لماذا يميل الفنان التشكيلي للون التشاؤمي وما أسبابه وهل هي أسباب شخصية أم وطنية؟ وهل هناك ظروف بعينها تجعله يسلك هذا اللون؟ أم أنها مجرد صدفة؟ تلك الأسئلة وغيرها دارت في الاذهان ونحن نشاهد الأعمال التشكيلية لغالبية الفنانين. ولعله ليس من الضروري ان يكون الفنان متلبسا بالحالة التي يرسم فيها، وان كان بعض النقاد يرون اهمية تلبس الحالة سواء في الفن التشكيلي او حتى في الفنون الاخرى، فالفنان في بعض الحالات بحاجة لتوصيل رسالة ما الى المتلقي، وهو في هذه الحالة قد يكون بعيدا عن تلبسها او المرور بها. هناك بعض الرؤى في سوداوية الفن التشكيلي، وهناك تضارب او اختلاف في الآراء فالبعض يرى انها عابرة تمر سريعا لتختفي وتحل محلها حالة من السعادة او حالة عامة. وهنا حاولنا طرح بعض التساؤلات والاشكالات على مجموعة من الفنانين على مستوى الوطن العربي، فكانت لنا هذه الحصيلة من الآراء. عبر الفنان السوري الراحل فاتح المدرس في بعض كتاباته عن السوداوية قائلا: عندما يتعرض الإنسان لموقف محزن فإنه يستذكر كل الأحداث الحزينة التي تعرض لها أما الفرح فهو هشٌّ يتلاشى بسرعة وتقول السيدة شكران المدرس زوجة الفنان فاتح المدرس : الحزن هو الطاغي في أعماله إن كان رسماً أو كتابة لقد رضع الحزن من صدر أمه تلك الفلاحة الريفية التي تزوجها والده ابن الإقطاعي . فعاشت طوال حياتها حزينة معدمة .هذا الأمر الذي أدى الى قطع علاقته مع أهله وأقاربه فعاش حالة من الحزن . و جسد ذلك من خلال وجوه الفلاحات في لوحاته. وبالإضافة إلى ذلك فتعرض ابنتيه لحادث سيارة أدى إلى خلل عقلي لديهما ومن ثم إلى وفاتهما كان حزنا كبيرا رافق فاتح في اغلب أعماله و لعل ذلك كان بارزا حتى في عناوين لوحاته فعنوان أحدها (حوار مع الوحش )و في أغلب لوحاته هناك يد مقطوعة الإصبع و يرمز بها إلى والدته كما يرمز أيضا إلى الظلم. السوداوية والحزن لا تقتصر على لوحات المدرس فقط بل نجد ذلك حتى في قصصه القصيرة، دائما النهايات مأساوية و غير سعيدة، و هذا يتجلى في مجموعته القصصية)عود النعنع ) بل إنه عندما يضحك و يفرح يكون ساخراً حزيناً وكأنه يقدم الكوميديا السوداء. ويقول الفنان خالد الخالد: الحزن بادٍ في لوحاتي من خلال استعمال الألوان القاتمة .هذا الحزن والسوداوية لأنها موجودة في العالم العربي وأنا متشائم من الحاضر الذي نعيشه ولا أتصور أن يكون المستقبل أفضل ، وهذا الأمر أسجله في لوحاتي ، عندما كنت طفلا فقد رسمت فلسطين والآن أرسم العراق. أنا دائما في عتمة وإظلام ، الضوء من وراء الأشخاص ، ونحن في حالة انهيار ، وأشخاص لوحاتي يسيرون باتجاه العتمة وفي الواقع .لذلك لا أجد لدي الاستعداد للنظر إلى الضوء والى الحقيقة ليتم التغيير وتطوير الواقع الى الأفضل .مضيفاً إنني (أرى الأشخاص في لوحاتي عبارة عن أرقام 1-2-3-6-10 يمكن أن تجد شخصاً او اثنين لهم ملامح ودائما هناك احتفالية بهذا الشخص وهذه واضحة في أعمالي وأعمل على هذه المشهدية دائماً ويعزو الفنان الخالد السوداوية في أعماله إلى عدم الوضوح في الرؤية بالحياة العربية .لقد تحول كل شيء إلى سوداوية حتى الحب اصبح حزيناً والجمال حزيناً والفرح أيضا ً لا يوجد في حياتنا كعرب ما يدعو إلى التفاؤل بمعنى الواقع سيئ ولكن سيكون المستقبل أسوأ بناء على معطيات الحاضر لان الجموع تصفق للشخص الواحد وأنا ضد هذه الحالة . ويرى الفنان خالد أن السوداوية حالة إيجابية بالنسبة للفنان ومحرض للإبداع عندما يصل الفنان إلى السوداوية إذا هو يفكر ويقرأ المحيط الذي يعيش فيه. لولا الحزن لما كان الإبداع هل تستطيع أن ترقص في الظلام دون ساقين أن تبتسم للحزن ؟