أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس بشار الأسد إلى محطة التلفزيون الأميركية ABC الكثير من التعليقات، وخاصةً ما تعلق منها بتهربه من مسؤولية قتل المتظاهرين السلميين. ستحاول هذه المقالة إلقاء الضوء على العلاقة بين أقوال الأسد والجرائم المرتكبة من قبل قواته، من زاوية أخرى. بلغ عدد الأطفال من ضحايا القمع الوحشي لقوات الأسد، أكثر من ثلاثمئة طفل منذ بداية الثورة الشعبية في سورية منتصف آذار (مارس) الماضي، وفقاً لتقارير تبنتها الأممالمتحدة مؤخراً، أي بمعدل طفل كل يوم على وجه التقريب. وهذه ظاهرة لم تشهدها الثورات العربية الأخرى، التي بدأت منذ مطلع هذا العام، بما في ذلك ليبيا واليمن والبحرين، التي ووجهت ثورات الشعوب فيها بأعمال قمع واسعة أيضاً. هل يعود الأمر إلى مشاركة واسعة للأطفال في الثورة؟ حتى هذا الافتراض لا يبرِّر استهداف الأطفال، الذين لا يعتبرون في جميع قوانين الأرض وأعرافها مسؤولين عن أعمالهم بما يماثل مسؤولية البالغين. يبقى أنه حتى لو خرق هؤلاء الأطفال القانون، فهذا لا يبرر قتلهم، سواء في الشارع أو في أقبية التعذيب في مراكز أجهزة المخابرات، الأمر الذي ينطبق أيضاً على البالغين بطبيعة الحال. إذاً، فالسؤال لا يتعلق بالبحث عن سبب القتل، لأنه غير مبرر، سواء تعلق الأمر بأطفال أو ببالغين، ولا تغيِّر من الأمر شيئاً تلفيقات النظام عن العصابات المسلحة التي عجز الجيش السوري بكافة أسلحته عن القضاء عليها، مع أن الرطانة السلطوية تتحدث عن إعداد هذا الجيش لمواجهة لا تقل عن مواجهة الجيش الإسرائيلي. فلو أمكننا بلع مسألة قتل أفراد «العصابات المسلحة» المزعومة في اشتباك مسلح على الأرض، فهل هناك ما يبرر قتل من يقع منهم في قبضة الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أكدت تقارير متواترة لمنظمات دولية مدافعة عن حقوق الإنسان حدوثه في حالات كثيرة، ربما أشهرها مغني الثورة في حماة إبراهيم قاشوش، الذي اجتزت المخابرات الجوية حنجرته عقاباً على غنائه بإسقاط الأسد ثم رمت جثته في نهر العاصي. ومثله داعية النضال اللاعنفي الشاب غياث مطر من بلدة داريا قرب دمشق، الذي تعرضت حنجرته لعملية استئصال مماثلة قبل أن يقتل. أما إذا أردنا ذكر مثال على قتل الأطفال في أقبية المخابرات، فهناك الحالة الشهيرة للقاصر حمزة الخطيب من محافظة درعا، الذي بُتر عضوه التناسلي ثم قتل في أحد فروع المخابرات، وحرص هذا الفرع على تسليم جثته المشوهة لأهله، في رسالة واضحة لإرهاب الثائرين السوريين من أجل الحرية. غير أن الحادثة التي أطلقت شرارة الثورة من مدينة درعا، تبقى الأكثر دلالةً على ما نريد الذهاب إليه، فقد خط أطفال قصَّر من تلاميذ المدارس، على جدران مدرستهم عبارة استلهموها من ثورتي تونس ومصر: «الشعب يريد إسقاط النظام!»، وفي صباح اليوم التالي قام فرع المخابرات السياسية في المدينة باعتقال خمسة عشر طفلاً اتهمهم بكتابة الشعار المذكور على الجدران. وحاول أهالي الأطفال التدخل لدى رئيس الفرع عاطف نجيب –من أقارب بشار الأسد– لإطلاق سراحهم، فكان أن أهانهم الضابط في شرفهم وطلب منهم نسيان أمر أولادهم. محاولات الأهالي مع جهات أعلى في دمشق لم تجدِ نفعاً أيضاً، فلم يبق أمام أهل درعا إلا «الفزعة» (النخوة والنجدة)، التي عبرت عنها تظاهرة حاشدة في درعا البلد بعد صلاة الجمعة في جامع العمري في 18 آذار. وكان أن واجه عاطف نجيب هذه التظاهرة السلمية بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فقتل منهم ستة أشخاص. سوف نجد الجواب عن سبب استهداف الأطفال في الخطاب الثاني لبشار الأسد الذي ألقاه في حزيران (يونيو) من منبر جامعة دمشق على جمهور من قيادات حزب البعث. وهذه عينة مما يطلق عليه فرويد الثرثرة التي تكشف الطبقات المخفية من الوعي. من يتكلم كثيراً يعطي المحلِّل عناصر كثيرة مسكوتاً عنها، وعلى رغم الظهورات العامة النادرة للرئيس السوري خلال الأشهر التسعة من الثورة، فهو يتكلم كثيراً حين يظهر، بل أكثر مما يجب. مما قاله الأسد في خطاب حزيران المذكور آنفاً، أنه يشعر بالقلق على «الأجيال المقبلة»، فأطفال اليوم يعيشون تجربة خطيرة تتمثل في «عدم احترامهم الدولة ومؤسساتها» وسوف يكبرون على هذه التربية الفاسدة. يمكننا أن نفهم، في الشروط الملموسة في سورية، أن المقصود بالدولة والمؤسسات هو النظام العائلي الحاكم القائم على قائمتي أجهزة القمع ومافيات الفساد وكل ما يمثله، كتماثيل حافظ أسد التي تم تحطيم معظمها على يد المتظاهرين في طول البلاد وعرضها، أو صور وريثه التي يمزقها السوريون كل يوم وتعيد المطابع طباعتها، أو مباني شركة سيرياتيل المملوكة لرامي مخلوف التي أحرق متظاهرو درعا فرعاً لها في بداية الثورة. هل من المغالاة في التأويل تحميل بشار مسؤولية قتل الأطفال الذين «أساء أهلهم تربيتهم» على قول عاطف نجيب الذي لم يحاسَب على ما اقترفته يداه بدعوى أن «أحداً لم يرفع ضده دعوى حق شخصي» كما قال بشار ذات مرة؟ يمكن الاستدلال بواقعة أخرى للتأكد من أننا على الطريق الصحيح لفهم «منطق» هذا الشخص، ففي الخطاب نفسه (حزيران) قال إنه ليس مستاءً من المتظاهرين بل ممن يصورون التظاهرات ويرسلونها إلى قنوات التلفزيون. ونعرف أن اكثر من يستهدفهم قناصة الأجهزة هم مصورو التظاهرات. وكانت آخر إنجازات أجهزة القمع بهذا الصدد اقتلاع عيني ناشط مصور من مدينة حماه قبل قتله. الخلاصة أن أعمال القتل الوحشية التي تقوم بها الأجهزة التابعة للأسرة الحاكمة لا تهدف فقط إلى تحطيم إرادة السوريين في التغيير، بل كذلك «إعادة تربيتهم» على طقوس عبادة الفرد والخنوع المطلق. أليس هذا ما يقوم به شبيحة الأسد حين يرغمون الأسرى على السجود أمام صوره وترديد عبارة «لا إله إلا بشار»؟ أليست رموز وهتافات مسيرات التأييد محاولة يائسة لاستعادة نسق شمولي فاشي أسقطه السوريون بنعالهم؟ * كاتب سوري