رغم ضجيج الباعة المتقاطع مع أحاديث المارة واستفساراتهم عن الكتب، لا يتردد أبو ربيع في أن يرفع صوته فجأة، ملقيا على مسامع رواد شارع المتنبي في قلب بغداد أبياتا من الشعر. لحظات وتتجمع بعض الحشود المنتشرة بين كتب تفترش جانبي الشارع العريق لتتأمل نعيم الشطري "73 عاما" وهو يصرخ محركا يده بإيماءة عفوية "أعز مكان في الدنيا سرج سابح، وخير جليس في الزمان كتاب". يستريح بعدها أبو ربيع على كرسيه، وفيما يكمل المارة جولتهم الثقافية، يواصل هو سرد أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي، قبل أن يقاطع نفسه ليقول "لا تفجيرات يمكن أن تخرجنا من هذا الشارع". ويضيف أبو ربيع الذي يملك مكتبة في المتنبي منذ حوالي أربعين سنة ويهوى بيع الكتب الماركسية "المتنبي مربينا، المتنبي حياتنا". ولم تمنع التفجيرات الدامية التي هزت العراق يوم الخميس وقتل وأصيب فيها العشرات، أبو ربيع وأصحاب المكتبات الأخرى من أن يفتحوا الأبواب أمام رواد الشارع من الكتاب والمثقفين وغيرهم. وفيما كانت تزدحم في شوارع العاصمة آليات الشرطة والجيش ونقاط التفتيش بين الحواجز الأسمنتية المضادة للمتفجرات، وحده المتنبي ظل يعج بالباحثين عن متنفس يستبدلون في مكتباته ومقاهيه أخبار العنف بأخبار الثقافة والمجتمع. ويعود هذا الشارع الواقع في قلب بغداد بمنطقة يطلق عليها اسم القشلة، إلى أواخر العصر العباسي، وكان يعرف أولا باسم "درب زاخا" واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية. وقد أطلق عليه اسم المتنبي في 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة أبو الطيب المتنبي. وتحول شارع المتنبي في أوائل التسعينات، في ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق، إلى ملتقى للمثقفين كل يوم جمعة حيث يتم عرض آلاف الكتب وتنتشر فيه مكتبات الرصيف. ويبدأ الشارع الذي يمتد لأقل من كيلومتر، بتمثال للمتنبي مطل على نهر دجلة، وينتهي بقوس بارتفاع حوالي 10 أمتار، نقش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي "الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم". وتباع في هذا الشارع الذي تحيط بجانبيه أبنية تراثية كانت تشكل معا مقر الحكم العباسي، أنواع الكتب كافة، وعلى رأسها السياسية والاجتماعية والتاريخية، وتتراوح أسعارها بين 250 دينارا (أقل من دولار) ومئات آلاف الدينارات. كما تباع القرطاسية والأقراص المدمجة والنظارات الطبية والخرائط، وحتى الألعاب الصغيرة. ويقول كامل عبد الرحيم السعداوي (59 عاما) وهو يقلب بين يديه كيسا يحتوي على كتب اشتراها حديثا "منذ حوالي 30 سنة وأنا آتي إلى هذا الشارع كل يوم جمعة. في كل مرة أقول إني لن آتي، لكني سرعان ما أعود عن قراري". ويضيف فيما تصدح أغنية "يا بحرية" للفنان مارسيل خليفة من مكبرات صوت مبعثرة بين كراسي قهوة على الرصيف أن "المتنبي أشبه بالحبيبة التي تفرض نفسها عليك. الأصدقاء لا ألتقيهم إلا هنا، فهو أشبه بمتحف للوجوه قبل أن يكون مكتبة". ويتابع رجل الأعمال المتقاعد "المتنبي لا علاقة له بالواقع العراقي. هو جزيرة معزولة، عراق آخر، عراق الحلم". ويوضح السعداوي أن "الثقافة تنمو هنا، فيما الخارج يزخر بالبغي، والتفجيرات، والعنف، والسياسيين المتفرغين للسخافات. هناك عراق الحقيقة، وهنا عراق الحلم، وهذا أثمن ما نمتلكه حين ندخل الشارع". ويشهد العراق منذ اجتياحه عام 2003 أعمال عنف شبه يومية قتل فيها عشرات الآلاف، وبينها حرب طائفية بين عامي 2005 و2007. وقد تعرض شارع المتنبي الواقع على الجانب الشرقي لنهر دجلة لهجوم بسيارة مفخخة عام 2007 قتل فيه 30 شخصا وأصيب أكثر من 65 آخرين بجروح. وبقيت حينها ولأكثر من يومين سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء شارع المتنبي بعد أن تحول إلى ركام وأنقاض، قبل أن يعاد افتتاحه رسميا عام 2008. ويقول أبو ربيع إن "أصعب ذكرياتنا في الشارع هي عندما وقع التفجير على أيدي أحفاد هولاكو. كنت متوجها نحو النجف، وعندما وصلت قالوا لي: لقد وقع أكبر انفجار في بغداد، في شارع المتنبي". ثم يجهش بالبكاء ويسند جبينه بيده اليمنى قائلا "أصدقائي ذهبوا، خسرت كثيرا منهم، والحياة هنا لم تعد كما كانت بدونهم". وعلى بعد أمتار من أبو ربيع، يقلب إبراهيم "14 عاما" مجموعة من الكتب على الأرض، مكررا عبارة "الكتاب بألفي دينار "دولار ونصف الدولار" على مسامع مجموعة تتأمل العناوين التي تشمل كتبا مثل "ألف ليلة وليلة"، وكتبا أخرى مثل "المرأة في سن الإخصاب واليأس".