اشتعلت شرارة الثورة السورية عبر فتية انتفضوا على الصمت في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وكتبوا على جدار مدرستهم «الشعب يريد إسقاط النظام» درعا النائمة على سهل أخضر، ما انفك يطعم سوريا، لم تتراجع رغم الحصار الذي طال مدينتها وقراها، فمن الجامع العمري في درعا البلد خرجت أول مظاهرة تهتف ضد الظلم وتتحدى النظام، وفيه جرى أول اعتصام فك بعملية عسكرية شاركت فيها الطائرات.. ودرعا هي التي قدمت أول شهيدين للثورة (محمود جوابرة وحسام عياش) يوم 18 مارس 2011 وقدمت أول طفلة شهيدة (ابتسام مسالمة) وأول طفلين شهيدين تحت التعذيب (حمزة الخطيب وتامر الشرعي)، وهي أول من حطم أصنام وصور حافظ الأسد ووريث نظامه نجله بشار. مستلهمين عبارتهم من ثورتي تونس ومصر، فانتزعتهم أفرع المخابرات من أحضان أمهاتهم وزجت بهم في المعتقل، واقتلعت أظافرهم.. درعا هي أول من أطلق شعار «الموت ولا المذلة»، كما أنها أعطت المؤشر الأكبر على أن الشعب الذي ثار على جلاده لن يعود لأنه آمن بأن (أنصاف الثورات مقابر)، وهي بعنفوانها ردت على القتل بعبارة من تراث شعبها تقول «تايه الشور يللي تحاربنا .. من حربنا تشوف الهوايل». من درعا حيث كانت البداية، وفي ذكرى مرور سنة على ثورة الشعب السوري، دخلت «عكاظ» إلى العمق السوري لتقرأ الوقائع على حقيقتها: كانت الرحلة من العاصمة دمشق إلى درعا ومن ثم قراها محفوفة بالمخاطر، وبدا الطريق السريع (أوتوتستراد دمشق درعا) مقفرا لا تعبره سوى بضع سيارات ربما اضطر أصحابها للتنقل من وإلى دمشق، ولأن المرور عبر حواجز أمنية لصحفيين يمثلون وسيلة إعلام عربية أو أجنبية كان مستحيلا دون الاعتقال أو الدخول في المجهول، اختار مرشدنا أن يلتف على حاجزين أمنيين عند مدخل دمشقالجنوبي حيث اضطررنا لسلوك طرق زراعية مشيا على الأقدام ثم الدخول عبر مدينة الكسوة التي تبعد نحو 25 كيلومترا جنوبدمشق لنستقل بعدها السيارة الخاصة بنا. وصلنا سهل حوران الذي بدأ يبسط سجادته الخضراء على بعد نحو 35 كيلومتر من العاصمة باتجاه الجنوب، منطقة تكاد تشتم في المكان رائحة دم ساخن امتزج بتربتها التي تشبه بلونها الحناء، كان النهار في أوله وعلينا أن ننجز مهمة الوصول إلى مدينة درعا في ضوء النهار، إذ يصعب التجول ليلا في جميع أرجاء المحافظة حيث «لا هابوب ولا دابوب» كما يقول مرشدنا الشاب العشريني، وكان واحدا من ناشطي تنسيقيات الثورة. في الطريق السريع الذي ينتهي عند بلدة نصيب على الحدود الأردنية ظهرت أمامنا لوحات زرق تشير إلى قرى تتوضع على اليمين واليسار، لاحظنا أن جميع اللوحات والصور التي تمجد بشار الأسد ووالده قد طمست وكتبت مكانها عبارات مناهضة من قبيل «يسقط بشار» و«إرحل» وغيرهما من العبارات التي تظهر مدى إصرار أبناء المحافظة على ثورتهم وسعيهم إلى إسقاط النظام. ظهرت أمامنا لوحات تشير إلى عشرات المدن والقرى مثل الصنمين ومحجة وإزرع وبصرى الحرير وخربة غزالة والغربية، وعند جسر صيدا على بعد خمسة كيلومترات من الحدود الأردنية كان علينا أن نتجه إلى الغرب، حيث تبعد مدينة درعا 12 كيلومتر، وتعذر سلوك الطريق المعبدة لوجود ستة حواجز للجيش وقوى الأمن، التي قال لنا أحد الأشخاص من أبناء المنطقة الذي صادفناه إن معارك تدور في المكان ترافقها اعتقالات لأغلب الأشخاص الذين يمرون بالحواجز التي تعرضت فجر ذات اليوم إلى هجوم عنيف من عناصر الجيش الحر أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر الحواجز التي دمر أحدها بالكامل. أخذنا طريقا مغايرا عبر ممرات زراعية، وعند تخوم مدينة درعا (مركز المحافظة) كان لا بد من إيقاف السيارة والدخول مشيا على الأقدام واستغرق الأمر مسير نصف ساعة وصولا إلى درعا البلد، حيث اخترنا من هناك ومن الجامع العمري بالتحديد أن نستمع لرواية الثورة من مهدها. حاولنا الدخول إلى الجامع العمري إلا أن ذلك كان متعذرا لوجود مركز أمني بالقرب من المكان وفضل بعض الأهالي الذين ساعدونا على إنجاز المهمة أن نبقى بعيدين عن أعين الجيش والمخابرات على اعتبار أن أي وجه غريب يعتبر صيدا