في الثامن من أبريل عام 2003م، سقطت بغداد، وأعلن العراق بلدا محتلا. وقد جاء الاحتلال بعد ثلاثة عشر عاما من الحصار القاسي، وضربات جوية مستمرة، وحظر جوي شامل فوق سماء البلاد. وترافق ذلك مع تفتيش، من قبل فرق دولية بحثا عن أسلحة الدمار الشامل. وكان احتلال العراق، من قبل الأمريكيين، قد تم تحت ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ولعلاقة مفترضة مع تنظيم القاعدة. وقد وضع الأمريكيون احتلالهم للعراق، في سياق الحرب العالمية على الإرهاب. ولم يكن سقوط عاصمة العباسيين حدثا عابرا في التاريخ العربي، فقد كان مقدمة لبراكين وأعاصير عاتية، مرت بها المنطقة بأسرها، ولا تزال تعاني منها حتى يومنا هذا. لقد أكد الاحتلال الأمريكي لأرض السواد، وما تمخض عنه، من تدمير للدولة ومصادرة هويتها، وإعادة تشكيل هياكلها على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، وما نتج عن ذلك، من فوضى وانعدام للأمن وقتل على الهوية، أنه لا يختلف في جوهره، عن جوهر الاحتلالات السابقة التي شهدتها بلدان عربية، من ضمنها العراق بالعصر الحديث. إن أحد المظاهر السلوكية للإمبراطوريات الكبرى، قديمها وحديثها، أنها لا تتعلم من دروس التاريخ، وأنها تمارس ذات النهج الذي ثبت فشله مرات ومرات، عبر مسيرة الإنسانية الطويلة. لقد أكدت التجارب التاريخية، أن ثمة جاذبية... مغناطيساً خاصاً يدفع بهذه الامبراطوريات لتكرار أخطائها بشكل ميكانيكي، وهذه الجاذبية، هذا المغناطيس له سحر خاص، يحجب عن قوى الاحتلال القدرة على الرؤية والقراءة، وبالتالي التنبؤ بشكل صحيح باحتمالات المستقبل. رؤية المحتل إن الجغرافيا بالنسبة لها، مجرد ثروات وغنائم، ومواقع استراتيجية، بحار وممرات ومضائق. تصاب القوى الطامعة بسبب جشعها وعنجهيتها بما يحجب عنها القدرة على التفكير بوجود السكان المحليين، فهم ليسوا سوى قطيع مسالم، ليس له حول أو قوة، ومن ثم فلا حاجة للاستغراق في التفكير أو حتى التنبؤ بردود أفعالهم. وكانت نواميس الكون، وما يجري على الأرض تدحض عمليا تلك الأوهام. وقد سجلها التاريخ في قانون قطعي أن الشعب المحتل، لا يقبل أن تدنس أراضيه، ويعتدى على عرضه وكرامته، وأنه يستخدم كل ما يمكنه من الدفاع عن وجوده.. سجلها التاريخ مرات ومرات موضحا كيف تواجه غطرسة القوة بمقاومة الشعب الأعزل. مرات ومرات أيضا، دفع القادة والمخططون للغزو حياتهم ثمنا لأوهامهم. وليس صدفة أن يموت الإسكندر المقدوني فوق تراب الرافدين في طريقه لغزو الشرق، كما لم يكن صدفة أن يدفع عدد من سلاطين آل عثمان حياتهم، في عمليات غزو أو سطو لا فرق، لبلدان أخرى. نظرية رامسفيلد بهذا النمط من التفكير، بدت الأمور وردية للمخطط الأمريكي، وهو يقوم بتجهيزاته لاحتلال العراق. لم ير وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد حاجة لأكثر من ثلاثين ألف جندي لاحتلال العراق. قال حسبما تسجله محاضر التسجيل لجلسات التحضير للحرب مع كبار القادة العسكريين: إن وسائل الحرب التقليدية قد فات أوانها، وأن للقوات الأمريكية قدرات خارقة على كشف كل شيء يتحرك على الأرض، وفي قاع البحار. وإن أشعة الليزر قادرة على رصد القطاعات العسكرية التي تتحرك في الظلام، وتوجيه أسلحتها في غضون ثوانٍ عليها. ولذلك فلا حاجة لعدد كبير من الجنود في عملية احتلال العراق. إن الثلاثين ألفاً الذين سيتم إرسالهم من الجنود الأمريكيين لن يكونوا هناك للقتال، ولكن للحفاظ على الأمن، وتنظيم حركة الشوارع في الأيام الأولى للغزو، ولم يكن رامسفيلد في ذلك بعيدا عن تنظير جولدا مائير، وهي تشير إلى فلسطين باعتبارها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». «الفوضى الخلاقة» تصور قادة الحرب، أن العراقيين سيستقبلونهم استقبال المحررين والأبطال. وحين دخلوا بغداد، دون حرب تذكر، حسبوه خيرا، وعللوا أنفسهم بمرحلة من الاستقرار، تمكنهم