الفساد المالي داء موجود في كل الدول، المتقدمة منها والنامية، والديموقراطية والديكتاتورية على السواء، فالطبيعة البشرية المفطورة على الطمع وحب جمع المال والتباهي بكثرته، هي طبيعة واحدة في نفوس كل الناس {وتحبون المال حبا جما}، أي لا يوجد مجتمع يخلو من الفساد، الفارق الوحيد هو أن نسبة حجم الفساد في المجتمعات لا تتماثل، بعضها ينتشر فيه الفساد أكثر من بعض. في بعض المجتمعات يتسع حجم الفساد حتى يكاد يكون هو النمط السلوكي المتعارف عليه في المجتمع، وفي بعضها الآخر ينكمش حجمه إلى قدر تظن معه أن لا فساد في المجتمع. انكماش حجم الفساد المالي في المجتمع، لا علاقة له بارتفاع القيم الأخلاقية أو وجود الضمير الديني لدى الناس، فأمام إغراءات المال وبين يدي غريزة الطمع، تنهار حواجز القيم الأخلاقية والدينية لدى كثيرين إلا من رحم ربي، لهذا فإن انكماش حجم الفساد يرتبط بشيء واحد فقط، هو قوة ما يوجد في المجتمع من رقابة ومحاسبة وصرامة في فرض الأنظمة وتطبيقها على كل أحد بلا استثناء، فمتى حدث هذا تقلص وقوع الفساد. وخير دليل يؤكد صدق ذلك ما ورد في الأثر (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). في الرابع من نوفمبر الحالي، على إثر تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد ومباشرتها لمهماتها بإصدار قراراتها الحاسمة بإيقاف عدد من الأسماء البارزة ذات الثقل الاقتصادي والسياسي في المجتمع، أصيب الناس بشيء من الدوار، فهم في ذهول، لا يكادون يصدقون أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث، فعلى مدى التاريخ الطويل للمملكة لم يسبق للناس أن شهدوا مثل هذا الإصلاح الاقتصادي، الذي انطلق أمام أعينهم كالسهم لا يوقفه منصب أو مكانة، شعاره من لم يربأ بنفسه عن موضع الاتهام، فلا حصانة له. هذا الحدث الكبير الذي لفت أنظار الناس إليه في كل مكان، وأشغل الإعلام العالمي بالحديث عنه طويلا، أظنه وضع الدول العربية كلها في مأزق، وأوقعها موقعا حرجا، فالدول العربية تعرف أن الفساد المالي ليس حالة خاصة بالمملكة وحدها، وأنه داء مشترك بينها، ينخر في عظامها جميعها، وكل أحد يعرف أن التحايل على الأنظمة لبناء الثروات الخاصة على قواعد من المال العام المختلس، يكاد يكون هو النمط العام المتعارف عليه في السلوك الاقتصادي في البلاد العربية كلها بلا استثناء، الغنية منها والفقيرة على السواء، لذلك فإن الشعوب العربية باتت تنتظر من حكوماتها أن تطلق هي أيضا سهاما مماثلة لتلك التي أطلقتها المملكة، كي تخترق قلب الفساد وتطرحه أرضا كما طرح في المملكة، وهو ما يضعها في موقف محرج إن هي لم تفعل. [email protected]