لا شك أن التحديات التي تواجهنا في هذه المرحلة كثيرة، ولا شك أيضاً أن الأنظار شاخصة نحو القضية الاقتصادية بالدرجة الأولى؛ لأن الإعلام المحلي بدأ مؤخراً، تسليط الضوء عليها بجدية أكبر، فقد أثارت استضافة الإعلامي داود الشريان، وزيري المالية والخدمة المدنية، بجانب نائب وزير الاقتصاد والتخطيط، حفيظة بعض المواطنين، بسبب المادة التي قدمت فيها، حيث سمحت الحلقة للناس، بتجاوز الانشغال العاطفي المفرط بالصراع الهوياتي، لصالح التفكير النقدي في نظرتنا لأنفسنا، بعد تناول إنتاجية موظفي القطاع الخاص، والاضرار التي خلقها الاتكال على النفط. لا لبس في أن طرح رؤية 2030 الاقتصادية، قد أثرت الساحة المحلية بمادة دسمة؛ لأنها أعطت الناس، ولأول مرة، ما هي نظرة صانع القرار للاقتصاد الوطني، بعد أن كانت القرارات والخطط الاقتصادية تقدم جاهزة للمواطنين، دون أن يكون للنقاش العمومي حولها أي قيمة حقيقية. قد لا يكون للمواطن في الوضع الحالي، مقدرة على التأثير في صياغة أهداف الخطة، أو التأثير في تطبيقاتها التي بدأت تمس دخله، لكنها سوف تجعل منه أكثر حرصاً على تتبع أخبارها ونتائجها مستقبلاً. هذا على الأقل، ما اتضح من خلال التفاعل الشعبي الهائل، الذي حدث مع حلقة الشريان. اعتمدت المملكة منذ تأسيسها على سياسة القرارات العمودية، أي أن من يجلس على كرسي الوزارة يتخذ القرار، ثم ينتظر النتائج، دون قياس ردود الأفعال حولها، أو تحري نتائجها الاجتماعية والسياسية، وقد ساعدت الثقافة المحلية على غياب المساءلة. يميل الكتّاب المختصون بدراسة الاقتصاد الريعي، ومنهم، مايكل روس، صاحب كتاب «نقمَة النفط»؛ لكون سياسة غياب الشفافية والمساءلة أحد سمات الاقتصاد الأبوي، الذي يقوم على توزيع المحصول على غير المشاركين في الإنتاج، ولأن هذه الطريقة في التعاطي من الاقتصاد، لم تعد ممكنة بسبب ارتفاع المصروفات على حساب الإيرادات، فقد قرر المجلس الاقتصادي طرح رؤية اقتصادية معاكسة تماماً للنموذج القديم، كما سمح للوزراء الخروج من الأبراج العاجية، والانفتاح على وسائل الإعلام، وبالتالي فرض عليهم تحمل ضغط تساؤلات الجمهور ونقدهم الصريح. إن النظرة الاقتصادية الجديدة تجيب نظرياً على سؤال كيف يجب أن يكون عليه حالنا في المستقبل، فقد بدأت الخطة بالتفكير في الاستثمار في رأس المال البشري، حيث يشكل الشباب دون 25 سنة، أكثر من نصف سكان المملكة، كما جاء في نص الورقة المنشورة. ثم الانتقال من الاعتماد على النفط، للاعتماد على الاستثمار في مشاريع اقتصادية صاعدة، توسع من حضور القطاع الخاص ودوره، عن طريق خصخصة بعض الخدمات الحكومية، ولهذا تبعات كثيرة، خصوصاً، إذا ما تم استنساخ نماذج اقتصادية لا تناسب البيئة الاجتماعية والامكانيات البشرية في المملكة. لا يعد النموذج الاقتصادي الرأسمالي الغربي هو النموذج الوحيد الذي يستحق الاستنساخ، فثمة نماذج أكثر جاذبية، ومنها النموذج الصيني والهندي. لاحظت أثناء قراءة رؤية 2030 التركيز على «خلق مجتمع حيوي»، فالخصوصية الاجتماعية أمرٌ لا يمكن تجاوزه بسهولة، ففي أي عملية تحوّل لا بد من التفكير في الانعكاسات الاجتماعية والسياسية الناجمة عنه، التي من الممكن أن يحدثها أتباع نموذج الرأسمالية الجديدة. فبرغم كون المملكة دولة بترولية ويدخل النفط في عمق الثقافة الاجتماعية، إلا أن الثقافة النفطية شبه معدومة، والدراسات التي تناولت الانعكاسات الاجتماعية والسياسية لهذا النموذج من الاقتصاد شحيحة جداً، وقد يكون التعليم العام أحد المسؤولين عن نقص الثقافة الاقتصادية لدى المواطنين. إن الفترة التي يمر بها الاقتصاد الوطني، فرصة تاريخية لتغيير«نظرتنا لأنفسنا»، وللمساءلة والمحاسبة وطرح الأسئلة، وإعادة تشكيل الثقافة الاقتصادية، حول سبل الانتقال من الاستهلاك المرَضي، بكل ما تحمل هذه الثقافة من ويلات، نحو مجتمع منتج.