كان «العمدة» هو العنوان الرئيس لكل حارة، ففي شخصه كانت تختزل معالم الحارات وتاريخها ومشارب ساكنيها، كما كان سمة للقوة والشجاعة والحكمة، ولذا كان كل من يتصف بهذه الصفات يطلق عليه مجازا مسمى «العمدة». لكن الآن، وفي العصر الحاضر، حيث النهضة التنموية وطفرة الاتصال، وتسارع إيقاع الحياة، لم تعد الصورة النمطية للعمدة كما في الماضي، ولم يعد معها «مركازه» الذي كانت تناقش فيه قضايا الحي وإشكالاته اليومية بنفس الصورة حين كان مرجعا يستقى منه الماضي للحاضر. يقول عمدة حي الكندرة الجنوبي حبيب حبيب الله سعد السلمي إن الواجبات المناطة بالعمد زادت كثيرا في الوقت الحاضر، لكنها لم تختلف عما كان في السابق، إلا إذا كان الحديث عن المظاهر الاجتماعية في الماضي البعيد. مضيفا: «مهام العمدة حاليا زادت كثيرا بزيادة عدد السكان، وبتعدد الجهات المعنية في تقديم الخدمات لهم، إلى جانب المهام التقليدية التي عرفت عن العمدة، كإصلاح ذات البين، ومساعدة الأسر المحتاجة، ومشاركة سكان الحي في مناسباتهم الاجتماعية، وهو قد تغيرت مظاهره وبقي أصله الثابت. ويشير السلمي إلى أن «سكان الأحياء في السابق كانوا محدودي العدد ومعروفين بالاسم، بخلاف ما هو عليه الآن، حيث يزيد قاطنو حي الكندرة مثلا على العشرين ألف شخص، وهو ما يزيد العبء على دور العمد في تقديمهم للخدمات المرجوة. ومع ذلك، أرى أن العمدة يقوم بدروه على أكمل وجه، برغم الإمكانات المحدودة، والتي منها أنه وحتى الآن لم يعتمد لعمد الأحياء مقار رسميه بدلا من المستأجرة، إلى جانب أن العمدة يقوم بدفع رسوم الكهرباء والاتصالات لتلك المقار من حسابه الخاص، ومع ذلك تجده مشاركا في كافة الاجتماعات الرسمية ذات العلاقة بدوره في خدمة الأحياء، إلى جانب مشاركاته الاجتماعية والثقافية، بل وحتى الرياضية في الحي المعني به». مستطردا: «لذا من غير المنطق مقارنة دور العمدة حاليا عما كان في الماضي، حتى وإن كان حب الناس وقصدهم لدور العمدة في حل مشاكلهم قاسما مشتركا بين الحقبتين الماضية والحالية، فمهام العمدة الآن تفوق كثيرا ما كانت عليه في السابق، بل يجب أن يشاد بجهود كثير من عمد الأحياء الآن الذي أدخلوا التقنية والإنترنت في خدمة الأهالي؛ للارتقاء بدور العمدة وبالحي المعني به، رغم محدودية الإمكانيات المقدمة لهم». أدوار ومقارنات من جانب آخر، يرى عمدة حيي الصحيفة والعمارية منصور عمر عقيل أن افتقاد الهيبة لدور العمودية في الوقت الحالي ربما يعود إلى أن العمدة سابقا كان يقوم بدور الشرطة في استتباب الأمن، حيث كان يقوم بتوقيف الخارجين عن القانون، وإن كان وإلى وقت قريب من العمد من كان يقوم بإيقاف المتشاجرين في غرفة للتأديب. ويضيف عقيل: «لكن في الإجمال أجد أن دور العمدة لم يتغير كثيرا بل زاد، ففي شهر رمضان المبارك مثلا كنت معنيا بالإشراف على 18 مسجدا من مساجد حيي الصحيفة والعمارية للقيام بإفطار الصائمين، وهو ما أسميناه ب (السفر الرمضانية)، فضلا عن القيام بدور حلقة الوصل بين الجهات الرسمية وغير الرسمية التي تقدم الإعانة والخدمات الاجتماعية وبين الأسر المحتاجة». ونوه عقيل بمهرجان (كنا كده) الذي أقامته أمانة جدة في المنطقة التاريخية، والذي جسد الأدوار التي كان يقوم بها العمدة في خدمة الحي والمجتمع، وكان ولا يزال حلقة وصل بين المواطن والجهات الحكومية. بدوره، قال عمدة حي الروابي عبدالعزيز صالح الزهراني: «هناك كثيرون للأسف يعتقدون أن دور العمدة يقتصر على تقديم ورقة التعريف للقاطنين في الحي، وهو ما يجافي الحقيقة بالكلية، وقد يكون السبب في ذلك الإحجام الإعلامي عن التعريف بالدور الشامل لعمد الأحياء، بدلا من تصويره للعمدة على أنه شيء من الماضي والتراث الجميل». وأضاف: «صحيح أن الزمن اختلف، حين كان دور العمدة محدودا، وأصبح دوره الآن شاملا، يتطلب من العمدة في كثير من الأحيان الخروج عن نطاق المدينة للقيام بدوره في خدمة المواطن». وقال الزهراني: «كثير من قضايا إصلاح ذات البين أو التنازل عن الدية أو القصاص تتطلب مني السفر إلى مدن أخرى للحصول عن تنازل في قضية ما يكون طرفها أحد الساكنين في الحي والذي أقوم بعموديته». مضيفا: «مسؤولية العمدة الآن