مفاجئ، ويظل (سعندي) رغم كثرة الأحداث الواقعة على هامش فصله شخصية باهتة بالمقارنة مع سلفيه المثيرين، رغم أن مواصفات شخصيته هي أكثر من زميليه تمثيلاً لقطاع عريض من أبناء ذلك الجيل . لكن أكثر ما يلفت في هذه الرواية الغنية هو نقص القادرين على التمام؛ فابن بخيت حيّر قارئه في أسماء الأماكن بين الحقيقة والافتراض وهو أيسر الأمور التي كان يجب حسمها مبكرًا، كما أنه في الوقت الذي أتقن حياكة مواقف ساخرة بقدر ما هي ساخطة وأمتع متابعيه بلغة طازجة وتلقائية عززها بمعالجات فلسفية ووجودية ونفسية رصينة، يعود بين حين وآخر ليقع في ما لا يجب أن يقع فيه من مثله، فقد تعامل بخفة مع مشاهد جوهرية أنهكته في بنائها لكنه استسهل توصيفها بأقرب تعبير عامي، وإذا ما تجاوزت بعض الأخطاء اللغوية النادرة مقارنة مع ما ينضح في الروايات مؤخرًا،كأنما أصبحت قدرا في الروايات الحديثة؛ فلا يمكن أن تتجاوز عن الوقوع أسيرًا لأوصاف عامية متواضعة كما في وصف الممرض بجنسيته (المصري) . الرواية خدعة أو خرافة تقلد الحقيقة كما يعبر النقاد، لكن ابن بخيت جعلها بمهارة واقعية أقرب ما تكون إلى السجل المفتوح الذي يشار إلى موقعيه بالبنان، فجاءت شارع العطايف شهادة للمحرومين والذوات الغائبة على واقعهم المعلن وحكاياتهم السرية، وتكاملت تلك الشهادات المقتصدة في اللغة بومضات تأملية تمنحها الرواية لكل من يتوغل في صفحاتها أكثر، ويظل التحدي الأكبر أمام ابن بخيت الآن وهو يراقب قراءات روايته هو مواصلة هذا المشروع الذي سيكون سفرًا للفقر والقهر والبؤس والمأساة البشرية التي أحدقت بهذا المجتمع في مرحلة لم تؤرخ روائيًا ولا اجتماعيًا، شرط أن يمر على نماذج أخرى جديدة خلاف تلك التي غطاها شارع العطايف بما يفيض عن الوصف، وسيكون عمله القادم إن جاء بالمستوى نفسه شبيهًا بتلك الملاحم الروائية التي تأخذ ركنًا عزيزًا في النفوس والمكتبات والتاريخ الفني والاجتماعي.