مشروع تفتيت البلدان العربية ليس أمراً جديداً على السياسات الاستعمارية. فقد تزامن سقوط السلطنة العثمانية، في الحرب الكونية الأولى، ببروز مشروعين، هدفا إلى إعاقة تقدم الأمة ونهوضها، وإمساكها بزمام مقاديرها. كان سايكس بيكو قد قسم بلاد الشام التاريخية، إلى أربع دول، هي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وتزامن ذلك بوعد بلفور الذي هيأ لقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وقد وضعت هذه الدول تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني. حصلت سوريا ولبنان والأردن بنهاية الحرب العالمية الثانية، على الاستقلال السياسي، لكن ذلك لم يشمل فلسطين، التي عمل الصهاينة، من خلال الهجرة المكثفة لها والاستيلاء على أراضيها، إلى حيازتها، وإعلان قيام كيانهم الغاصب، عام 1948. لكن حقائق جديدة، برزت على المشهد السياسي، ارتبطت بحرب أكتوبر عام 1973، فرضت على الإدارة الأمريكية، أن تعيد النظر في الخريطة السياسية، التي رسمت لهذه المنطقة، في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكانت مقدمات الإفصاح عن الرغبة في تفتيت البلدان العربية، إلى كانتونات صغيرة قد اتضحت بعد هذه الحرب، حيث برزت عدة وقائع جديرة بالرصد من قبل صانع القرار الأمريكي. أولى هذه الحقائق، أن العرب أكدوا في معركة العبور قدرتهم على إدارة الحرب، وإلحاق الأذى بالكيان الصهيوني، وتحقيق النصر، متى ما تمكنوا من تحقيق التضامن فيما بينهم، وتوحدت جهودهم. لقد أثبتت حرب أكتوبر أيضا، وجود الإرادة العربية الفاعلة، لاستخدام الثروة النفطية لخدمة المصالح الوطنية والقومية. وكان استخدام النفط كعنصر ضغط سياسي في المعركة قد أوحى أن بإمكان العرب انتهاج سياسة مستقلة، إذا ما تحققت لديهم القدرة والإرادة. آنذاك، صرح وزير الخارجية الأمريكي، ومستشار الرئيس ريتشارد نيكسون للأمن القومي، هنري كيسنجر بأنه ينبغي العمل على جعل "إسرائيل" أكبر قوة إقليمية في المنطقة، بعد أن أثبتت خواتيم الحرب أنها أقوى قوة إقليمية، ومر التصريح، من دون أدنى اهتمام، من القادة العرب، ولم يلتفت إليه أحد، واعتبر مجرد إسناد سياسي أمريكي آخر، للكيان الصهيوني. وفي حينه توصل خبراء أمريكيون، إلى أن تفتيت البلدان العربية سوف يحقق جملة أهداف في آن واحد، فهو من جهة سوف يحول دون تشكيل قوة عسكرية عربية، ضاربة قادرة على التصدي للمشروع الصهيوني، وأن من شأن تنفيذ مشروع التفتيت، خلق أسباب جديدة للصراع بين العرب أنفسهم، حول مناطق ومصالح متنازع عليها، كما أنه سيجعل الهيمنة على منابع النفط تتحقق بسهولة ويسر. ومن جهة أخرى، فإن تسعير النزعات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية سيكون من شأنه تفكيك النسيج الوطني العربي، وإشغال العرب باحترابات داخلية طويلة المدى، تجعل بعض العرب يلجأ إلى القوى الكبرى، وفي مقدمتها الدول الغربية، طلبا للعون والحماية. وأخيرا، فإن تفتيت الوطن العربي، سيبقي المنطقة إلى ما لا نهاية سوقا استهلاكية، ويسهم في إعادة تدوير الأموال إلى مصادرها الأصلية، إلى الدول المستهلكة للنفط بالمركز. لكن إدارة الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، التي تسلمت الحكم لاحقا، هي التي بدأت في التحضير لوجستيا لمشروع تفتيت