هل تستطيع أن تداعب يد طفل أو تتلمس وجها جميلا قد سطره الزمن دون أن يكون لك أصابع ؟هل تستطيع أن تلون الحزن بألوان الفرح؟هل تستطيع أن تطبع قبلة على كل الأشياء الممنوعة والمحرمة في هذا الزمن ؟ كنت أفعل ذلك في رسوماتي وانتج أعمالي .أسرق ضوء القمر و أشعة الشمس و ألوان الحب والحياة وأضعها على لوحاتي .إنني اغني مع الناي دون فم و أعزف على العود دون أصابع . إنني أعيش الحب دون حبيبة في زمن أصبح الحب على الإنترنت.أمزج الواني بروحي بألوان الشمس وألون كل وجه جميل ..أحب هذا الوطن بصدق.أكتب كلمة حب على الجدران الصامتة التي تحفظ أسرار البشر.. أسمع همسات الورود و أزين لوحاتي بأوراق النعناع و أعطرها برائحة التراب عند سقوط المطر . قدم الفنان موفق مخول هذه المقطوعة الشعرية مضيفاً أنا بحاجة للحزن حتى أبدع وجميع لوحاتي عبارة عن لوحة واحدة توجد فيها تراكيب إنسانية فيها نوع من العقد اكثر ما تمتلك الوضوح و الصراحة . تجد فيها تكوينات غريبة أحيانا أنا لا أعرفها و لا أفهمها لدينا عقد كثيرة و على ظهورنا حزن الأرض كله.. لقد عشعش القمع في نفوسنا منذ الصغر، فالأب يقمع والمدرس كذلك وفي الشارع وفي كل مكان، مضيفاً أنا لا أعتبر أن اللون الأسود هو لون الحزن بل على العكس يشكل توازنا مع الألوان الأخرى و الضوء يرافقه الظل .. تلك ثنائية لا يمكن تجاهلها. ويؤكد الفنان موفق ان السواد لا يدل على الحزن في الحياة ولكن يجب أن نفرق بين الحزن الذي يؤدي الى الإبداع والآخر الذي قد يؤدي للإحباط، ومن منطلق بعض التجارب فإن هناك من الناس من يصيبه الإحباط والسقوط بسبب التشاؤم والسوداوية التي تجتاحه في حياته الفنية والاجتماعية عموماً، فالحزن الجميل الذي يولد الإبداع هو الحزن الإلهي لأننا لا نملك القدرة على رده و يكون محرضا على ابتكار أشياء جديدة لا يمكن أن نفكر بها عندما نكون طبيعيين في إشارة إلى أنه لولا الحزن لما كان هناك إبداع لا وجود للفرح ويقول الفنان الفلسطيني محمد الوهبي : كل فلسطيني لم يذق طعم الفرح يوما منذ نكبة فلسطين لان الفرح مرتبط بالنسبة لنا بالمكان وما دام المكان غير موجود فلا وجود للفرح لذلك وضع الإنسان الفلسطيني في زمن السواد لأنه حرم من أرضه وهو لا يزال بكل طاقاته يحاول الرجوع إلى مولده أو إلى قبره بالمكان نفسه وقطرة دم من شهيد لا يمكن لكل فناني العالم أن يعبروا عنها. و عن تجربته الذاتية يقول أرى أن ملازمة الحزن لي كانت منذ الولادة و كنت من خلال هذا الحزن انشد مسافة لأعبر عما يجيش في نفسي إما رسما أو كتابة و بالنسبة لتخصيص الوهيبي في الحفر (الكرافيك)فهو يبحث عن تقنيات التضاد لإظهار الأفكار المتصاعدة عبر اللونين الأبيض و الأسود إذا كان الأسود هو المساحة العدمية فلا بد من إظهار ملامح الوجود المعذب من خلال فرض قدرة تعبيرية تساعدني على إظهار مفهوم ربما يكون السوداوية و يضيف الوهيبي هنا لا بد من إظهار القدرة التعبيرية من خلال الخط و المسافة التي ربما تكون قلقة فلابد من إبراز خطوط قلقة ربما تكون كالشرر المتطاير أو عماء في دنيا الغبار. ويعتبر الوهيبي أن الحزن هو العلاج في تحول النفس إلى منطقة سامية و مع أنها قد تبدو مؤلمة، مضيفاً إن الحزن يتحول إلى شجن ومن ثم إلى معرفة معشوقة