بعد وفاة محمد أركون، لا أشك أن جدلا واسعا سيدور عنه، وبالقياس إلى التعقيبات التي قرأتها عن محمد الجابري، ونصر أبو زيد، فإن المزايدة على الترحم والشتم هي السمة البارزة في التعامل مع المفكرين أياً كان توجههم، وكنت أتمنى أن تتم مناقشة هؤلاء المفكرين علميا، فمن له اهتمام وقرأ ودرس يبدي رأيه دون خوف، ومن ليس كذلك فيسعه السكوت، فليس من لوازم الدين أن تشتم الأموات، أو أن تترحم عليهم. محمد أركون عقلية موسوعية، متوغل في الفلسفة والعلوم الإنسانية بشكل يبعث على الدهشة، وهو يعدّ امتدادا نوعياً للاستشراق، ففي نهاية النصف الأول من القرن العشرين ظهر اتجاه يدعو إلى إصلاح الخطاب الإسلامي من الداخل بعد أن كان مكتفياً بفهمه، لكنه ظهر مع أفول الاستشراق الأكاديمي، وانتعاش الاستشراق الصحفي السياسي، لذلك كان اتجاها ضعيفاً، هنا ظهر أركون بالدعوة إلى دراسة الظاهرة الدينية، وتصحيح الفهم الديني، وشق بذلك طريقا جديداً للحداثة العربية، وسأحاول في هذه السطور أن أستعرض فكره من خلال أربعة أمور: )توصيف للواقع، النموذج المعرفي، قراءة التراث، المشروع الفكري). يقسم أركون التاريخ الإسلامي إلى العصر الكلاسيكي وهو الممتد والبالغ ذروته في القرن الرابع الهجري، وهو عصر الأنسنة كما يصفه، ثم يبدأ عصر الانحطاط حيث يُقتل الإبداع وتنتشر الطريقة المدرسية في التعليم، يصف أركون تلك المرحلة بالظلامية وهو يرى أن الحركات الإسلامية اليوم امتدادا لها، وبالتالي هي منقطعة عن الفكر الإنسي في القرن الرابع الهجري(1). من ناحية أخرى يصب أركون غضبه ولومه على الغرب وعلى أنظمة ما بعد الاستعمار، فالغرب الذي أنهك العالم الإسلامي بالاستعمار الظالم يحاول أن يرضي ضميره بتقديم بعض المساعدات الشكلية، لكنه في الوقت نفسه يصر على دعم الأنظمة المنتهكة لحقوق الإنسان في بلادنا، هذه الأنظمة هي التي قضت على الفكر الحداثي في رأيه، وسمحت بهامش لهم غير مؤثر في الواقع، وغذّت ودعمت الاتجاهات الإسلامية الحركية، يقول: «والغريب العجيب أن أنظمة الحزب الواحد التي سادت بعد الاستقلال هي التي غذت هذا الاتجاه المتزمت ونمّته، وهي نفسها الآن التي تحاول التخلص منه بأية وسيلة بعد أن أصبح يشكل خطرا عليها» (2)، لذلك لا يجد أركون حلا لهذه الأنظمة المدعومة من الغرب سوى الثورة السياسية في وجهها «وهذا يتطلب الاكتساب السريع للثقافة الحديثة المتعلقة بحقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية للحكم في المجتمعات المهمشة والمستغلة من قبل (نخبتها) الطفيلية كما من قبل العنف البنيوي لأنظمة التبادل التجاري والانتاج، هذه الأنظمة المفروضة من قبل الدول الغنية في الغرب الأوروبي والأمريكي» (3). ثمة اعتقاد أن أركون مدعوم من جهات غربية، وأنه يمثّل توجهاً غربياً امبريالياً، وإن دققت النظر لا تجد مايؤيد هذا، فأنا لا أرى أركون ينتقل بحرية في العالم العربي، ولا أراه يتصدر المحافل الثقافية في أوطاننا، ولا أراه على شاشات التلفاز إلا نادرا، وكتبه لا توزع، ولاتدرس في جامعاتنا، ولا يملك مالا يموّل به المؤتمرات والقنوات الفضائية والإذاعات، أظن أننا نخطئ الفهم حين نظن أن أركون يمثل توجها مرغوبا به في الغرب. نموذجه المعرفي.. بين الغرب والشرق: لابد أن نفرّق بين نموذجين، الأول: النموذج الإسلامي، وهو المبني على التوحيد، أي أن الخالق مباين لخلقه منفصل عنهم، الثاني: النموذج الغربي اليوناني، وهو النموذج المبني على وحدة الوجود، أي أن أصل الوجود مبدأٌ واحد، موجود في كل شيء، ويتحكم بكل شيء، وهي الفكرة التي انبنت عليها الحداثة الغربية. إلى أي النموذجين ينتمي أركون؟ النموذج الواحدي أم التوحيد الإسلامي؟ يعتقد أركون أن (الغرب) بالمعنى الثقافي هو أوروبا والعالم العربي والإسلامي، أما الشرق فهو الشرق الأقصى المتمثل بالصين واليابان والهند، ويرى أن النموذج الغربي هو نموذج الإغريق والديانات التوحيدية، أما التضاد المزعوم –في رأيه- فهو من آثار الحركات الأصولية في العالم الإسلامي (4)، فما الذي يعنيه أركون؟ هل يعتقد بأن الفكر الإغريقي مبني على التوحيد؟ وهذا مستبعد، أم أنه يعتقد أن النموذج الإسلامي يقوم على (وحدة الوجود)؟ جمعت عدة نصوص تتعلق بهذا الأمر وسأذكرها بنصها لخطورة الموضوع، يتحدث أركون عن لغة الكتب الدينية وأنها تميزت بالمجاز لثراء معانيها، ثم يتحدث عن الفرق بين التنوير الأوروبي وبين الأديان السماوية والأثر الفكري لكل منهما، فهناك حدثان الأول ظهور الأنبياء والثاني ظهور التنوير، وهذا التنوير رغم ما أحدثه من إيجابيات إلا أنه فصل الأخلاق عن مرجعية الدين، يقول: «ولكن فلسفة التنوير الملهمة لهذا الخطاب فصلت الأخلاق العامة والتشريع والروحانية عن المرجعية الدينية، لقد فصلتها عن الإحالة إلى الله الحي الذي يتجلى للبشر من خلال التاريخ»(5)، إن وصفه ل (الله تعالى) بأنه يتجلى عبر التاريخ يفيد بأنه متغير غير أزلي، وفي موضع آخر يتحدث عن مفهوم (الله) ويشير إلى أنه مفهوم متطور، يقول: «وعلى عكس ما تظن المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حي ومتعال وثابت لا يتغير فإن مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغيّر بتغير العصور والأزمان» (6)، وحتى أكون منصفا فإني لا أنفي احتمال اللغة المجازية في هذه النصوص، لذلك لا أراها جازمة وواضحة في (وحدة الوجود)، فتجلي (الله) خلال التاريخ قد يقصد به تجلي آثاره، وتطور (الله) قد يعني تطور المفهوم في عقول الناس، وليس تطور الحقيقة. يتحدث أركون عن الاعتقاد الإسلامي الذي يتخذ كلام الله مرجعاً ثم يعتقد بأنه هو القرآن، ثم يعتقد بأحقية المفسرين في تأويله، ثم يحوّل النموذج إلى فعل أرضي، ويرى أهمية نقض هذه المنظومة الفكرية واستبدالها بالعلوم التجريبية، يقول: «ولأن فكر العلوم الاجتماعية وعلوم الإنسان المتأثرة أكثر فأكثر بالعلوم الدقيقة تفضل طريقة التجريب والملاحظة المستعادة والممتحنة والمغتنية باستمرار عن طريق المعرفة الإيجابية للتاريخ الأرضي الذي يدعي المؤمنون أنه محكوم بكلام الله حسبما فسرته الأمة. والذي هو في الواقع خاضع للحتميات والقوانين الفيزيائية والكيميائية والكونية والسوسيولوجية والبيولوجية» (7). يتحدث أركون عن الصوفية في مواضع متعددة بشكل إيجابي، ومعرفة التصوف الذي يرتضيه يساعدنا في فهم هذه المسألة، يقول: «إن التصوف، في مقصده النهائي والأعمق، يمثل، أولا، التجربة المعاشة