لم يكن يخطر ببال الطبيبة عائشة المسالمة أنها تمثل جسراً تاريخياً بين الثورة المصرية والثورة السورية. وعلى خلاف السوريين الذين علمتهم عقود من حكم البعث القدرة على التمثيل واصطناع الولاء طلباً للسلامة، وأقله الحذر الشديد، أعمتها فرحة سقوط حسني مبارك واتصلت يوم 11 شباط (فبراير) من درعا مهنئة صديقة لها من بلدة خربة غزالة متمنية «العقبى عندنا». ولم يخطر على بالها أن آذان عاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا وأحد خؤولة الرئيس بشار الأسد واعية لتلك اللحظات المفصلية، ولم تسه عن شاردة ولا واردة. مع أن اصطناع الولاء هو ما خرجت به ليزا وادين في أطروحتها «السيطرة الغامضة» فعلاقة الناس بالدولة تقوم على أساس التظاهر «كما لو أنها». وكان حرياً بالطبيبة أن تقول وفق رواية التلفزيون السوري أن مبارك سقط لأنه «نظام كامب ديفيد»، وأن قائدنا باق إلى الأبد لأننا «منحبك» وفق اللوحات الدعائية الضخمة، ولأنه على قوله قريب من «معتقدات الشعب». من الواضح أن «السيطرة الغامضة» أخذت بالتفكك لمصلحة «الثورة الغامضة» التي فاجأت الجميع. اعتقلت الطبيبة وصديقتها. لم يخطر على بال نجيب أنه بذلك يدمر ما أنجزته عقود من سنوات البعث في حوران. فالطبيبة تمثل جيلاً من الفلاحين جنى مكاسب نظام قل أن تجد نظيراً له في العالم العربي في النهوض بالفلاحين وتمكينهم سياسياً واقتصادياً. وهو ما أكده من قابلتهم من شباب درعا وحوران. نقل لي واحد من الشباب الثوار عن والده أن أهل حوران الفلاحين، قبل البعث، كانوا يدخلون دمشق على استحياء من أهل المدينة المترفعين عنهم. لم يتوقف تمكين أهل سهل حوران الخصيب على دعم الفلاحة اقتصادياً ودعم الحضور النقابي لاتحادات الفلاحين سياسياً، بل تعداه إلى حضور لافت في الدولة، وفي الحلقة السياسية والأمنية والعسكرية الضيقة. ربما ساعد في ذلك أنها لم تكن من المناطق المتمردة في أيام المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين في عقد الثمانينات. وإن كان لها مساهمتها المحدودة. ومن الوجوه السياسية لدرعا رئيس الوزراء الراحل محمود الزعبي، ونائب الرئيس فاروق الشرع، ومن رموزها الأمنية رجل الاستخبارات القوي في لبنان رستم غزالة، ومدير أمن دمشق يعرب الشرع وغيرهما. ومن الواضح أن تقديم أبناء حوران كان محاولة لنفي الصبغة الطائفية للنظام، وتقديمه بصورة طبقية. وفي إطار الفلاحين يندرج أبناء حوران مع العلويين في مواجهة الطبقة المدنية البرجوازية، خصوصاً أن المدن شكلت قلب المواجهة مع النظام في الثمانينات سواء في حلب أم دمشق أم حماة، والانقلابات في سورية لم تشذ عن ظاهرة عربية؛ انقلاب ضباط الريف على أبناء المدن. رصد الأمن السياسي تمرد الطبيبة عائشة المسالمة وصديقتها العفوي، تماماً كما رصد ملايين المشاهدين تمرد سميرة المسالمة رئيسة تحرير صجفية»تشرين» على الهواء في حديثها على قناة «الجزيرة» عندما قالت «إن هناك خرقاً للتعليمات المتعلقة بعدم إطلاق النار، ويجب محاسبة الذين يقومون بإطلاق النار حتى لو كانوا من الأمن وتبيان الأسباب التي دفعتهم إلى مخالفة التعليمات القاضية بعدم إطلاق النار». أقيلت من منصبها وهي أول سورية تنجح في الوصول إلى موقع رئاسة التحرير. وكأن من يمكنهم النظام، فلاحة أو امرأة هم من ينقلبون عليه. لم تكن درعا تشكو من تهميش قياساً على غيرها من المحافظات السورية، على العكس، فهي محافظة «مدللة نسبياً»، سواء بسبب سياسات حزب البعث الداعمة للفلاحين، أم بسبب الرخاء الاقتصادي النسبي العائد إلى عمل قطاع كبير من أبنائها في دول الخليج والمهاجر. وما حصل فيها يقرأ بحسب ما ذهبت إليه السينمائية عزة الحسن «هستيريا الصورة». فالمشاهد العربي أبهرته صور الثورات العربية التي أسرته على مدار الساعة، وعلى غير وعي تقمص شخصية الثوار في مواجهة الاستبداد. تماماً كما أصيب أهل بلدة هندية