كانت انتفاضة محافظة الأنبار في العراق، ثم امتدادها إلى مدن أخرى كالرمادي وسامراء والموصل حدثاً متوقعاً. كما كان تصريح رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الذي وصف فيه الانتفاضة بأنها «جعجعة» رداً مألوفاً سمعناه من قبل. لم يكن بوسع المالكي، وهو ابن حزب «الدعوة» الذي رضع من لبانه إقصاء الآخر أن يكون ديموقراطياً، أو أن يقبل بالتعددية ويمارس السياسة وفقاً لقواعدها. تعود جذور الحكم الطائفي في العراق للغزو الأنغلو أميركي في مطلع نيسان (أبريل) 2003، ثم تولي الأميركي بول بريمر إدارة البلاد، وتشكيله ما عُرف ب «مجلس الحكم» ذي التركيبة الطائفية الذي كرس أسطورة الأغلبية الشيعية. سن المجلس قانون «اجتثاث البعث «الذي حمل اسمه معنى الاستئصال، في ظل مشروع بشر بالتسامح وطي صفحة الماضي، وانضوى «اجتثاث» البعثيين تحت راية الحرب على «الإرهاب»، وكانت الراية واسعة فضفاضة بحيث دخل تحتها مقاومو الاحتلال الأميركي الذين لم يكونوا في الغالب إلا عرباً سنة، وجرت عملية خلط متعمدة للأوراق، أعطت «النخبة» الشيعية المدعومة أميركياً وإيرانياً الذريعة لوصم أكثر أهل السنة بالعنف. شعر الصفويون في العراق بحلاوة النصر، وأظهروا منذ البداية نفساً طائفياً من تشييع أسماء الشوارع والأحياء, إلى عمليات اغتيال منظمة لرموز السنّة، بل استهدفوا بالقتل من يحملون أسماء «أبي بكر» و«عمر» و«عثمان» و«عبد الرحمن»، ما لفت حتى أنظار الصحف الغربية, التي تحدثت عن ازدهار تجارة تغيير الأسماء السنية مخافة القتل. ثم جاءت عملية إعدام صدام حسين لتسبغ كثيراً من الوهج على الانتصار الشيعي «التاريخي» في العراق. لكن نجاح المشروع الصفوي حمل في طياته أيضاً بذور الفشل. عندما وطئت قدما رجل الدين الشيعي الراحل محمد باقر الحكيم أرض النجف واستقبله الآلاف من أنصاره، هتف بقوة: «نريد العدالة.. نريد العدالة». أراد الحكيم أن يوحي لأتباعه أن أسطورة «المظلمة التاريخية» التي وقعت على الشيعة قد طويت صفحتها, وحانت ساعة التصحيح. لكن كيف يتم تحقيق العدالة إلا بالانتقام من الآخر، المسؤول كما توحي الأسطورة، عن معاناة الشيعة. كان الحكيم إذن يعد أتباعه لمعركة ضد أهل السنة، وتحديداً العرب، تتضمن إقصاءهم، أو دفعهم إلى التسليم لواقع يصبح فيه أبناء طائفته سادة العراق لأول مرة في التاريخ. لا يُعرف بالضبط كم من السنة العرب قُتلوا في السنوات القليلة التي أعقبت الغزو، ولا يُعرف بالضبط حجم الأذى الذي نالهم في المعتقلات الصفوية والأميركية أيضاً. أدارت حكومة الصفوي، إبراهيم الأشيقر (الجعفري)، ووزير داخليته الإيراني باقر جبر صولاغ، «عهد إرهاب» طائفي مروع وزع القتل على كل شبر في العراق. نفذ الرجلان وفريقهما مخططات الصفويين الإيرانيين، وتفننوا في اجتثاث الكفاءات العراقية من علماء دين، وأئمة مساجد، وباحثين، وأساتذة جامعات، ومهندسين، وعسكريين. يقول جاسم الجبوري في «موسوعة الرشيد» عن الجعفري وعصابته إنه لم يبق عالم وأكاديمي إلا اغتالوه أو حاولوا اغتياله، ولم يبق طيار من الذين شاركوا في الحرب العراقيةالإيرانية إلا أعدموه، بل نفذوا حادثة تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، الأمر الذي أشعل نار فتنة طائفية راح ضحيتها مئات الآلاف من أهل السنة على أيدي ميليشيات مقتدى الصدر المسلحة والمدعومة من إيران. ويضيف الجبوري أن الذي حدث في عهد الجعفري «لم يحدث في تاريخ العراق منذ بدء الخليقة، (إذ) عمل الرجل على جعل العراق دولة شيعية تابعة لحكومة الملالي في طهران، فالوزارات الأمنية (أدارها) ضباط إيرانيون, مهمتهم الأولى القضاء على أهل السنة». وعلى الرغم من حرب الإبادة التي تعرض لها سنّة العراق، إلا أن قياداتهم السياسية والدينية نأت عن الخطاب الطائفي، وحرّمت قتل الشيعة، ودعت إلى التسامح. وإذ فاحت المسميات والتصريحات الصادرة عن الطرف الشيعي برائحة طائفية، فقد اتسم الخطاب السني بالتعقل. سمّت هيئة علماء السنة نفسها «هيئة علماء المسلمين», وحرص مؤتمر أهل العراق الذي شكله السنة، على اتخاذ اسم «العراق» الجامع هوية له (لا يمكن اعتبار تنظيم القاعدة ممثلاً للرأي العام السني). تذكرنا التجربة الصفوية في العراق في بعض ملامحها بالمشروع الصهيوني