نتيجة اللقاء الحميمي والتوحيدي بين المؤمن والإله الشخصي (أي اللانهائي والمطلق المرتبط بالألوهة بالنسبة لمجمل الأديان)» (8)، عبارة (اللقاء الحميمي) و (الإله الشخصي) أي ما يعتقده الفرد إلها بحقه، عبارات تدل على الاتجاه الصوفي اليوناني، فليس ثمة حقيقة للإله سوى ما يعتقده الإنسان أنه حقيقة، يقول: «والتأمل الصوفي عبارة عن تمرين فردي ومستقل عن الشعائر والفرائض التي تؤديها الجماعة. وهو معاش بصفته هبة مجانية لله، ويرد عليه الصوفي بهبة العشق والمحبة. قيل إن الإسلام يحبّذ التواصل المباشر بين المؤمن وربه، بدون وساطة الكهنة (كما هو عليه الحال في المسيحية) ولكنّ الصوفيين يذهبون في هذا الخط بعيدا في الانفصال الشعائري عن الأمة، وخصوصا عندما يتوصّلون إلى مرتبة الوحدة مع الله، ومن المعروف أن الصوفي الكبير الحلاج قد أعدم بعد تعذيبه عام (922م)، وكان قد لفظ العبارة الشهيرة: أنا الحق، وعندئذ اصطدم بسوء تفاهم وفهم الحرفيين الظاهريين له، أقصد أتباع الشعائر والطقوس، الذين لا يستطيعون القبول بأن تتحدّ الأنا البشرية إلى مثل هذا الحد بالأنا الإلهية المتعالية. كان الحلاج يقول بما معناه: (نحن روحان في جسد واحد) ولذلك اتهموه بالحلول»(9)، لاحظ أنه يجعل من الانفصال عن الشعائر مؤدى للتصوف، وهو سلوك من يرى (الحلول)، أي أن يصل إلى الانفلات السلوكي والسيلان الكامل، ثم هو يؤيد أن تتحد الأنا البشرية مع الأنا الإلهية، ويصفها في الوقت نفسه ب (المتعالية)، ويرى أن هذا شيئاً آخر غير الحلولية، هنا يتعمق الإشكال في كلام أركون، هو من ناحية يثبت الحلول ثم يعود لينفيه، ويثبت التعالي لله تعالى. في رسالته الدكتوراه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي)، يتحدث عن عقيدة مسكويه في (الله) تعالى، وملخص كلامه أنه سار على طريقة أرسطو في إثبات المحرك الأول، لكنه كان يثبت التعالي في الوقت نفسه، وينقل عن البروفيسور (أوبنك) قوله: « في الواقع أن المحرك الأول ينبغي أن يحرك الأجسام رويداً رويداً مادامت أصغر الأجسام المتحركة تدور وتتحرك. ذلك أنه لا يمكن أن تدور بدون أن يحركها، وبما أنه متطلب من قبلها، فإنه يبدو معاصرا لها وملازما لزوما كاملاً. وبما أنه أول حلق في السلسلة، ألا ينبغي أن ينتمي إليها ويعتمد عليها كما تعتمد هي عليه؟»(10)، وبعد أن يعرض هذا الفهم ل (لمحرك الأول)، يقول عن مسكويه: «وعن طريق البراعة الأسلوبية فإن مسكويه يتوصل من جهته إلى غرس مفهوم التعالي في عقل القارئ بشكل لا يختلف اطلاقاً عن ذلك التعالي المحدّد من قبل القرآن، فعنده نلاحظ أن المحرك الأول لا يبدو (مرتبطا بالعالم) و لا (معاصرا) للمتحركات و لا (مندمجاً) فيها أو محصوراً بها فقط» (11)، ثم يلخص كلامه ويختم بقوله: «مهما يكن من أمر فيمكن أن نختتم كلامنا قائلين: إن إله مسكويه هو نفسه إله الأدباء الذين نهلوا من الأدبيات الفلسفية وألفوها وعاشروها، وهو يتخذ، بحسب السياقات الأسماء التالية: الله، المحرك الأول، الكائن الضروري، العلة الأولى أو المسبب الأول، المبدأ الأول، الواحد، إنه يمثل التخم أو الحد الأقصى الذي بدءاً به فإن العلم يصبح التبحر الذي يبدّد ظلمات الجهل، ونبع