من الحواس هذا أمر قد يكون صعبا فالحزن هو لون من ألوان الطرب الذي يغذي الحواس بشمولية الأحاسيس التي تألف الحزن فهو إحساس عميق بحيث له المقدرة على أن يستجمع هذه الأحزان في الذاكرة و هنا لابد من تربية الحزن و تليفه و الفنان المرهف الإحساس هو القادر على تحويل الحزن إلى مجموعة أحاسيس أخرى له قوة و طاقة بحيث تعطي التعبير المراد إظهاره. و يخرج اللاوعي و يكون له دور في عمل الفنان و هنا من الصعب في تعاظم حالة الحزن أن يسيطر الفنان على ريشته أو قلمه. استجابة طبيعية من جانبه يرى الفنان والناقد التشكيلي مجيد جمول أن الأداء الفني هو استجابة طبيعية وردة فعل بناءة لما يختلج في ذات الإنسان من عواطف ومشاعر ورؤى .ويشير جمول إلى انه من مواليد النكبة 1948 التي انحفرت عميقا وبمرارة في شعورنا ثم جاءت نكسة حزيران عام 1967 لتزيد الإحساس بالمرارة والهزيمة والشعور بالعجز ولنقول عدم وضوح الرؤية والإحباط وأخذت التجعدات تبرز على اللوحة الفنية . ارسم الحزن بلون الفرح الحزن دائما له رديف ولكن الصعوبة كيف يمكن التأليف بينهما؟ بهذا يتساءل الفنان عبد السلام عبد الله، مجيباً إنه عندما أكون حزيناً ارسم بلون الفرح وهنا يكون التضاد وغالباً من شدة الحزن ارسم بالألوان المفرحة وحتى عندما ارسم الطبيعة بكل مفرداتها يظهر الحزين والمفرح في ذات اللوحة . مضيفاً إنني لا أميل إلى الرسم بالألوان الحزينة ولكن أميل إلى الألوان الحارة ومع ذلك تبقى الألوان مفردات غير محكية وتترجم حسب الموقع . ويشكل الفن أحد أهم العواكس لأوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية, في أي بلد في العالم مهما كان متقدما أو متأخرا , والفن التشكيلي بشكل خاص هو العامل الأهم الذي يمكنه أن يعكس الهوية الروحية والنفسية لأي شعب من الشعوب , لذلك فهو المرآة الحقيقية التي يمكن من خلالها أن نرى الخصائص المعينة لمجتمع بعينه , و من ناحية أخرى , و بما أن الفن هو حالة كونية فهو يعكس بالتالي حال العالم بشكل عام في مراحل معينة من حيوات الشعوب، وبذلك فهو أحد أهم مصادر التاريخ . من هنا يمكن القول بأننا كشعب عربي كان مهدا لكل هذه الحضارات التي شهدها العالم في أقطار الأرض على مر العصور, و عانى من صراع هذه الحضارات حتى يومنا هذا , فكان لابد من أن ينتج فنا تتجلى فيه ملامح هذه المعاناة المستمرة التي كابدتها شعوبنا منذ أمد طويل . لسنا بحاجة لعلماء اجتماع أو سياسة لاستجلاء سوء و انحطاط واقعنا الحالي بكل مناحيه, إن نظرة عامة سريعة على واقع شعوبنا اليوم ترينا صورة تبعث على الهلع إن لم نقل على اليأس و العبثية , و بالتالي فلا بد لهذا الواقع من أن ينعكس على الفن التشكيلي في مجتمعاتنا , ذلك أن العلاقة بين الفن و المجتمع هي علاقة جدلية تسير باتجاهين من حيث التأثير و التأثر فيما بينهما, لذلك نرى عقب كل هزة كارثية تحل بنا ظهورا للفن يتسم بالسوداوية و السخط و الاحتجاج و الخروج عن المدارس الفنية و الثقافية المتعارف عليها , - معرض لؤي كيالي عقب نكسة 1967 مثالا- , لكن أوضاعنا بشكل عام تسير من سيئ إلى أسوأ , فإذا كان هناك في الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات إمكانية للتعبير بمختلف أشكاله عن عدم الرضا عن الواقع المزري, فان هذه الإمكانية قد أعدمت أو كادت في أيامنا هذه،خصوصا مع تفاقم الأزمات السياسية و الاجتماعية و المعيشية التي نمر بها بشكل يومي بل لحظي أحيانا , مما يجعل الفنان , في أي مجال من مجالات الفنون, ينكفئ إلى داخله يعجن معاناته و آلامه و أزماته التي قد يعيد إنتاجها بشكل أعمال فنية تعبر عن رؤيته لهذه الأزمات و احتجاجه و الذي في كثير من الأحيان يغلفه برموز فنية تاريخية أو اجتماعية تشكل إسقاطا لما يريده على ما يضغط عليه . لم يأت الفنان من الفضاء الخارجي , فهو الابن الشرعي لهذه الأرض بكل ما تحويه من سلبيات و إيجابيات, و يتميز الفنان بأنه مليء بالحب, فبدون هذا الحب لا يمكنه أن ينتج فنا , فالحب للحياة و ما تحويه بشكل عام هو المحرض الأساسي والدافع الذي يحفزه على إنتاج الفن بكل حالاته, فهو في هذه الحال يمثل البقعة المضيئة في السواد الحالك المحيط . مضيفاً إن إحدى المهام الرئيسة للفنان هي زراعة الأمل, و البحث عن الجمال ضمن هذا الكم الهائل من القذارات و التشاؤم و السواد و التلوث المحيط بالعالم بكافة أشكاله و ألوانه, و هي مهمة مقدسة لا تقل أهمية عن أي عمل إيجابي آخر في هذه الحياة, و هي بذلك مسؤولية كبرى يحملها الفنان أينما كان، وهنا بالطبع يجري الحديث عن الفنان الحقيقي و ليس عن مرتزقة الفن . حيث يتفرع عن هذه المسؤولية التزامات أخرى أهمها إيجاد صلة الوصل الحقيقية بين المتلقي بكافة شرائحه و بين الفن المقدم له , لأنه بذلك يزرع بذرة حب الفن و الجمال التي تؤدي في النهاية إلى توعية و توسيع آفاق هذا المتلقي, ولا يعني ذلك تقديم تنازلات جوهرية من قبل الفنان. لا شك أن للبيئة المحيطة بالفنان بكل أنواعها الطبيعية و الجغرافية والسياسية و الاجتماعية و الفنية, أثرا لا يستهان به, لكن الفن كما هو حالة كونية موضوعية , فهو في الوقت نفسه حالة ذاتية يجب أن تتميز بالفرادة, و تظهر رد فعل الذات الخاص على محيطها العام من خلال النتاجات الفنية المختلفة, والتي بطبيعة الحال ليس من مسئوليتها تقديم الإجابات, بل طرح الأسئلة التي يمكن أن تكون حافزا كبيرا للمتلقي على تغيير ما حوله , إضافة إلى اكتشاف حالات الجمال المحيطة و مشاركة المتلقي بها , لأن أي عمل فني لا يكتمل بدون مشاركة ممن سيراه و ينفعل به و يتفاعل معه , و إن لم يكن الحال كذلك فالعمل سيبقى ناقصا مهما حوى من إمكانات الكمال الفني , و إلا فما معنى أن أرسم أعظم و أهم لوحة في العالم و أحتفظ بها في خزانتي ؟ ويقول الفنان عماد صبري إن الفن عموما بفعل ديمومته غالبا يعتمد مقولات الحكمة في الحياة ..والحكمة عادة تكون بعيدة عن الهزل والمرح لأنها نتاج تجارب عميقة مرت بها الشعوب..واختصار لها..إن السوداوية بشكل عام هي طريقة في التفكير وهي لا تعني بالضرورة جلد الذات وزرع الإحباط.. والتشاؤم ضد التفاؤل.. ويقال أن المتفائل هو شخص متشائم ولكنه لا يدري.. وغير ذلك من الأوصاف المرحة التي لا تفصل عمليا بين المتفائل عن المتشائم سوى بالألوان الأولى لأفكارهما وحسب..ومسار حياة الإنسان العربي الذي لا يمر عليه يوم دون أن يسجل خسائر تلو الخسائر.. فهو مقهور في البيت وفي العمل وعلى صفحات الكتب والصحف وعلى جميع الشاشات الفضائية والأرضية وفي كافة المجالات..فما بالك بالمثقف العربي الذي يحمل هموم الوطن على أكتافه محاولا إيجاد المخارج الآمنة لهذه الحياة ..؟ ومحاولا تقليل الخسائر بالطريقة المعنوية؟؟؟ إنها دائما بالنسبة للمثقف وقفة ضمير أمام هذا الحصار المتنوع واللجوج من الأخطار.. فإذا استطاع الحفاظ على تفاؤله يصبح بلا شك من الأبطال. عبد الله عبدالسلام محمد الوهيبي