الهوية الشخصية وتعدد الأدوار الاجتماعية موضوع يتشابك فيه الذاتي مع الجمعي ويكشف عن الأبعاد الأكثر غموضا في وجود الإنسان، رحلة البحث اليوم مميزة تحتاج الكثير من التأمل، فالسؤال ليس سهلا يمكن الإجابة عليه بوضوح بل هو جدلية فلسفية كبرى تتنازعها القوى النفسية الاجتماعية والثقافية منذ عقود، بل تتعقد أكثر عند إدراكنا أن الفرد لا يعيش في الفراغ بل في عالم متشابك الأدوار والمعاني، حيث يتطلب منه أداء أدوار متعددة تتعارض أحيانا أو تتداخل بشكل يصعب معه تحديد جوهره الحقيقي. إذا انطلقنا بتأمل الهوية الشخصية فإننا نجد أن هذا المفهوم مرتبط بشكل أساسي بفكرة الذات وديمومتها عبر الزمن، فالهوية الشخصية هي ما يجعل الفرد يشعر بأنه هو نفسه على الرغم من تغيرات الحياة والتحولات التي يمر بها، لكن هذه الاستمرارية ليست بالبساطة التي تبدو عليها؛ إذ إن الفرد يتغير على المستويين النفسي والجسدي، كما تتغير الظروف المحيطة به، ما يجعل الهوية أشبه بشبكة دقيقة ديناميكية تتغير وتتجدد باستمرار دون أن تفقد طابعها الأصلي، ولكن ما هو هذا الطابع؟ هل هو الذاكرة كما فسره فلاسفة غربيون حيث قالو إن الهوية تستند إلى استمرار الذاكرة عبر الزمن، أم أنه شيء أعمق يتجاوز الوعي والذكريات؟. لو ذهبنا إلى معنى الأدوار الاجتماعية نجد أن الفرد ليس كيانا مستقلا بالكامل بل هو حلقة من شبكة اجتماعية تفرض عليه أدوار ومسؤوليات تتنوع بتنوع الظروف المحيطة والمواقف، فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون الفرد أبا في الدار ومديرا في العمل، كما أنه صديقا بين أصدقائه، وكل دور من هذه الأدوار يحمل معه توقعات ومعايير تفرض على الفرد أن يتصرف بطريقة مناسبة لكل منها، ولكن هل يمكن لهذا الفرد أن يحتفظ بهويته الشخصية الحقيقية في ظل هذا التعدد؟ أم أن الهوية تصبح مجرد قناع يتغير بتغير الموقف. ولو بقينا في محور المثال السابق سنجد أن التوتر بين الهوية الشخصية والأدوار الاجتماعية سيظهر بوضوح في المجتمعات الحديثة؛ حيث يتعين على الفرد التنقل بين أدوار متعارضة في بعض الأحيان، فسيجد الفرد نفسه مضطرا للتوفيق بين دوره كوالد يرغب في قضاء الوقت مع أسرته، ودوره كموظف يتطلب منه العمل لساعات طويلة، وهذا التوتر لا يقتصر على الجانب الزمني بل يمتد إلى الجانب القيمي أيضا؛ إذ قد يجد نفسه مضطرا للتصرف بطرق تتعارض مع قيمه ومعتقداته لتحقيق النجاح في دوره الاجتماعي. بعض المفكرين العرب قالوا إن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، وإن هويته تتشكل من خلال تفاعله مع مجتمعه، ولكن هذا التفاعل لا يلغي استقلالية الفرد بل يشكل جزءا من تجربته الذاتية، وهنا يلوح في الأفق سؤال: عميق هل هذه الهوية تعبير عن ذات مستقلة أم أنها نتاج للظروف الاجتماعية؟ وفي أمثلة أخرى بهدف التنويع ومن واقع الحياة توضح تعقيد العلاقة بين الهوية وتعدد الأدوار الاجتماعية، نجد الأمهات العاملات يواجهن تحديات كبيرة في التوفيق بين أدوار، الأم، الزوجة، الموظفة، وكل هذا يتطلب منهن مرونة نفسية فائقة وقدرة على التنقل بين الأدوار المختلفة دون فقدان الشعور بالذات، وأيضا نرى حياة الفنانين الذين يعيشون بين عالمين مختلفين تماما، علم الشهرة والأضواء والتوقعات الاجتماعية من جهة، وعالمهم الخاص الذي يعبر عن هويتهم الحقيقية. الهوية تتغير مع تغير السياقات والمواقف ولكن هذا التغيير لا يعني فقدانها بل يشير إلى قدرتها على التكيف مع الظروف المختلفة، فعند اكتساب لغة جديدة أو الانتقال إلى ثقافة مختلفة سنجد أن الشخص يتبنى بعض الجوانب من هذه الثقافة دون أن يفقد هويته الأصلية، بل يضيف إليها أبعاداً جديدة، بالطبع هذا التعدد في الأدوار يكون مرهقا للفرد وخاصة إذا كانت تتطلب منه التصرف بطرق تتعارض مع قناعاته الداخلية، حينها سيكون بين تحقيق الذات وتلبية توقعات الآخرين، وهذا التصادم يؤدي إلى أزمة هوية إذا لم يتمكن من تحقيق التوازن بين الاثنين. تحقيق التوازن المنشود هذا في منظور فلسفي يتم تحقيقه من خلال قدرات الثبات الداخلي الذي يتسلح به الفرد من خلال مواجهته للتغيرات الخارجية، وأن يتصرف وفقا لمبادئ عقلانية تعبر عن حريته واستقلاليته بغض النظر عن الضغوط الاجتماعية، وهذا الرأي أجده يبدو مثاليا للغاية عندما نواجه تعقيدات الحياة على أرض الواقع. وفي المنظور المعاكس يمكن النظر إلى الأدوار الاجتماعية كفرصة لتعميق الهوية الشخصية، بدلا من اعتبارها تهديدا لها، إذ إن كل دور يوفر للفرد تجربة فريدة تساعده على فهم ذاته بشكل أفضل، وأعتقد أن هذا النوع من البشر يمتلكون القدرة على التأمل الذاتي وإعادة تقييم حياته باستمرار ومتمكن من تحقيق التوازن بين الخارج والداخل. وفي نهاية المطاف يمكن القول إن العلاقة بين الهوية الشخصية وتعدد الأدوار الاجتماعية ليست علاقة صراع بل هي علاقة تكامل، فالفرد يحتاج الأدوار الاجتماعية لتشكيل هويته، ولكنه يحتاج أيضا إلى الحفاظ على جوهره الداخلي لتحقيق التوازن بين ذاته من جهة والعالم من جهة أخرى، فهذه العلاقة المعقدة تشكل جوهر التجربة الإنسانية التي تجمع الثبات والتغيير بين الذات والآخر وبين الحرية والضرورة.