هل سيفرز الصراع الموجود الآن في العالم العربي طبقة اجتماعية جديدة بمفاهيم وقيم جديدة، ويخلق بنية اجتماعية منتجة لا تركن إلى الخمول والكسل في استيراد حلول لأزماتها ومشكلاتها؟ ما يشير إليه الواقع سيئ للغاية، وهو أن المجتمعات العربية بجميع أطيافها السياسية والمدنية والثقافية، لم تقدم أولئك النخبة الذين ربما يمتلكون العقل العلمي والبنائي الذي سيخرج هذه المجتمعات من حالة الركود وانتظار سكين الجزار، وهذا ما نراه في معظم وسائل الإعلام العربي المتحكمة فيه أيديولوجيا معينة متصارعة على مصالحها الدولية، والمتتبع على أرض الواقع لا يجد سوى العبارات الهزيلة التي تلوكها الألسن لإرضاء نفسها. واقع مرّ يعبر فقط عن الاستهلاك النفسي المسطح، والفضفضة الآنية لمشكلاتنا وأزماتنا، وما كنا نأمله من النخب المثقفة هو الإنتاج الحقيقي للفكر، وتبني فلسفة خاصة بنا كشعوب ومجتمعات، والسير قدما في طريق تطبيقها، وهي وإن وجدت عربيا ربما تطالها أيدي السلطة لتقصيها بعيدا عن تحولات المشهد، وتقف حائلا بينها وبين الجمهور، خوفا من أن تكون لها قاعدة شعبية مؤثرة. إن فكرة الإنتاج يجب أن تطال مختلف نواحي الحياة، فهي ستقف أمام ثقافة الإقطاع، وأما من الناحية الاقتصادية فهي الوسيلة الأعلى لضمان حرية المجتمعات من التبعية، فلم تكن الأراضي العربية فقيرة قط، لكن ثرواتها لم تجد التوجيه السليم في عملية البناء الحضاري للإنسان العربي المعاصر، فاكتفت الدول العربية بالبهرجة السطحية، من بناء مدن ومنتجعات، وأسواق ووسائل ترفيه، واستيراد التكنولوجيا التي لا تعلم عنها سوى استعمالها المتداول، هذه الثروة التي لم تصنع سوى مجتمعات هشة. فهل ستخرج تلك النخب لتصطف بعقلية منهجية علمية بنائية، وتحشد الجماهير إليها، وتعيدها إلى المواقع التي يجب أن تنطلق منها؟ أمر كهذا يتطلب من تلك النخب أن تصحح مسار الجماهير واعتقاداتهم، بأن الخروج من هذه الأزمات ليس كما يرونه أو زُرع في عقلياتهم، من أن الأمة لن تحقق نصرا وحضارة إلا من خلال العودة إلى الماضي المحاصر بوسائل تحولت لديهم إلى غايات، كمثل إقامة الشعائر والمحافظة عليها، فأصبحت هي الغاية من الحياة بدلا من أن تكون وسيلة للارتقاء، وهو ما أنتج مجتمعات متديّنة شكلا فقط، لا تعي غاية تلك الشعائر أو تعاليمها، ليتحول بذلك مفهوم الدين برمّته إلى غاية لا وسيلة لتدبير أمور الحياة المتطورة والمتغيرة، فيصبح التديّن -وفقا لهذه المفاهيم- عائقا لكل إبداع، وقاتلا لكل فكر حر. إن مفهوم الحضارة الذي غُرس في عقلية المجتمع العربي هو "حضارة التديّن الشكلي فقط،" وتجاهل تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قامت بسببها الحضارات في كل زمان ومكان، وحصر الحضارات الإنسانية في حضارة واحدة هي حضارة العرب التي كانت في فترة من فترات التاريخ البشري منذ أن خلق الله الأرض. والحقيقة، أن الحضارات السابقة كان لها عظيم الأثر في الحضارة الإسلامية، وما الحضارة الإسلامية إلا منتوج التلاقح لتلك الشعوب وثقافاتها حين انفتح العرب ليعبروا حدودهم الصحراوية إليها. فكيف لنا أن ننكر علوم وثقافة تلك الأمم، وندّعي أننا نحن من أنشأنا تلك الحضارة؟ لذلك، يجب أن نستوعب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شكلت تلك الحضارة على مدى قرون، لنخرج من واقعنا بنتيجة مفادها أن التغيير الاجتماعي والاقتصادي سبب رئيسي في نهضة الأمم، حين نمتلك المنهج والعمل البنائي، والنقد الذاتي والرؤية السليمة الخالية من التعصب. نحن درسنا عقلانية ابن رشد والكندي، وتاريخية ابن خلدون، ومنهجية جابر بن حيان، وفلسفة الفارابي، وغيرهم كثير، ولم نطبق أو نستفد من علمهم في حياتنا، بينما استفادت أوروبا منها، وهي تخلع عنها عصور الظلام. هذا الواقع الخاطئ الذي أفرز الصراع المحتدم الآن في الوطن العربي. فهل نفهم ما سيؤول إليه هذا الصراع إذا لم نوجهه الوجهة الصحيحة؟.