في كانون الثاني (يناير) 2004، افتتح موقع فايسبوك على الانترنت، في حرم هارفرد الجامعي وكلفة بلغت ألف دولار أميركي. وبعد 6 سنوات أحرز الموقع أعظم نجاح في تاريخ الشبكة العنكبوتية: زاد عدد المشتركين على 500 مليون في 200 بلد. وعلى ما أعلم، لم يقسر أحد أحداً ولم يجبره على الاشتراك. وعندما يستجيب امرؤ من 14 من سكان الارض الدعوة، فلا بد من الاقرار بأن المسألة على جانب من الجد والخطر وتستدعي الفحص. ومعظم المشتركين، بعد المبادرة الى الاشتراك، يقيمون على شراكتهم، من غير الزام، ويقضون وقتاً يبلغ 4,39 ساعة في الشهر في التصفح (نظير 2,31 ساعة يقضيها الاميركيون في تصفح غوغل)، ويقطفون في الشهر 70 معلومة. ولا تنكر خطورة القضايا والمشكلات المتفرعة عن فايسبوك، مثل الحق في النسيان الرقمي، وأخطار التخريب الذي يرتكبه بعض المستعملين الشبان، أو مسألة حيازة شركة خاصة آلاف المعلومات والملاحظات العائدة الى ملايين الاشخاص. ففايسبوك، اليوم، «مكتبة» تبلغ سعتها ما يساوي 65 مكتبة كونغرس (ومكتبة الكونغرس الاميركي من كبريات المكتبات العامة في العالم). وهذا من القرائن على فرادة الظاهرة. وفايسبوك ليس الموقع الاول، زمناً، من صنفه. فسبقته مواقع «مايسبايس» و «فراندستير» و «كوبان دافان» (صحب من قبل) في فرنسا، بأعوام. فعلامَ تواضع أو توافق، ضمناً، المشتركون؟ وما هو الوجه الذي يظهره انتشار الموقع من احوال المجتمع المعاصر، ومن العولمة؟ فمن خصائص فايسبوك تخطيه الحدود الفاصلة بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة على نحو لم تبلغه كرة القدم نفسها. فأندونسيا تحتل المرتبة الثانية، بعد الولاياتالمتحدة، على جدول مراتب المستعملين. ويعزى الإقبال الى الرغبة المحمومة في الحداثة. ولكنه لا يقتصر عليها، على الارجح. ونظير الإقبال لا تحصى أبواب النقد والمآخذ. فالموقع، على قول منتقديه، معرض النرجسية والطاووسية والبصبصة والادمان المرضي. وهو شق دائرة العلانية العالمية شطرين، وهذا ما لم يبلغه موقع على الشبكة قبله. فهو، والحال هذه، موضوع نزاع سياسي. وفي البلدان كلها خلاف يقسم من يؤيدون فايسبوك ومن يعارضونه وينددون به. وبعض الدول لا تسلم من هذا التجاذب. فما علة الانقسام والخلاف هذين؟ وفي الاحتفال بعيد الاقنعة (هالوين)، في خريف 2010 في الولاياتالمتحدة، لبس بعض المحتفلين قناعاً جديداً، ليس قناع مسخ ولا قناع قاطع أعناق، هو قناع مارك زوكيربيرغ، منشئ الموقع وصاحب «شركته». والحق أن سيرة منشئ الموقع جزء من سيرة الموقع الاجتماعية والعامة. وهي رواها بن ميزريش في كتابه «بليونيريو الصدفة» (2009)، وصورها شريط «الشبكة الاجتماعية» الذي أخرجه ديفيد فينشير في 2010. وزوكيربيرغ كان طالب حقوق في هارفرد في انكلترا الجديدة حيث تسود علاقات اجتماعية ينزع شطرها التقليدي والسابق الى تمثل مظاهر الانضباط والسيطرة على النفس، بينما ينزع شطرها المحدث الى اظهار الازدراء والثقة المفرطة بالنفس وإعلان الخفايا الحميمة. وقادت رغبة الشاب في الثأر من صديقته، إريكا أولبرايت، وهي ضاقت ذرعاً به وصرفته، الى التشهير بها في مدونته. ودخل الشاب