ثمينا للنظام الذي يبحث عن أي شخص لإلباسه تهمة الجاسوسية والعمل مع العدو. عرفنا المحرمات عند الأهالي وهي عدم تصويرهم، كذلك عدم البوح بالاسم الكامل في أية وسيلة إعلامية بعد أن تعرض الكثير منهم للاعتقال لأن وجوههم ظهرت في تسجيلات على (الفيسبوك) و(اليوتيوب) خلال المظاهرات وجنائز التشييع. الجامع العمري بدا معلما غير باذخ في المدينة التي لا يتجاوز عدد سكان القسم القديم منهم (درعا البلد) والتي أشعلت الثورة 40 ألف نسمة، كما أخبرنا معاذ وهو مدرس في ذات المدرسة التي اعتقل فيها الأطفال في بداية الأحداث. يتوسط الجامع العمري شارع طويل تتلاصق فيه البيوت. قسم كبير منها كما الجامع مبني من الحجارة الزرقاء البركانية التي تشتهر بها حوران وهو المكان الذي خرج منه أهالي درعا البلد يوم الجمعة 18 مارس من العام الماضي، هاتفين للحرية والديمقراطية، ومطالبين بإطلاق سراح أطفال جرى اعتقالهم من قبل أحد الأفرع الأمنية يوم 27 فبراير 2011 فما هي قصة الأطفال والاعتصام برواية أهل المكان. في بيت مجاور للعمري اجتمعنا بعدد من الأهالي وكان بينهم والد أحد الأطفال الذين اعتقلتهم الأجهزة الأمنية ليروي لنا مأساة «يصعب على أهل حوران لمن عرف إباءهم أن يمرروها» وبحسب الأب الذي قال إن ابنه ( 13 عاما) و18 طفلا آخرين كتبوا على جدار المدرسة عبارات استلهموها مما حدث في ثورتي تونس ومصر ومنها «الشعب يريد إسقاط النظام» و«جاك الدور يا دكتور»، والمفارقة المضحكة المبكية كما يروي الأب أن أحد الأطفال كتب اسمه دون وعي تحت إحدى العبارات ليتم انتزاعهم على الفور، وفي ذات الليلة من أحضان أمهاتهم ونقلهم إلى أحد أفرع الأمن ثم ترحيلهم إلى فرع آخر في مدينة السويداء ومنها إلى دمشق في رحلة تعذيب واقتلاع أظافر وجلد استمرت نحو شهر كامل. يقول (أحمد. ج) من أبناء المدينة أن سامي الرشيدات أحد الأطفال ال 19 الذين اعتقلوا قبل اندلاع الثورة ما زال مصيره مجهولا إذ لم تسلمه السلطات إلى أهله ما يثير شكوكا بأن سامي ربما مات تحت التعذيب. يروي (م. جوابرة) أن وفدا من وجهاء درعا البلد قصد مكتب رئيس فرع الأمن السياسي في المحافظة العميد عاطف نجيب ابن خالة الرئيس بشار الأسد قبل اعتصام العمري بأيام حيث طلب الوفد مع نجيب أن يطلق سراح الأطفال، خصوصا أن الأهالي علموا بأن أولادهم تعرضوا للتعذيب باقتلاع الأظافر والصعق بالكهرباء وأن أساليب وحشية استخدمت لردعهم عن جريمة ليس لأطفال في مثل سنهم أن يعرفوا أبعادها في ظل نظام قاس وقمعي. جاء رد نجيب كالصاعقة على الأهالي حين قال لهم «إنسوا أولادكم .. أنجبوا غيرهم إن شئتم .. وإن كنتم تعجزون فأرسلوا لي نساءكم»، عندها انتفض أعضاء الوفد ووضعوا عقالاتهم على الطاولات، وربما لعجزه عن فهم حوران وعاداتها وطبائعها، ومعنى أن يلقي الرجل بعقاله، أمعن نجيب في الإهانة وضغط على جرس حاجبه ( فراشه) وأمره بأن يجمع العقالات (العقل) ثم أمره بأن يلقيها في سلة المهملات، فخاطبه أحد المشايخ من أعضاء الوفد قائلا: «إذا كان هذا ردك فانتظر فعل درعا». خرج المئات من أهالي درعا من الجامع العمري يوم 18 مارس من العام الماضي، ويصف (هشام. أ) ساعة خروج الأهالي للتظاهر مطالبين بالديمقراطية والحرية وإطلاق سراح أطفالهم بأنها كانت اللحظة التي لم يحسب النظام حسابها، إذ لم تستطع قوى الأمن المدججة أن تمتص غضب الأهالي وبادرت فورا إلى إطلاق النار الحي وقنابل الغاز المسيلة للدموع ظنا منها أن الحل الأمني سيجدي نفعا، وسيعيد الغاضبين إلى بيوتهم، إلا أن الأمر لم يكن كذلك كما يقول هشام مضيفا: «النظام قرر أن يقتل ونسي أن الدم يستسقي الدم، وجاء الأمر عكسيا ذلك اليوم، فبعد سقوط الشهيدين أحمد الجوابرة وحسام عياش أطلق أهالي درعا صرختهم بوجه الرئيس بشار الأسد رافعين شعار (خاين ياللي بيقتل شعبه)». «بعد سقوط قتيلين بالقرب من الجامع العمري تغير المشهد كليا في درعا»، كما يقول سعيد ابن العشرين عاما مضيفا: «لم يكن بشار تلميذا ذكيا، لم يستفد من درسي تونس ومصر، ومنذ ذلك التاريخ أطلقت درعا الشرارة الفعلية للثورة السورية».