تتسع مدارك الإنسان ومواهبه بقدر ما يحصل عليه من خبرة في الحياة بصفة عامة، وبقدر ما كان للحياة من رقي يرتقي الإنسان، الذي به ترتقي الحياة أيضاً، وهل هناك أعمق مما تساهم به ممارسة الإنسان للفن، وأقدر مما يتسع به خياله؛ لتحقيق تطوير وتنمية مهاراته الذاتية ومواهبه الشخصية..!؟ ومن الثابت أن للفنون الدور الأكبر في تهذيب النفوس والارتقاء بالوجدان الذي هو بؤرة الإحساس بالجمال الذي يسمو به الإنسان، ما يخرج به من دائرة الانغلاق إلى رحاب الانفتاح على الآخر، حيث يتبادل البشر الخبرات فيما بينهم ويؤدي إلى تقارب الرؤى وانصهار الأفكار، ما يقلل من غلواء النظرة الآحادية غير السوية لحياة الآخر، وينهي حالة التكبر بين الأفراد، والاستكبار بين الدول، لتنتهي تعادلية المشاعر والأحاسيس المتناقضة بين الافراد والمجتمعات إلى نظرة سوية معتدلة تنتهي بحياة البشر إلى الاستقرار والسلام، ذلك الفردوس المفقود، بسبب إِحن الماضي وإعادة إنتاج ما عاشته الإنسانية من قبل في جاهلية عمياء. ومما لا شك فيه، أن الفن يُذكي مشاعر الإنسان، ويكسبه القدرة على الشعور بوجوده عند الآخر، الذي تتحقق بوجوده قيمة حياته، حيث يتلاشى الفراغ، ولما كان الفن هو وسيلة تنمية القيم لدى الإنسان فهو الذي يقود حياة الانسان إلى الفهم الصحيح لمعنى المبادئ السامية، فيرتفع به إلى أعلى سلالم الرقي، ما يحقق التوازن النفسي لدى المجتمعات والأفراد، بما له من أثر في تخفيف عبء الحياة اليومية حيث تنتهي حالات السخط والاستياء الذي يؤدي إلى الشعور بعدم القدرة على التأقلم وقبول الآخر، فينقلب سخطه على آخرين ليس لهم ذنب فيما هو فيه. وينبغي أن تقوم الفنون بالدور الايجابي في تقوية أواصر علاقة الجتمعات والأفراد بمحيطهم، فتشبع فيهم قيم الجمال، ما يؤهلهم للاندماج والتصاهر مع الآخر، فيتولد الشعور بالاحترام، وبالتالي يتحقق قبول الآخر واحترامه بعفوية، ما يجعله يشعر بشعور نبيل يدفعه للبحث عن كل جميل، فيأخذ ويعطي وهكذا حياته تسير في تناغم سلس، فتصير إلى تيسير. وبالطبع لا تحقق الفنون أهدافها هذه ما لم تكن بعيدة عن التهريج والتسلية المتجهة لإثارة واستغلال الغرائز والأهواء من أجل بلوغ الشهرة وتحقيق أغراض أخرى، في أغلبها تهدف إلى صرف الأفراد عن قضاياهم الحقيقية والانغماس بهم في وهم الحياة البازخة، وهم لا يدركون أنهم الفقراء إلى صفة الإنسان في مكانته الكريمة. ومن الثابت أنّ للفن رسالة، ولا ينبغي للفنان الحقيقي أن يغفل عنها وعليه ألا يقبل الحياد عنها، ومن واجبه إحياء الفن الراقي الذي يتجاوز مجرد الترفيه ليقفز به إلى الارتقاء الفكري بالذوق الرفيع ما يؤدي إلى تنمية الحس الجمالي لدى الانسان، وهذه مسألة محتوى أكثر منها شكلية، تعتمد على المضمون، حيث لا بدّ من أن تكون رسالة الفن نبيلة المضمون، تتعلق بهدف إنساني سام، حتى تتحول تجربة الفنان الشخصية وما يعبر عنه من خلال اختلاجاته إلى المحيطين به والمجتمع الذي يعيش فيه بإيجابية، فيصبح بذلك الفن أداة وصل وتواصل بين الافراد والمجتمعات، وإن اختلفت المشارب وتناءت المسافات، ذلك ان الفن لا يعترف بالحدود معنوية كانت أم مادية، ولهذا يظل الفن هو الوسيلة الأقوى أثراً لتحقيق التواصل بين الشعوب والثقافات، وكبح جماح العنف. من حيث أن ليس له جنسية، باعتباره رسالة موجهة إلى البشرية جمعاء. وهي الرسالة الأقدر على إزالة الحواجز والعراقيل بين الأمم والشعوب، ما يؤدي إلى التقريب بين الثقافات وصهر الأفكار بما يثيره الأدب والفن من قضايا إنسانية، وما يدعو إليه من قيم سامية كقيم التضامن والتراحم والتعاون، ما يجعل حياة البشر تسير على نهج صحيح، تبدأ لتنتهي إلى السلم ونبذ العنف، وهذا ما تفتقر اليه البشرية اليوم، حيث انتهى الحال الى درك سحيق عندما تحول الصراع بين الدول والمجتمعات الى صراع مصالح محضة، ما أدى بحياة الانسانية اليوم إلى أدنى المراتب، حيث تدنت القيم النبيلة وانزوى الصراع الفكري والحضاري الذي كان يتجه بتلقائية نحو تطوير حياة البشرية، وحلّ محله صراع المصالح الزائفة، وكان للفن الذي تردى ايضاً خلال هذه الحقبة اللاحقة دور كبير في هذا الانزواء، عندما اتجه أهل الفن بدورهم نحو تحقيق المصالح المادية الآنية، إما لضعفٍ في إمكانياتهم الذاتية أو بسبب حالة الإحباط التي اجتاحتهم، حيث نجد الفن قد حاد بالشباب وانتهى بمعظمهم الى فئة محدودة التفكير والثقافة تنفق وقتها في جمع صور الفنانين والمغنيين وتبادل مقاطع الفيديو المبتذلة، ومن ثمّ الركون إلى حياة التسيب والانحراف والانشغال بأوهام زائفة، فمنهم من رضي بهذا الحال وآثر حياة التميع والانكسار والتسكع على رصيف الابتذال، وآخرون انتهى بهم الامر إلى حالة من اليأس والاحباط ما جعلهم يبحثون عن ملاذٍ آخر يشبعون فيه رغباتهم الذاتية، وينفقون فيه طاقاتهم المتفجرة يوما بعد يوم، لينتهي بهم الأمر الى الوقوع في فخاخ من يتربصونهم فيستغلونهم؛ لتحقيق مآرب شيطانية، تتجه نحو تدمير المجتمعات والعمل على تمزيق لحمتها، والانتهاء بها إلى حياة الدمار، وما أسوأ مما يحدث اليوم..!! محام دولي ومستشار قانوني