بالمغص لأن بطل مسلسل مشهور تألم من معدته فتألموا، من غير علة حقيقية. اعتقلت الطبية المسالمة وأهينت هي وصديقتها، لكن ذلك لم يكن سلوكاً استثنائياً لعاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا المشهور بفساده وقسوته. لم يطل اعتقالها، وأفرج عنها بعد تدخل أقاربها الذين يدركون جسامة الذنب الذي اقترفته في مساسها بشخص الرئيس. من لم يقبل تلك الإهانة، تأثراً ب «هيستيريا الصورة»، هم الفتيان والأطفال من أقاربها. فخرجوا من المدرسة في تظاهرة عفوية وكتبوا على الجدران ما شاهدوه وسمعوه على مدار الساعة «الشعب يريد إسقاط النظام». رصدت آذان عاطف نجيب ذلك، ولم تشفع لهم طفولتهم كما لم تشفع لقريبتهم أنوثتها. تقبل الأهالي الاعتقال، وصبروا أياماً لعل عاطف نجيب يكتفي بتأديبهم، لا سيما أنهم تعرضوا لتعذيب وحشي بالكهرباء وخلع الأظافر وغير ذلك من وسائل متبعة في الأمن السوري. توجه الشيخ محمد عبد العزيز ابازيد إلى عاطف نجيب متوسطاً للأطفال، فتلقى رداً مهيناً «أنسوا أولادكم « وأضاف عبارات بذيئة بحق النساء! لم تكن تلك العبارات الفاحشة، كما تعذيب النساء والأطفال سلوكاً جديداً على عاطف نجيب. لم تتقبل الشخصية العشائرية تلك الإهانة، وعاد إلى قومه غاضباً. يقول محدثي وهو ممن شاركوا في أول تظاهرة في درعا أن الإهانة كانت الشرارة التي ولدت الثورة في مجتمع تراكم فيه الغاز المشتعل عبر عقود. فالدلال النسبي للمحافظة لم ينزعها من سياق القمع المنهجي الذي يتعرض له الشعب السوري. الأمن حاضر في كل شيء لا تستطيع أن تفتح مصلحة بسيطة من دون موافقة ودفع رشى، رخصة حفر البئر وصلت أكلافها الى مليون ونصف مليون ليرة سورية. ناهيك عن السلوك الطائفي الذي بدأ يطفو على السطح من خلال منع النقاب الذي بدا وكأنه احتجاج ناعم من النساء على ما اعتبر هيمنة طائفية. لم يكن سقف التظاهرة يتعدى الإفراج عن الأطفال وإقالة عاطف نجيب مدير الأمن السياسي والمحافظ فيصل كلثوم، وهما من أسوأ ما ورث الرئيس عن والده، فكلاهما شارك في أحداث الثمانينات، وفيصل كلثوم كان من قلة حصلت على مسدس «شرف البعث» الذي قلده الأسد الوالد لمن أبلوا في مجزرة حماة التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرين ألفاً من المدنيين. ذلك الإرث الأمني الرهيب لم يكن ليرعب فتية درعا في يوم الجمعة في 18/3/2011، فعقود القمع التي نشأ فيها الجيل الجديد أورثته خبرة في التعامل مع أجهزة الأمن. أدرك الشباب الذين تداعوا عفواً، ولم يكن يربطهم تنظيم، أن الأمن سيركز على الجامع العمري قلب المدينة، فاختاروا تضليلاً له انطلاق التظاهرة من جامع حمزة والعباس متوجهين إلى الجامع العمري. يؤكد محدثي رداً على أسئلتي أنه لم يكن ثمة تخطيط ولا تنظيم سابق، وإن ما حصل كان ابن تلك اللحظة. سألته عن علاقات وخلفيات الشباب، كان بعضهم قد اعتقل أخوة لهم بتهم السلفية. لكن الحضور السلفي لم يكن واضحاً في الشعارات الأولى التي وضعوها «الله أكبر... الله سورية حرية وبس». وهي الشعارات ذاتها التي سبق تردادها بيومين في الجامع الأموي في دمشق في تظاهرة محدودة. وفي تواضع يدرك محدودية القدرات ويضع سقفاً للمطالب رفع شعار «الشعب يريد إسقاط المحافظ». لا يبدو أن الجهات الأمنية وضعت في استراتيجيتها إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فالمسيرة خضعت لمراقبة وحصار وتهديد، لكن الطابع الدموي الذي ترسخ في عقود غلب التطبع المصطنع لمواجهة رياح الربيع العربي. أحد أفراد دوريات الأمن خاطب المتظاهرين «بدكم حرية يا كلاب» فخرج بعض المتظاهرين عن سلميتهم وحطموا السيارة التي انسحبت. الطابع الدموي احتوي قليلاً. وفي «هيستريا الصورة» يتقدم المتظاهر حسام عياش نحو الشاهرين بنادق الكلاشنيكوف الروسية، ويفتح صدره متحدياً، وكأنه يعيد مشهداً شهيراً جرى في غضون الثورة المصرية، وقال: «إذا كنت رجلاً اطلق