في فلسطين، وبالمشروع الصربي في البوسنة. قام المشروع الصهيوني على أسطورة «الشعب المختار» التي تزعم أن الله أعطاه وحده الأرض من النيل إلى الفرات، وعلى أسطورة «حائط المبكى» التي تكرس الحقد على الآخر المتسبب في خراب الهيكل المزعوم، وعلى أسطورة «الهولوكوست» التي تغرس الشعور بالظلم لدى اليهود, وترسّخ عقدة الذنب ليس لدى مرتكبي هذا الظلم المزعوم فحسب, بل لدى البشرية كافة، الأمر الذي يبقي التعاطف مع الكيان الصهيوني وممارساته حياً. أقام الصهاينة كياناً لقيطاً في فلسطين على أنقاض مجتمع مسالم تم تدميره ضمن عمليات إبادة منهجية. ولم يكتفوا بذلك، بل زيّفوا التاريخ، ولفّقوا الآثار، وغيّروا أسماء المدن كي تتسق مع أساطير أرادوا تخليدها. أما الصرب، فقد شنوا حرب إبادة على البوسنة والهرسك، قتلوا خلالها مئات الألوف من مسلميها، واغتصبوا نساءهم وصباياهم، وهدموا مساجدهم ومتاحفهم ومكتباتهم، بدعوى أنهم أبناء الأتراك الذين دمروا مملكة الصرب قبل خمسة قرون. يشبه الحكم الصفوي في العراق في بعض ملامحه هذين المشروعين الأحاديين الإحلاليين، إذ يقوم على أسطورة المظلمة التاريخية (النسخة الصفوية من الهولوكوست) التي وقعت على أهل البيت، ما يبرر الانتقام من الآخر السني المسؤول بحسب الأسطورة عن حدوث المظلمة. الصفويون «يلطمون» وينتحبون في كل مناسبة على أساطير شتى من «كسر ضلع» فاطمة إلى اغتصاب الخلافة من علي، مطالبين بالثأر لهما (حائط المبكى الشيعي). القتل الطائفي في العراق يشبه أيضاً القتل الطائفي في البوسنة؛ إذ كان يستهدف الأساتذة وقادة الرأي ورجال الأعمال أكثر من غيرهم، كما كان متوحشاً ودموياً، ولم يسلم منه حتى اللاجئون الفلسطينيون الذين طاردتهم فرق الموت الشيعية. المساجد كانت هدفاً في فلسطين والبوسنة والعراق لعصابات «تطهير» لا ترى حقاً لغيرها في البقاء. ثمة أساطير أخرى يؤسس الحكم الصفوي عليها بنيانه: اعتبار ميراث البعث وصدام حسين ميراثاً سنياً (رغم أن السنة بمن فيهم الأكراد عانوا كما عانى غيرهم إبان حكم صدام)؛ إعلاء خطاب الطائفة الشيعية المنصورة على حد تعبير عبد العزيز الحكيم, وترويج أن الشيعة هم أغلبية السكان (يشكل العرب السنة 54 في المئة من شعب العراق، بينما يشكل الشيعة 43 في المئة، بحسب وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي العراقية عام 2004. وبحسب الأكاديمي الشيعي محمد جواد علي، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة بغداد، فإن نسبة السنّة 53 في المئة، بينما تتراوح نسبة الشيعة بين 40 و 45 في المئة – قدس برس، 29 كانون الثاني/يناير 2004). منذ أن تولى نوري المالكي رئاسة الوزراء في عام 2006 خلفاً للجعفري، لم تزدد الأوضاع الأمنية في العراق إلا سوءاً، ولم تغيّر إعادة انتخابه «القسرية» في عام 2010 من سلوكه الطائفي شيئاً، وظل العرب السنة (بمن فيهم قياداتهم كعدنان الدليمي وطارق الهاشمي ورافع العيساوي) هدفاً سهلاً تحت لافتة جاهزة ويصعب الدفاع عنها: الإرهاب. منظمة هيومن رايتس ووتش قالت إن حكومة المالكي تمارس تعذيب المعتقلين، وتعيد البلاد إلى الحكم الشمولي (15 أيار/مايو 2012)، بينما قالت منظمة العفو الدولية إن في سجون العراق ما لا يقل عن 30 ألفاً يلقى بعضهم حتفه نتيجة التعذيب (12 أيلول/سبتمبر 2012). طاول الاعتقال والإيذاء النساء اللاتي يؤكد مواطنون عراقيون وناشطون حقوقيون تعرضهن للاغتصاب. وبالطبع، عمّق دعم المالكي للسفاح بشار الأسد إحساس أبناء السنّة بطائفيته وخطورته. لم يكن بوسع الصفويين بناء دولة قائمة على التعددية والمواطنة، ودفَعَهم الانغلاق الإيديولوجي إلى حضيض إلغاء الآخر والتقوقع على الذات. لا يمكن للصفوية أن تفهم ثقافة التنوع والتشارك، وهي كالصهيونية التي تستبد بها عقلية الغيتو، لا تكف عن اللهاث خلف «النقاء». في دولة يهودية محاطة بالجُدُر. ربما كان الربيع العراقي فرصة أخرى للشيعة العراقيين أن يتحرروا من أسر الصفوية التي تفتقد القدرة على إدارة عراق ديموقراطي، غير طائفي، موحد، ومستقر. ليس غريباً أن يأتي الربيع العراقي. الغريب أنه أتى متأخراً. لكنه أتى طلقاً يختال من الحسن كما قال البحتري، متألقاً عصياً على الذبول. إن الربيع إذا جاء لا يؤخر.