ليست كما في السابق، فالآن المسؤولية كبيرة جدا، والسبب في عدم الإلمام بها يعود لتداخلها مع عدة جهات رسيمة وغير رسمية، إلى جانب عدم تسليط الإعلام على جهود العمد مقارنة بجهود تلك الجهات». وقال الزهراني: «في أيام رمضان الفائت مثلا كانت هناك جهود كبيرة لإعانة الأسر المحتاجة، بالتعاون مع عدة جهات، إلى جانب جهود لتوعية الشباب، وأخرى لإصلاح ذات البين، فضلا عن الأدوار الأمنية المعتادة التي يقوم بها العمدة مثل الإبلاغ عن المشتبهين، وجميع هذه الأدوار لم يكن للعمدة في الماضي أن يقوم بها كما هي عليه الآن». صورة مغايرة عبدالرحمن الشنقيطي عمدة حيي المسفلة والهجلة وصف من جانبه العمدة بأنه «حلقة الوصل بين أهالي الحي وبين كثير من الجهات المختلفة، فهو الحلقة بين المعوزين ووزارة الشؤون الاجتماعية، وبين المتخاصمين ومع جهات العدل والحقوق المدنية، أو بين مراكز الشرطة من جهة وأصحاب الحقوق والمطلوبين أمنيا من جهة أخرى، وقس على ذلك». وأضاف: «هذه الأدوار التي يقوم بها العمدة الهدف منها تحقيق راحة المواطن ومساعدة الجهة المعنية في الوصول لذلك». وقال: «لكن هناك عدة إشكالات تواجه العمدة للقيام بدوره المأمول، أولها محدودية الإمكانات المقدمة له، ففي مكة مثلا وبرغم موافقة الأمن العام على تخصيص مقار رسمية للعمد، إلا أن ذلك لم يطبق حتى الآن بسبب تأخر إدارة النفع العام بأمانة العاصمة المقدسة في تطبيق ذلك». وأضاف الشنقيطي: «العمدة هو رجل أمن في المقام الأول، ومرجعية عمله تعود إلى وزارة الداخلية، ممثلة في الأمن العام، ومع هذا يضل العمدة عرضة لكثير من المخاطر، فهو لا يستطيع مثلا التجول في آخر الليل لمتابعة الأوضاع الأمنية في حيه، أو على الأفل لمناصحة الشباب السهارى أو الذين يقومون بإزعاج أهالي الحي ليلا، فالعمدة لو قام بهذه الأدوار قد يتعرض لما لا تحمد عقباه، وذلك بسبب ضعف الإمكانات المقدمة، فالعمدة يعمل بلا حماية أمنية، وليس لديه على الأفل سيارة تتبع الشرطة، أو على الأقل (استكر) الأمن العام يحمي سيارته الخاصة على أقل تقدير من أي تجاوزات». مستطردا: «هناك أدوار كثيرة تطلب من عمدة الحي ويقوم بها على أكمل وجه، لكنه في النهاية وبدلا من الإشادة بجهوده نجد أن هناك من يعطي تصورا خاطئا لهذا الواقع، ليصف دور العمدة بالقاصر والمنتفع، وهو أمر فيه تجن كبير، فهناك اعتقاد أن على العمدة العمل في مكتبه وفق ساعات محددة، إلا أن ذلك لا يمكن تطبيقه في كثير من الأحوال، فعمل العمدة يتطلب منه الحضور لاجتماعات وفي جهات عدة، تقوم على خدمة الحي وساكنيه، ولذا تجد العمدة مشاركا في اجتماعات المجلس البلدي للمحافظة، أو اجتماعات أفرع وزارات التعليم، والرعاية والشباب، والشؤون الاجتماعية وإمارات المدن، فضلا عن المشاركة بمختلف المناشط الثقافية والاجتماعية والرياضية التي تقام في الحي، ناهيك عن مشاركة العمدة لأهالي الحي في الأفراح والمآتم، وبعد كل ذلك يأتي من يزعم بقصور العمد في أداء أعمالهم، مدللا بعدم تواجدهم في مكاتبهم المستأجرة، وهذا في نظري تجن وظلم». الرأي الآخر محمد الصاعدي (من سكان حي السبيل) يرى أن دور العمدة اختلف كثيرا عما كان في السابق، حين كان يهاب العمدة كثيرا ويقوم بأدوار رجل الأمن، وضابط التحقيق، والمصلح الاجتماعي، ولا يدخر جهدا في مساعدة سكان حيه حتى ولو من جيبه الخاص. وقال: «ربما هناك أدوار أخرى يقوم بها عمدة الحي في خدمة الدولة والمجتمع، لكنها جهود قد لا يلمسها المواطن بسبب تداخلها مع جهود عدة جهات أخرى، لكن وفي آخر الأمر تظل (ورقة التعريف) هي أهم ما يقدمه العمدة لأهالي الحي، فهي خدمته الجلية والمعروف بها عند عامة الناس». فيما تساءل أبو سيف الحربي عن غياب تواجد العمدة في المناسبات التي يقيمها أهالي الحي قائلا: «إذا كانت الكثير من المناسبات تقام في كثير من الأحياء دون مساهمة من العمد أو حضور منهم لها، فهنا لا يجب أن نلقي باللوم على القصور الإعلامي، أو في فهمنا لدور العمد في خدمة الأحياء. وأضاف: «الأمر لا يختلف فيه اثنان، على الأقل في بعض الأحياء، حيث لا وجود لعمدة الحي إلا في حالات نادرة جدا، منها عند تقديمه ورقة التعريف لمن يرغب من سكان حيه».