لم يكن ليستطيع أحد من أبناء مناطق بني سعد وبلحارث وثقيف وبني مالك ومابعدها الوصول إلى إحدى المدن كالطائف ومكة والرياض دون المرور بغزايل والتوقف في أحد مقاهيها وأحيانا المبيت فيها عندما بدأت السيارات تخترق جبال وأودية الحجاز، وكنت تجد في قاطنيها من قبيلة بنيوس صور الشهامة والضيافة وحسن التعامل دون تفرقة بين قوم وقوم أوقبيلة وقبيلة، أما بوا فهو واد فحل يخترق منطقة كبيرة منابعة من سراة بني مالك ويصب في وادي تربة حيث قبيلة زهران والبقوم، تمر على ساكني ضفتي وادي بوا من بني مالك والشلاوى فيكرمونك من إنتاج مواشيهم أو مزارعهم وإذا سال الوادي وجدتهم أهل نخوة وشهامة، وكم من مسافر انقطعت به الطرق مع سيل بوا فتجد أهل الوادي خير مضيف ومعين يكرمون ويضيفون ويسامرون متناسين المواقف القديمة ويقولون الدنيا سعودية. في مناسبات التجمع في تلك المناطق كالأفراح أو زيارات ودعوات خوامس القبائل لبعضها تجد كل أبناء هذه المناطق يجتمعون ويستمعون إلى الشعراء من مختلف القبائل باختلاف أجيالهم فتجد أمام الصفين ابن تويم الثبيتي وهلال السيالي ومريسي الحارثي وجار الله السواط وعبدالله المسعودي من هذيل وعبادل وعوض بن سليم وحوقان من بني مالك وعيضة بن طوير وغيرهم يترادون ويتفاخرون ويتشاكسون ويتهاجون أحيانا، ويسري الناس في آخر الليل بأبيات الشعراء بكل مافيها من دلالات وإيحاءات غير مباشرة بالحروب والثارات والمواقف وقد لايكون بالضرورة ساريا بشعر شاعر قبيلته، وتنتهي عند هذا الحد ولا تثير فيهم عصبية أو أعمال عنف ويقولون وهم يتفاخرون أو يتمازحون الدنيا سعودية. في مدرسة دار التوحيد التي أسسها الباني المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز قبل 66 عاما يجتمع الطلاب من مختلف مناطق المملكة بدوا وحضرا يأكلون سويا وينامون في المهجع طيلة سنوات الدراسة تجمع بينهم أخوة في طلب العلم وفي الحياة انتقل بعضهم للدراسة رغبة أوعنوة في مبدأ الأمر ثم التحموا في نسيج فريد من مختلف المدن والقرى والبوادي ولا عجب فالدنيا سعودية. وحين بدأت النهضة التعليمية في بلادنا وفتحت الدولة خزائنها لتعليم أبنائها سخرت كافة الإمكانات حتى تدنت نسبة الأمية ووصلت في العام الماضي إلى 13.4% من الجنسين، واندفعت إدارات التعليم لافتتاح المدارس يدفعها الحماس والرغبة المخلصة وكان لابد أن تحدث أخطاء والأخطاء بطبيعتها غير مقصودة، غير أن بعض الأخطاء يسيرة يسهل حلها وبعضها الآخر تتضح آثارها السلبية على المدى الطويل كقطرات الماء المتسربة إن لم تعالج من البداية تؤدي إلى تفتيت الصخر أوتهديم البناء، ووضعت تنظيمات وقواعد لفتح المدارس من حيث توسط موقعها وكثافة الطلاب العددية للقرية والقرى المجاورة والتعاقد مع متعهدين من الأهالي لتوصيل طلاب القرى الأخرى وطالباتها إلى المدرسة، ولكن في بعض الأحيان خضعت لرغبات ومجاملات ومحاولات إرضاء أطراف على حساب التنظيم، فما إن تفتح مدرسة في قرية حتى يسارع أهالي القرى المجاورة