المنتقم الى مواقع الطلاب الخاصة في الجامعة، وبنى في ليلة واحدة موقعاً في مستطاع طلاب الحرم دخوله والتصريح عليه بآرائهم في مزايا زميلاتهم العاطفية ونقائصهن الغرامية. وسمى موقعه الجديد «فايسماش». وأقبل الطلاب على الموقع، وذاع صيته في الحرم. فدعا مجلس الانضباط الطالب الى المحاكمة، وقضى باعتذاره العلني الى رابطتي الطلاب اللاتينيين والطالبات السوداوات في هارفرد. وتقرب من مارك زوكيربيرغ، المرذول في الاثناء، توأمان عملاقان (1,95 متر طولاً و100 كلغ وزناً) من عائلة ثرية، كامرون وتايلر وينكليفوس، واقترحا عليه انشاء موقع يجمع نخبة طلاب هارفرد في ناد على حدة. فطلاب الجامعة النخبوية، بدورهم مرتبتان: نخبة من أعضاء النوادي وعامة من غيرهم. ومارك من هؤلاء، على حين أن الأخوين ونيكليفوس حكماً من الاوائل. ولوح الأخوان للشاب العامي بأن جزاء برمجته قد يكون انتخابه عضواً في ناد من النوادي. فانصرف الشاب الى عمله. وعمد الى تطوير الفكرة على حدة من الأخوين، وأوهمهما أنه انما يعمل بمشورتها ولأجلهما. وفي غضون أسابيع قليلة ولد فايسبوك. وفاجأ الأخوين المغتاظين. وتخلى الطالب عن 30 في المئة من أسهمه الى أحد اصدقائه لقاء ألف دولار نقداً هي رأس مال الشركة. ولم يلبث زوكيربيرغ أن أخرج الصديق من الشركة، واحتال لإخراجه بحيلة قانونية. ورواية مراحل إنشاء فايسبوك الاولى تدل دلالة واضحة على ان مدار نشأته على النزاع والخلاف وصورهما الكثيرة والمتفرقة: خلاف مارك وصديقته إريكا، خلاف عمل بين مبرمج الموقع وشريكيه المفترضين الأخوين وينكليفوس اللذين ادعيا عليه واتهماه بالسرقة، والخلاف المالي مع الصديق «المساهم». ولاحظ أحد أساتذة كلية الحقوق في هارفرد أن المتنازعين يبدون أولاداً لا عهد لهم بمعالجة منازعاتهم قبل أن تنفجر، فإذا فاجأتهم رفضوا الإقرار بها قبل الاضطرار الى التوسل بالمحامين لحسم الخلاف. ويلخص ملصق الشريط السينمائي الحال بالقول: «قد تقتضي مصادقة 500 مليون صديق عداوة بعض الناس». والمفارقة أن الموقع المولود من الخلاف والنزاع ركنه هو فكرة الصداقة. فكيف وسع أشخاصاً تكاد تكون الخصومة اختصاصهم ودأبهم إنشاء موقع لحمته الصداقة؟ وتفاجئ العداوة المباغتة أصدقاء الامس القريب. فإريكا أولبرايت، الصديقة، سكتت طويلاً عن ازدراء مارك وتعاليه عليها، ولم تفاتحه أو تكلمه من حرصها وبرمها الى ان دارت على عقبيها وصرمت علاقتها به بين ليلة وضحاها. ويسأل مارك إريكا: هل أتخيل ما يحصل أم هو حقيقة؟ وعلى هذا، فسيرة فايسبوك هي حكاية «أصدقاء أمعنوا كبت خلافاتهم الناشئة، وتركوها تينع وتتفتح، فوجدوا أنفسهم في خضم خصومة وعداوة حادتين حال الإقرار بالخلاف. وفي طرفة عين، ينقلب الاصدقاء أعداء. وقد يسعف تذكر انقلاب الحال هذا من الصداقة الى العداوة في فهم إقدام اشخاص معرضين للخصومة على انشاء «شبكة اجتماعية» مسالمة تطرح المنازعة والخلاف. ونحن نفترض أن الافتقار الى صيغة تتولى التداول في الخلاف على نحو اجرائي ومعلن هو السبب في انتشار فايسبوك والإقبال الجماهيري عليه. فالموقع يعد المشتركين فيه بالانتساب الى جماعة لا محل في صفوفها للخلاف، وحيث