البلدان العربية، فشكلت قوة التدخل السريع، وبدأت الأنباء تتسرب عن تدريبات عسكرية في صحاري أريزونا ونيفادا، في مناطق مشابهة في طبيعتها للأماكن التي تتواجد بها حقول النفط بالبلدان العربية. ولاحقا بدأت على الأرض العربية مناورات أمريكية أطلق عليها تسمية "عمليات النجم الساطع في نهاية السبعينيات، شاركت فيها بعض القوات العربية. ومع هذه التطورات بدأت بعض الدوريات والمجلات "العلمية" المقربة من صانع القرار الأمريكي، تتحدث عن العراق، كمنطقة رخوة بفعل تشكلها الفسيفسائي، المرتبط بمكوناتها الطائفية والإثنية، وأن احتلالها ربما يشكل نقطة الانطلاق لتنفيذ مشروع التفتيت، والاستيلاء نهائيا على آبار النفط. في بداية التسعينيات، وتحديدا في شهر يناير عام 1990، تحدثت دورية The Nationعن حرب محتملة في نهاية العام، ستدور رحاها حول آبار نفط الخليج، وستكون حرب البترول الثانية. وإثر انتهاء حرب الخليج، وأثناء التحضير ل"مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط"، صرح وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، بأن بلاده سوف تعيد تشكيل الخريطة السياسية لدول المنطقة بشكل أكثر دراماتيكية من تلك التي شهدها الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي تمثلت في فرض "اتفاقية سايكس- بيكو" و"وعد بلفور" بقوة الأمر الواقع. ومضى التصريح من دون غضب عربي، ومن دون إدانة، ومن دون سؤال، وكان خلط الأوراق والتعتيم على النوايا الحقيقية يجري على قدم وساق، فقد تزامنت تصريحات بيكر مع صدور دراسة سربتها الاستخبارات الأمريكية عن مستقبل دول الخليج العربي، تشي بنوايا شريرة، تجاه المنطقة، وتتحدث عن مشاريع لتفتيتها، ومرت تلك الدراسة، كما مرت تصريحات جيمس بيكر دون أدنى اهتمام من قبل العرب. وحين بدأت الإدارة الأمريكية، في عهد الرئيس بوش، فرض حظر جوي على العراق، أريد منه أن يكون المقدمة لرسم الخريطة السياسية "للعراق الجديد"، واتضحت تفصيلات هذه الخريطة فيما بعد، حين وسع الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون مناطق الحظر في الجنوب والشمال، تحت ذريعة حماية الأكراد والشيعة لتكون مسطرة دقيقة للخريطة السياسية المرتقبة لعراق ما بعد الاحتلال. وكانت مناطق الشمال، قد أصبحت عمليا وفعليا خارج سيطرة الدولة المركزية، في بغداد، منذ مطلع التسعينيات. بدأ التحضير العملي والمباشر لاحتلال العراق، إثر عاصفة سبتمبر عام 2001، وارتبط ذاك بالحديث عن فوضى خلاقة، وعن حروب ضد "الإرهاب" تفاوتت أعداد المشمولين بها في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وبلغت في أقل التقديرات ثلاثة بلدان، ووصلت في أحيان أخرى إلى أكثر من خمسة عشر بلداً عربياً وإسلامياً. تزامنت هذه الأحداث مع صدور تقرير خطير من معهد "راند للدراسات الإستراتيجية" تحت عنوان "الإستراتيجية الكبرى"، ناقش بالتفصيل مخطط تفتيت المشرق العربي، واعتبر احتلال العراق، مجرد محطة على طريق إخضاع البلدان العربية. واحتل العراق، وبشر المحتلون بفجر ديمقراطي جديد، تكشف أنه إعادة بعث وتمجيد لظواهر التخلف التي ودعها العراقيون منذ زمن بعيد. أعيد للنعرات الطائفية والمذهبية والعشائرية والانتماءات العرقية اعتباراتها، وتشكل أول مجلس انتقالي بهدي تلك النعرات، وقسمت