بالطلب لفتح مدرسة في قريتهم وهو طلب مشروع ومن حقهم طالما فتح الباب دون النظر إلى الحد الأدنى من الطلاب في السنة الأولى على الأقل لكل مرحلة، وأدى التساهل في هذا الأمر بحسب الوجاهة أو الواسطة لا الحاجة الفعلية إلى أن تفتح مدرسة في قرية ومدرسة أخرى في قرية مجاورة لاتبعد عنها إلا مسافة يسيرة أو يفصل بينهما واد أو ركيب أو شعيب، وحمل هذا النوع من التوسع آثارا بعضها واضح وبعضها الآخر غير واضح، فالواضح هو نشأة أشباه مدارس يتم تجميع أسماء طلاب في حدود ثلاثين طالبا بعضهم يدرس في مدارس مجاورة وبعد فتح المدرسة ينسحب الطلاب من مدارسهم إلى مدرسة القرية. ثم تتقلص أعداد الطلاب وتصل في بعضها إلى خمسة عشر طالبا ثم تغلق المدرسة لأنها لم تفتح على أسس واضحة مدروسة وإنما على الهوى والمجاملة وزادت الهجرة إلى المدينة الوضع سوءا، ولا تخفى كمية الهدر في هذا النوع من المدارس في المدرسين والتجهيزات المدرسية والمباني الحكومية المتناثرة دون تخطيط مهملة ومهجورة، غير أن الخطر الأكبر هو تكريس العصبية الضيقة في أذهان الصغار في أن تكون لهم مدرستهم ولايذهبون إلى مدرسة القبيلة المجاورة لأن لنا مدرستنا ولكم مدرستكم، وبدلا من أن يصهر التعليم هذه النظرة الضيقة ويجعل من الانتماء للقبيلة والاعتزاز بها لبنة في الانتماء للوطن الكبير نراه يكرس الانتماءات الضيقة، وبدأت تتسرب تحت الرمال حتى سمعنا في سنوات خلت عن مدارس تلقن طلاب القرية الإجابات للحصول على أعلى الدرجات في الثانوية العامة لتتيح لهم فرصة أفضل للقبول بالجامعات. ماحدث في مدرسة بوا خطأ بكل المقاييس لكن يجب أن لانأخذ هذا الخطأ بمعزل عن بقية الظروف ونجعل الطلاب لوحدهم يدفعون ثمن أخطاء الآخرين، خطأ الطلاب هو نتيجة وليس سببا. خطأ كانت له بوادر من فترة في اشتباكات سابقة وفي اعتداء على شاعر عندما كان عائدا من ملعبة. عولجت النتائج وهي مهمة كجمع شيوخ القبائل والتأكيد عليهم أو أخذ التعهد منهم دون معالجة الأسباب وهي الأهم لأنها تراكمت عبر عقود، ولذلك فإن معالجة المشكلة بشكل ارتجالي أو متسرع ربما يزيد الوضع سوءا ويفاقم من حدته، واللجان التي شكلتها إدارة التربية والتعليم في الطائف لايمكن أن تهدد بتطبيق لائحة السلوك وتوصي بإغلاق مجمع مدارس بوا لأنها حيلة العاجز، فقرار إغلاق مدرسة قائمة أخطر من قرار فتح مدرسة في غير محلها وأخشى أن يكون تسريب الخبر بصرف النظر عمن سربه للصحافة يدخل في ثقافة سد الذرائع الذي ضربت بأطنابها كثيرا من جوانب حياتنا العامة، لكن التحدي الحقيقي لإدارة التربية والتعليم إن أرادوا إصلاحا أن يجعلوا هذه المدرسة نموذجا فريدا ومثاليا للتلاحم الوطني والانصهار في الكيان الكبير بدلا من تجارب مناهج التربية الوطنية النظرية التي أثارت كثيرا من النقاش عن مدى فاعليتها، وليمتد علاج مشكلة طلاب مدرسة بوا إلى حل حاسم لمشكلة الأراضي وبناء ثقافة الانتماء للوطن من خلال القبيلة والجماعة والقرية والمدينة فالدنيا سعودية.