لا أظن أن العرب بلغ بهم سوء الحال أكثر مما هم عليه الآن، فإن كانوا من قبل يعانون من التعرض للطغيان والأذى الموجه إليهم من الآخرين، فإنهم اليوم يعانون مما هو أسوأ من ذلك، هم اليوم يعانون من أنفسهم، بعد أن صاروا أعداء لها يفتك بعضهم ببعض، ويكيد بعضهم لبعض، يتسابق كل فريق نحو إسقاط الآخر، فكفوا عدوهم شر قتالهم وحملوا نيابة عنه راية القتال لإفناء بعضهم بعضا. في وسط كهذا، ليس غريبا أن تقدم أمريكا على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتقرر نقل سفارتها إليها، فهي تعلم يقينا أن لا وقت لتحقيق هذه الأمنية لإسرائيل، أفضل من هذا الوقت الذي ينشغل فيه العرب عن الدفاع عن قدسهم بالتناحر فيما بينهم، والركض وراء عقد التحالفات ضد بعضهم بعضا، والغرق حتى الأذنين في الصراع والنزاع. يبرر الرئيس الأمريكي قراره، بأنه الطريق إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هكذا سولت له نفسه! وهكذا يظن من لا يدرس الواقع ويتمعن في مجريات أحداثه، فالخبراء بمجريات الأمور يرون غير ما يرى، فقراره هذا ما هو إلا ضوء أخضر لإسرائيل لتمضي نحو مزيد من البطش والاستيلاء على الأرض، وكثير من دول العالم عدت هذا القرار مخالفة لقرارات مجلس الأمن والقانون الدولي، مثل روسيا وفرنسا وكندا والسويد وبريطانيا وغيرها، وتتوقع أنه سيكون ضربة قاضية لإقرار السلام في المنطقة. وبعض الصحف الأمريكية تتوقع ما هو أسوأ، فهي تتوقع أن يكون ذلك القرار شرارة تعيد إشعال الاضطرابات في المنطقة من جديد. وبالفعل بدأت هذه الشرارة تتقد في عدد من العواصم العربية وغيرها. يقول الرئيس الأمريكي إنه فكر طويلا قبل أن يتخذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ليت شعري، ما الذي هداه إليه تفكيره الطويل ذاك؟ هل هداه إلى أنه يغامر بأمن أمريكا حين يضعها وجها لوجه على خط النار في مواجهة التطرف والإرهاب، الذي سيتخذ من تسليم أمريكاالقدس لإسرائيل وقودا ساخنا يغذي مشاعر الكراهية ويزيد في أعمال العنف، ويكون عاملا جديدا مشجعا على انخراط المتطوعين لتنفيذ أعمال التطرف والإرهاب؟ هل هداه تفكيره إلى أنه يقوم بعمل لا يستفز به الفلسطينيين وحدهم ولا العرب أو المسلمين فقط، وإنما المسيحيين أيضا، الذين يمثل لهم القدس رمزا دينيا مقدسا، وتسليم القدس لإسرائيل يعني تهويد المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يرضي أحدا سوى إسرائيل؟ هل هداه تفكيره إلى أن أمريكا بهذا الاعتراف إنما تعبر صراحة عن محاباة إسرائيل وغياب الحيادية في موقفها من القضية الفلسطينية، وأن ذلك سيكون سببا في إحكام إغلاق الأبواب نحو أي تسوية سلمية عادلة؟ أخيرا، أرجو أن يكون في هذا الحدث الذي نكره وقوعه، خير لا ندركه، تصديقا لقوله تعالى: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم»، فيكون الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، سببا يجمع العرب وينسيهم خلافاتهم الإقليمية، فيلتقوا معا على هدف واحد، يتمثل في العمل يدا واحدة من أجل التشبث بالقدس والمسجد الأقصى لا يفرطون في شيء من ذلك.