من ترتيب أوراقهم كاملة في بلد الرشيد. وكانوا حريصين، على أن يكون واضحا شكل وطبيعة النظام الذي يريدون تأسيسه. نظام تفتيت يقوم، على دعائم دينية وإثنية وطائفية، وقوامه «الفوضى الخلاقة» وهو تعبير شاع مع بداية الاحتلال على لسان رامسفيلد ورايس، وطرب له الرئيس بوش نفسه، وأعاد تكراره في خطاباته. قال رامسفيلد بوضوح بعد هجوم الغوغاء، على الجامعات والمتاحف، والمختبرات العلمية والمصانع، ومقرات أجهزة الدولة، إن الشعب العراقي لم يتعود على ممارسة الحرية، وإنه عاش طويلا تحت حكم شمولي، وإنه الآن بعمليات الحرق والسلب والنهب يتعلم كيف يمارس حريته. فوجئ المحتلون وأتباعهم، أن العراقيين يرفضون أن يسلموا قيادهم للمحتل، وأن مقاومتهم هي من أجل أن يستمر العراق، وطنا لكل العراقيين، بلا طائفية ولا تعصب، ويعود له وجهه العربي الإسلامي، الذي استمد منه حضوره منذ قام بدوره في معركة القادسية، بتوجيه من الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وبقيادة الصحابي الجليل، سعد بن أبي وقاص. بات الاحتلال، وما تبعه من قسمة طائفية وإثنية إيذانا بانتقام، لا يبقي ولا يذر، من العراقيين لدورهم التاريخي المشهود له في الدفع بمسيرة الحضارة العربية الإسلامية. الاستثمار الإيراني وكانت تعقيدات العلاقة بين الأمريكيين والإيرانيين، تضيف أبعادا جديدة، تضاعف من حدة أزمة الاحتلال. فمشروع القسمة الطائفية يستدعي حضورا إيرانيا في العراق، وفقا لاستراتيجية القسمة، في حين أراد الإيرانيون استثمار حضورهم، ليطغى على كل حضور آخر. وهكذا تم اختيار عناصر وأحزاب وميليشيات طائفية، على مقاس العملية السياسية، التي تجعل من العراق، كيانا باهتا وفاشلا. وكانت المواصفات المطلوبة جاهزة: قطاع طرق، وعملاء مزدوجين، وطائفيين، وانعزاليين، ولصوصا. وهكذا وجد الأمريكيون أنفسهم في مأزق لا يحسدون عليه، في علاقتهم مع الإيرانيين، في حالتين أحلاهما مر. فهم من جهة يرون أن إيران قدمت لهم الموارد البشرية والقيادية لتنفيذ العملية السياسية، وهم من جهة أخرى، لا يرغبون في رؤيتها متفردة بالسيطرة على العراق. مقاومة الاحتلال إثر الاحتلال، بدأت مقاومة العراقيين، للاحتلال. ولم يكن ذلك غريبا على شعب وقف ضد الغزاة طيلة تاريخه الطويل، وكانت له ملاحم فذة في مواجهة المغول والعثمانيين والصفويين، وفي مواجهة الاحتلال البريطاني، في ثورة العشرين، وفي ثورات أخرى، صنعت تاريخ العراق الحديث. أكد العراقيون بمقاومتهم للمحتل، قدرتهم على استنهاض موروثهم التاريخي، والزج به في معركة التحرير. ولم يكن ذلك سوى تماه مع نواميس الكون. فالأمم حين تتعرض للنكسات والنكبات، تستحضر إرثها ومخزونها، كعنصر إيجابي، ضمن قانون الفعل والاستجابة. ولم يكن لأي شعب آخر، أن يمتلك ما امتلكه العراقيون، من إرث مجيد، فقد كانت بلاد السواد، منطلق الأبجدية واللغة الفصحى، وقوانين حمورابي، ومنارة النهضة، وفي عاصمته جرت ترجمة علوم الأولين، كما جرى تدوين للفقه وتاريخ هذه الأمة، ومنه انبثقت العلوم والمعارف، وقصائد العشاق، وفي عهده الذهبي، خلقت إمبراطورية عربية شامخة، لا تغيب عنها الشمس. كان رفض العراقيين للاحتلال، هو الحصن الحصين للدفاع عن الوحدة الوطنية. لكن جملة من الظروف الإقليمية المحيطة تكالبت على هذه الوحدة، مبرزة حالة مقيتة ومحدثة في تاريخ العراق. وكان المحتل ثملا بالنتائج التي توصل إليها. ثملا وهو يرى السكان العراقيين من العرب يطردون بالآلاف من مدينة كركوك، وثملا وهو يرى حملة التكريد لمدينة الموصل، وثملا أيضا وهو يسمع بعض الأصوات المشبوهة تطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، وبحق الجنوبيين في الاستفراد بآبار النفط الجنوبية، وأنهم ينبغي أن يحصلوا على ذات الحقوق التي حصل عليها الأكراد في الشمال. وتأكد للقاصي والداني، أن ما جرى في العراق من تصعيد للصراعات الإثنية