الرابطة أو العلاقة الوحيدة الجائزة هي الصداقة. وإذا طرأ خلل على علاقة الواحد بأحد أصدقائه، فلا جدوى من مناقشته ولا حاجة إليها، وعلاج المسألة القريب والجاهز هو «شطب» الصديق، على ما يقال في مصطلح فايسبوك. ويدعى المشتركون الى «تنبيه» الشبكة الى مضمون يرونه غير مناسب، نصاً كان أم صورة، عرياً ام عنفاً أم رمزاً محرضاً على الكراهية... وفي مقدور المستعمل «الحجر» على مستعملين آخرين والحؤول بينهم وبين العثور عليه من طريق بحث، أو بينهم وبين تصفح تعريفه أو إرسال رسالة إليه. وتُطمئن ادارة الشبكة المستعملين الى كتمان «أخبارهم» وملاحظاتهم على ما يرونه. والمشتركون الذين يختار المشترك شطبهم أو الحجر على بحثهم عنه لا يُعلمون بالإجراء. ومنذ بعض الوقت انفصل النجمان المعروفان توني باركر وإيفا لونغوريا بعد أن اكتشفت هذه نحو مئة رسالة نصية قصيرة أرسلها باركر الى صديقة قريبة من الزوجين. وأعلن باركر ولونغوريا على فايسبوك طلاقهما في جملة غامضة تنبئ الاصدقاء بأنهما حزينان، ويحب واحدهما الآخر حباً عميقاً، ويصلّي لأجل سعادته». فالطلاق، في مرآة الوقائع الاجتماعية، هو ثمرة «خلافات لا سبيل الى فضها». ولكنه هو نفسه، في مرآة فايسبوك، قرين الحب والصداقة. فليس فايسبوك في ضوء ما تقدم، شبكة تواصل اجتماعي، على ما يقال فيه ويقول في نفسه، على قدر ما هو تحقيق «طوبى اجتماعية» تنزع الى محو عامل جوهري في حياة المجتمع هو النزاع أو الخلاف. وصيغة النزاعات المقبولة مواربة ومجازية. ففي اطار الشبكة جماعات اصدقاء رابطها المشترك «قضايا» مثل: «في سبيل قصف مدينة نويي - سور سين (مدينة نيكولا ساركوزي) أو في سبيل مبادلة انغريد بيتانكور بسيغولان رويال (15346 عضواً)، أو في سبيل ترقية العقيد معمر القذافي الى لواء أخيراً (121 عضواً)، أو هل قصة شعر أندريه غلوكسمان فلسفية؟» (401 عضو)، وبين الجماعة الاخيرة وجماعة معجبين بميراي ماتيو علاقة «شعرية»: فالفيلسوف الفرنسي ومفكر الحرب ونصير قضايا حقوق الانسان، يقص شعره منذ نيف وأربعين عاماً على مثال قريب من المغنية «العاطفية» والثابتة على ضرب واحد من الغناء ومن قص الشعر. وإذا عُرِّف العدو بأنه من نرغب في «شطبه»، وليس قطب منازعة ينبغي تدبيرها على نحو يؤدي الى اقتسام المتنازعين الحيز المشترك، التقى زوكيربيرغ بكارل شميدت. فشميدت هو الفيلسوف المعاصر الذي رأى ان أخص ما تختص به السياسة هو دورانها على تمييز العدو من الصديق. وسمة الدولة الحديثة الفارقة، على ما يرى شميدت، هي سيطرتها داخل حدودها على هذا التمييز من غير إخماده. ويبعث ضعف الدولة، على ما تخوف الفيلسوف الالمان «الاعداء» في الداخل «الصديق». وفايسبوك، على هذا، هو الدائرة التي تسكت عن التمييز السياسي الاساسي من طريق «شطب» الأعداء وإلغائهم ورميهم خارج دائرة العلانية و «التواصل». وتفادي الخلاف يؤدي الى حل وحيد متاح هو إلغاء العدو المفترض وإخراجه. ويغفل هذا بعداً جوهرياً: فالمنازعة، في البشر وبينهم، هي جزء من كيانهم. * اقتصادي وفيلسوف، كتب «مفهوم القيمة على ما يراه حملة الاسهم»، عن «لو ديبا» الفرنسية، 1-2/2011، إعداد منال نحاس