الكينونة، وضمانة العدالة والنظام وديمومة الكون، أو السبب الفعّال (أو العلّة الفاعلة النهائية)» (12). سأحاول تلخيص كلام أركون في هذه المسألة على النحو التالي: هو يرى أن اعتقاد اليونان في (الإله) يمكن أن يتوافق مع التعالي، وفي الوقت نفسه يبين أن هذا الاعتقاد يختلف عن اعتقاد الفقهاء (13)، فالإله عنده هو إله الأدباء والفلاسفة، وهو يثبت اتحاد الأنا البشرية مع الأنا الإلهية لكنه لا يصفه بالحلول، يقول إن نتيجة هذا الاعتقاد وسببه حالة ذهنية لا علاقة لها بالشعائر والطقوس، ويرى أن القوانين الطبيعية هي المحرك الحقيقي للكون، ويرى أن الإله متعدد الأشكال ومتغير عبر التاريخ، فهو نفسه المبدأ الواحد والعلة الفاعلة و هو نفسه (الله) تعالى، ويعتقد أن هذا الاعتقاد هو الطريق إلى العلم، لاحظ أن كل هذه الآراء من خصائص وسمات الفكر اليوناني القائم على الحلولية، لكنه ينفيها ويثبت التعالي، هذا ما يحيّر في رأيه. في اعتقادي أن أركون يتحدث عن دين (ما بعد الحداثة)، أي أن الإله لم يتحدد شكله الجديد بعد، وهو توجه يتحدث عن (خصخصة الدين)، أي أن المعتقدات الدينية أصبحت ذاتية، وسبب ذلك تراجع الرغبة في تفسير الوجود لدى الناس، ولم تعد العقائد التفصيلية، وما يترتب عليها من انتماء للمؤسسات الدينية تعني شيئاً كثيراً لدى الفرد في أزمنة الحداثة، وأصبح الدين الجديد هو (التعبير عن الذات)، و (تحقيق الذات)، يقول خوسيه كازانوفا شارحاً هذا التحوّل: «فإذا كان هيكل الشرك القديم هو البانتيون، وهو محفل يتسنى فيه عبادة كل الآلهة المعروفة بل وغير المعروفة بصورة متزامنة، فهيكل الشرك الحديث هو فكر الفرد نفسه، وفي الواقع، لا يميل الأفراد في العصر الحديث إلى الإيمان بوجود آلهة متعددة بل ينزعون إلى الاعتقاد على العكس بأن كل الأديان والأفراد تتعبد الإله نفسه بأسماء ولغات مختلفة، والأفراد في العصر الحديث وحدهم يجيزون لأنفسهم حق تسمية هذا الإله وعبادته بلغتهم الخاصة. فقول روسو: (إن دين الإنسان... لا يعرف الهياكل أو المذابح أو الطقوس)، وقول طوماس جفرسون: (أنا بحد ذاتي فرقة دينية)، وقول طوماس باين: (فكري هو كنيستي)، هي تصريحات نموذجية (ثقافة راقية) عن الشكل الحديث للتدين الفردي». لذلك ظهر التصوف الفردي بوصفه دين الحداثة، وهو يعني الشرك الحديث الذي هو في حقيقته النرجسية البشرية، أو التمركز حول الإنسان، وكان هذا التصوف بحاجة إلى شكل تنظيمي ليحقق انتشاره في المجتمعات الغربية، فظهرت المذهبية الدينية، التي يصفها كازانوفا ب: «الاختراع الديني الأمريكي العظيم»، لتكون الشكل التنظيمي للتصوف الفردي. قراءته للتراث: يقول أركون إنه لم يستفد من المستشرقين شيئا يذكر، سوى أسماء معدودة مثل (ريجيس بلاشير)، وقد قال هذه العبارة في مناقشة أطروحته للدكتوراه، ويذكر أنها كادت تتسبب في رسوبه، كان (بلاشير) متخصصاً في (علم الفللوجيا) يقول: «لقد علمني الدقة والصرامة الفللوجية. ولكنه لم يعلمني كيف أخرج من الفللوجيا بعد أن دخلت فيها» (14). محمد أركون معجب إلى حد كبير بمدرسة الحوليات الفرنسية (15)، يذكر أنه حين كان طالباً في جامعة الجزائر في عام (1951م أو 1952م) جاء مؤسس المدرسة (لوسيان فيفر) لإلقاء