المناصب السياسية بموجب محاصصات وضعت جل حساباتها، تفتيت العراق، ومصادرة هويته العربية الإسلامية، وعلى النحو الذي تبناه الكونغرس الأمريكي في قراره الأخير، وجاءت صياغتا الدستور والفيدرالية فيما بعد متماهيتين مع هذا التوجه. ولم يكن تحقيق ذلك ممكنا، من غير توافق كامل مع إيران، التي سخرت الميليشيات الطائفية التابعة لها، من قيادات حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والتيار الصدري وعصائب الحق، لخدمة مشروع الاحتلال، والذين قدم معظمهم من الخارج على ظهور دبابات قوات الاحتلال. ولم يتردد بعض المسؤولين الإيرانيين عن التبجح بأنه لولا تنسيق إيران مع أمريكا، ما تمكنت الأخيرة من احتلال أفغانستانوالعراق. في الشهور المنصرمة برزت سلسلة من الكتابات وتقارير لبعض مراكز الأبحاث في أمريكا تطرح مباشرة تقسيم العراق، وتدفع بتنفيذه باعتباره الحل العملي المتاح أمام لضمان المصالح الاستراتيجية الأمريكية. وبالتأكيد، فإن المهم في تحديد خيارات الإدارة الأمريكية، من وجهة النظر الداعية إلى التقسيم، ليس مستقبل العراق ولا مصلحة شعبه، ولا هويته وتاريخه. وكانت مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" قد كشفت عن هذا المخطط قبل عدة أعوام، عندما تحدثت عن "خريطة الدم" التي تحوي خطة تقسيم الوطن العربي وإعادة رسم خريطته بما يحقق قيام دويلات على أسس طائفية وعرقية، في عدد من البلدان العربية. وأشير في حينه من قبل بعض الخبراء الاستراتيجيين إلى أن وضع هذا المخطط الجهنمي موضع التنفيذ قد بدأ فعلياً في فلسطين ولبنان والسودان والصومال ، وتمدد فيما بعد ليشمل ليبيا واليمن وسوريا. لقد صوت الكونغرس الأمريكي قبل عدة سنوات على خطة تقضي بتقسيم للعراق، تقدم بها رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، ونائب الرئيس أوباما السيد جوزيف بايدن. قضت الخطة بتقسيم العراق إلى كيانات كردية وشيعية وسنية، تحت ذريعة وضع حد للعنف والحيلولة دون تحول هذا البلد إلى دولة تعمها الفوضى. واعتبر القرار في حينه غير ملزم. لكن التصويت الأخير في الكونغرس، لم يتضمن عبارة "غير ملزم". وقد رفضت إدارة الرئيس أوباما تطبيقه، لكن ذلك ليس نهاية المطاف، طالما أن المتنفذين بالإدارة الأمريكية، يعملون من دون كلل وبكل الوسائل على تحقيقه. إن تطبيق هذا القرار من وجهة نظر الذين صوتوا عليه سيساعد على توجيه اهتمام أمريكا نحو مناطق أخرى في العالم، وشن حرب بفاعلية أفضل "على الإرهاب"، وجعلها أكثر أمانا، وفي هذا السياق، أعربت عضو الكونغرس السابق، من الجمهوريين، كاي بايلاي هونشينسون عن أملها أن يحقق هذا القرار ما نجحت في تحقيقه اتفاقات دايتون حول البوسنة التي أقرت تقسيمها إلى ثلاثة كيانات هي صربيا وكرواتيا وبوسنيا. تقسيم العراق هو عمل إجرامي، يفتح الطريق أمام تنفيذ المشاريع المشبوهة الأخرى، وفي المقدمة منها ما ورد في تقرير "الإستراتيجية الكبرى"، ومواجهته تقتضي العودة إلى نقطة البداية، إلى العملية السياسية التي فرضت المحتل تطبيقها، بمساندة إيرانية. وتحقيق مصالحة وطنية، تعيد للعراق حضوره العربي وهويته الوطنية، وتأسيس جيش عراقي قوي، ورفض التدخلات الإيرانية في شؤون العراق. وتلك مهمة تقع على عاتق العرب جميعا، إذا ما أريد إفشال مشاريع التفتيت.