الرصاص». التزم العسكري، على ما يبدو بأوامر عدم الإطلاق، لكن ضابط صف في الأمن غلبه طبعه، فسحب مسدسه وأطلق الرصاص في رأس حسام. استنفر الأمن ونزلت في الملعب البلدي 12 طائرة مروحية تقل قوات أمنية خاصة. لم يكن ضابط الصف يدري أنه يصيب النظام في مقتل. ومن لحظتها لم يتوقف نزف الدماء في سورية. طغى الطابع الأمني الدموي وقتل بعدها متظاهر ثان هو محمود الجوابرة وعاد المتظاهرون السلميون بخمس جثث. وهو ما عنى خمس تظاهرات أخرى في اليوم التالي. يصعب الجزم باستراتيجية النظام في تلك اللحظة. هل كان إطلاق الرصاص الحي ضمن خطة أم هو طابع دموي تجلى على نحو عفوي؟ يغلب على الشباب صفة المحافظة والتدين، وتلك الصفة نوع من معارضة النظام الذي ظل حريصاً على محاربة مظاهر التدين، ويحمل الشباب ذكريات مريرة في أيام خدمتهم العسكرية من استهداف للرموز الدينية وتضييق على ممارسة الشعائر، في جو طائفي مكبوت. وفي أنظمة استبدادية لا يبقى مجال عام للتواصل والتجمع غير دور العبادة، وهذا ما شهدته كثير من دول أوروبا الشرقية، هنا برزت شخصية الشيخ أحمد الصياصنة المبعد عن الخطابة والإمامة بسبب «استقامته وجرأته» على حد وصف محدثي. حاول الشيخ الصياصنة في اليوم التالي في 19/3 استيعاب الشباب والتوسط لتحقيق المطالب، واضطرت السلطات الأمنية التي حاربته للقبول به وسيطاً مع المتظاهرين. ولكن الوساطة لم تجد، ولم تلب المطالب، فتصاعد هتاف المتظاهرين «ثورة ثورة...» وعلا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في وجه زخات الرصاص. والشيخ الوسيط قتل ابنه لاحقاً. من سوء حظ النظام مع أهالي درعا أن أحد شبابها؛ أبو الحسن أبا زيد، كان قد أسس شبكة شام الإخبارية على الإنترنت. وهو من جيل المهجرين خارج سورية، فوالده خرج على خلفية المواجهة مع الإخوان المسلمين في الثمانينات وعاشت العائلة في اليمن. عندما أسس الموقع قبل الأحداث بأسبوعين لم يكن يأمل أن تقوم ثورة في سورية وفي بلدته تحديداً. لعبت العلاقات التقنية المعقدة جنباً إلى جنب مع العلاقات القرابية، ثم توسعت الشبكة لتشمل سورية كلها، وينخرط فيها مسيحيون وعلويون. دمر النظام البنى الحديثة للمجتمع من نقابات وأحزاب وجمعيات، ولم يبق غير الروابط القرابية والأهلية، وهي أكثر فاعلية وحماسة من الأولى. فقيم النخوة والثأر والتضامن لا تقاس بقيم الواجب والالتزام المهني والسياسي والفكري. تداعت عشائر درعا المدينة أولاً، ثم انضمت إليها القرى المجاورة. ورد النظام بدموية استدرجت ردوداً غير متوقعه وصلت إلى درجة إحراق تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد بعدما عرف بمجزرة القرى في23/3/2011 إذ أطلق الرصاص الحي على من توافدوا تضامناً من القرى المجاورة. في الأثناء حاول النظام الاستفادة من روابط الدم مع رجالات النظام، فأوفد رستم غزالة في اليوم التالي للتظاهرة الأولى معزياً ومفاوضاً، وبعدها بيومين أرسل فاروق الشرع. وظل طيلة الأحداث يلجأ الى الضباط والمسؤولين من أبناء حوران للتوسط والتهدئة. لا القمع الدموي خوّف الناس ولا الوساطات والترضيات أغرتهم. في الجمعة التالية في 25/3/2011 رد متظاهرو درعا على زيادات الرواتب التي أعلنت عنها مستشارة الرئيس بثينة شعبان بشعارات «يا بثينة يا شعبان شعب درعا مش جوعان»، و «يا بشار اسماع اسماع دم الشهدا ما بينباع». وبعدها انضمت المحافظات السورية تباعاً الى الثورة، وهو ما لم يكن هدف المحتجين في البداية، فما جعل سقوط النظام هدفاً هو حماقات النظام الأمني الذي أخطأ في البداية ولا يزال يخطئ ، وعلى ما يبدو فإن «هستيريا الصورة» تأخذ الشعوب كما تأخذ الأجهزة الأمنية. فالأخطاء التي وقع فيها جهازا الأمن في تونس ومصر كررها جهاز الأمن في سورية ببشاعة لم ترعب الناس الذين عاشوا في رعب عقوداً. لم يحم جهاز الأمن الدولة بل دمر إنجازاتها ومكتسباتها على قلتها.