والطائفية، وتهجير للمدنيين، ليس سوى النزر اليسير من إفرازات الاحتلال. مشروع التقسيم تصاعدت الحروب الطائفية والإثنية وتحول العراق إلى ساحة حرب أهلية طاحنة، وسوف يتواصل ذلك، ما لم ينتظم العراقيون في وحدة وطنية حقيقية، من خلال التسليم بالمواطنة الكاملة، دون تمييز في الطائفة أو الدين أو اللغة. لم يكن لمشروع القسمة أن يتحقق، من غير تزامنه، مع التدمير الممنهج للدولة، وحل الجيش، والتنكيل بالمعارضين، وتحفيز روح الانتقام والثأر. والهجمة على تاريخ العراق، ومرتكزاته الثقافية، شملت المتحف العراقي وجامعة بغداد، ودور الكتب ومؤسسات الدولة. وكان للغوغاء ولقادة الميليشيات التي قدمت مع الاحتلال وعلى ظهور دباباته الدور الأكبر في اغتيال العراق. وفي مواجهة الفوضى، طرحت الإدارة الأمريكية، مشروعها للهروب إلى الخلف، بقرار غير ملزم، صدر عن الكونجرس الأمريكي بتقسيم العراق، وهو مشروع تقدم به نائب الرئيس الأمريكي الحالي، جوزيف بايدن للكونجرس. وأجاز قانون آخر من الكونجرس، تقديم مساعدات عسكرية، لجهات غير حكومية، تحت مسمى الأقليات في العراق. وقد تعامل هذا القانون مع قوات البشمركة ومقاتلي العشائر ككيانين منفصلين عن الجيش العراقي. وذلك ما يدشن الأرضية لتطبيق مشروع بايدن سيئ الذكر حول تقسيم العراق. إن القرار آنف الذكر، يوكل إلى قوات البشمركة الكردية وقوات العشائر مهمة الأمن الوطني في مناطقهم، وللجيش العراقي، في المناطق المتبقية تحت سلطة بغداد، حماية الوسط. بحيث يتقسم العراق لثلاث دول منفصلة، لا سيطرة للحكومة المركزية عليها. رفض تقسيم العراق، ليس مجرد نداء عاجز، تطلقه القوى التي أسهمت في تنفيذ العملية السياسية، التي قسمت العراق بين الطوائف والأقليات. ولن يكون جديا، ما لم يبدأ برفض العملية السياسية التي شيد النظام الحالي استنادا عليها. عودة العراق إن تحقيق المصالحة الوطنية، وبناء جيش عراقي قوي، وإلغاء الميليشيات الطائفية، وعودة العراق إلى محيطه العربي، وإلغاء قرارات الاجتثاث، وإعادة الاعتبار للهوية التي صنعت تاريخه. هي خطوات جوهرية على طريق مناهضة بلقنة العراق. وهي أيضا السبيل للقضاء على الإرهاب، الذي تمكن في ظل النظام الطائفي من اختطاف محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى. وهي التي تتكفل بهزيمة الميليشيات الطائفية وفك الحصار عن الفلوجة، المدينة التي بقيت تحت الحصار، قرابة ستة أشهر. وقد نالها الكثير، منذ احتلال العراق، بسبب مقاومتها الضارية له، وأيضا بسبب مناوئتها للميليشيات الطائفية. لم يكن للإرهاب في العراق، في ظل دولته الوطنية، موطئ قدم. وقد أكدت الحوادث اللاحقة، أن قدوم تنظيم القاعدة وأخواته، إلى العراق، هو أحد إفرازات احتلاله وليس قبل ذلك. ومنذ ذلك التاريخ، أضحى العراق، مركز تصدير الإرهاب في المنطقة بأسرها. تغول الإرهاب في عموم أرض العراق، والبلاد لا تزال في عهدة القوات الأمريكية، حيث يحتفظ حتى هذا التاريخ، باتفاقيات أمنية كبيرة، تقيد حريته واستقلاله. لم يجد الإرهابيون، أرضا خصبة، لممارسة نشاطهم، كما وجدوا في الظروف التي صنعها المحتل، غداة سطوه على أرض الرافدين. وفي أجواء قاتمة ومكلومة كهذه، لا يتوقع أن يدافع الجيش العراقي، «جيش العراق الجديد»، المكون من بقايا ميليشيات النهب والتخريب، عن أرض الوطن. حال العراق اليوم، حال مأساوي وكئيب، والتوصيف رغم قتامته، بات موضع إجماع كل العراقيين، حتى أولئك الذين ركبوا موجة العملية السياسية واستفادوا منها. سوف يستمر هذا الوضع، ولن ينبلج صباح بلاد ما بين النهرين، إلا بإلغاء العملية السياسية الطائفية، ووقف التدخلات الإقليمية في شؤونه، وعودته إلى محيطه العربي كما كان دائما عبر تاريخه. مشاة البحرية الأمريكية تواجه المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة معاناة العراقيين مستمرة بعد مرور 13 عاما على سقوط نظام صدام