محاضرة في الجامعة، يقول عنها: «كانت بمثابة الصاعقة أو الوحي الذي ينزل عليّ. لقد كشفت لي الطريق الذي ينبغي أن أسلكه في ما بعد بعدة سنوات» (16)، بعدها ابتدأ أركون في قراءة مجلة الحوليات، ومازال مواظباً عليها، ويعدها (مجلة الباحثين) (17)، وحين درّس في السوربون عام (1960م) اتبع منهج الحوليات في دراسة وتدريس التاريخ، ثم توصّل بعد زمن إلى أنها بالغت في نقد المدرسة التاريخية التقليدية، وتطرفت في الجانب الآخر، فاتجه إلى (علم النفس التاريخي)، وهو علم خرج من رحم (الحوليات) أيضاً، يهتم بدراسة العقلية التي سادت في فترة ما، أي العقلية الجماعية ثم الخيال والأسطورة، فمقابل اهتمام مدرسة الحوليات بالبنى المادية، يهتم (علم النفس التاريخي) بالبنى العقلية والمعنوية (18). تأثر أركون بعالم آخر هو (ميشييل فوكو) (19)، وبمنهجيته الأركيولوجية، ويعتقد هاشم صالح أنه لا يمكن للقارئ أن يفهم كلام أركون إن لم يكن مطلعاً على أفكار ميشيل فوكو (20)، يرى أركون أن صاحب الفكر الأركيولوجي هو من: «يستطيع التوصل إلى تلك العصور الغابرة المطمورة بالركام عن طريق الحفر والتعرية»، فهو كالباحث في طبقات الأرض، لكنه يفعل ذلك مع عالم الأفكار، وهو يعني أيضا: «تعرية آليات الفكر الذي ولّد النظريات المختلفة والتشكيلات الأيديولوجية المتنوعة والتركيبة الخيالية والأنظمة الإيمانية والمعرفية، وكل ذلك من أجل نزع البداهة عنها وتبيان منشئها وتاريخيتها وبالتالي نسبيتها» (21)، لاحظ أن المنهج الأركيولوجي ينتقل بالباحث من البحث عن الحقيقة إلى البحث عن تشكّل الحقيقة تاريخياً، وهو فارق مهم، فحين تكون الحقيقة متغيرة، ومتشكلة تاريخيا بفعل الإنسان والأطر المادية (كما تبحث الحوليات)، والمعنوية كما يبحث (علم النفس التاريخي)، يكون البحث عن الإنسان وفاعليته في تشكيلها، باعتبار أن الحقيقة متغيرة بتغير الزمان، وفي رأيي أن العيب ليس في المنهج الأركيولوجي، فالبحث بهذه الطريقة مفيد في اكتشاف تكوين الثقافات، وفي اكتشاف الإنسان، وفي محاولة تفهم ماحدث، قبل الانتقال إلى مرحلة النقد، أي العرض على الحقيقة التي نعتقدها، لكن المشكلة في محاولة الانتقال من الاهتمام بالحقيقة إلى الاهتمام بطريقة تشكلها، وهو منهج يعبر عن يأس في وجود الحقيقة أصلاً، ويعتقد بسيلانها كما هو عند مفكري (مابعد الحداثة). بعد أن أتمّ أركون أطروحته للدكتوراه، أدرك أن العودة للحظة التأسيسية للإسلام مهمة للغاية، ولكونها مرتبطة بالنصّ أدرك أهمية اللسانيات، وقد اطلع على التجربة الغربية في التعامل مع الإنجيل مثل دراسات (دانييل روس)، وهو مؤلف مسيحي كتب عدة كتب عن الأناجيل في الخمسينيات والستينيات، يقول أركون: «وعندما اطلعت على كتبه لأول مرة تساءلت قائلاً: ألا يمكن أن نفعل شيئاً مشابهاً في ما يخص القرآن؟ وما هي النتيجة التي سنتوصّل إليها إذا ما قارنّا بين الإنجيل والقرآن بهذه الطريقة؟» (22)، وهذا ما جعله يعتقد أن تحرير الأفكار سيتم إذا أعطيت الأولوية للنقد التاريخي والألسني والسيميائي والأنتربولوجي على التراث (23)، لكن هذا لا يكفي، فمن المهم أن نعثر على نموذج أركون في فهم التراث وعلى مفتاحه في قراءة التاريخ، أي ماهي قواعده في الفهم؟ أركون من أصل جزائري أمازيغي، ينتمي للبربر، والأمازيع أصحاب ثقافة شفهية، مجتمع لا يعرف الكتابة، يتناقل تراثه من جيل إلى جيل شفاهة، وطبيعة المجتمعات الشفهية أنها تفقد كثيرا من تراثها، لعدم قدرتها على تدوينه، وتنتشر فيها الثقافة الأسطورية على حساب الثقافة الواقعية، ومهما كانت ثقافتها ثرية ومفعمة إلا أنها تظل بجانب المجتمعات الكاتبة والمجاورة لها بمثابة التابع، وهذا حال الأمازيغ بجانب ثقافة المدن الناطقة باللغة العربية، يذكر أركون دائما هذه المعاناة الثقافية التي شهدها بنفسه حين كان صغيرا في قريته، فحين رأت الجزائر النور، والتفت العالم الخارجي إلى ثقافتها، التفت إلى الثقافة المكتوبة في المدن بوصفها ثقافة المجتمع الجزائري، دون اهتمام بالثقافات الشفهية، وأركون يجعل من هذه الفكرة معادلة تاريخية، مستمرة في كل الحضارات، ويطورها إلى أن يجعلها مؤامرة تحاك دائما في المدن الكاتبة ضد القرى والأطراف أصحاب الثقافات الشفهية، إن أركون يعمم معاناته الشخصية ومعاناة قومه ليجعلها قاعدة يقرأ بها التاريخ، فالتاريخ في رأيه عبارة عن تضامن بين الدولة والكتابة والثقافة الحضرية العالِمة والدين الرسمي، وتضامن آخر بين المجتمعات القبلية والمجتمعات الشفهية والثقافة الشعبية والأديان المحلية (24)، لذلك على الباحث أن لا يثق أبدا في الثقافة المكتوبة لأن كل ذلك تم عبر تزوير، وهذه أصل المشكلة عند أركون، فحين يتحدث عن القرآن الكريم، يعتقد أن كتابته تمت بمؤامرة في المدن لأغراض سياسية، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه حذف وأضاف لغرض تكريس سلطته، ويعتقد جازما أن ثمة قرآنا آخر كان موجودا في القرى يتلى شفاهة لكنه اندثر لأن القرى لا تكتب، ويعتقد أن الأشاعرة انتصروا بفعل تحالف مع الدولة وأن ثمة فكر آخر لم يكتب له النجاح لأنه لم يكن حليفا لها، وهو فكر المعتزلة، وهكذا، لا يُتعب أركون نفسه بإثبات نص قرآني آخر، بل يجعل من قاعدته مفتاحا لقراءة التاريخ، هذا المفتاح الناتج عن أزمة نفسية عاشها في بيئته الثقافية الشفهية (25). مشروعه الفكري: يسعى أركون إلى جعل (اللا مفكر فيه) (26) مفكرا فيه في الساحة الإسلامية (27)، وهو يعتقد أن مشروعه مشروع تحرري للعالم الإسلامي، وهو بذلك يستشعر صعوبة طريقه، خصوصا أنه يعتقد أن المستشرقين والباحثين المسلمين لا يمتلكون القاعدة المعرفية المؤهلة لاستقبال هذه الأفكار، لذلك يشكو من قلة القراء، ويبدو متشائما حين يقول: “نعم إني أحلم بجمهور غير موجود لا في الجهة الأوروبية ولا في الجهة العربية- الإسلامية. أحلم بجمهور مستعد لتلقّي البحوث الأكثر انقلابية وتفكيكاً لكل الدلالات والعقائد واليقينيات الراسخة”(28)، لكنه يكون أكثر تفاؤلا حين يتحدث عن التراث الإسلامي بعد الحداثة: «فلأول مرة أصبح التراث الإسلامي العريق واقعاً تحت هذا التأثير وبشكل نهائي لا مرجوع عنه، بمعنى أن الأمور لن تكون بعد اليوم كما كانت عليه من قبل، وسوف تضطر النواة الصلبة لهذا التراث الإسلامي إلى التغيّر والتحلحل والتبدل لأول مرة في التاريخ» (29). يقوم مشروع أركون على جبهتين، المستشرقين من ناحية، والإسلاميين من ناحية أخرى (30)، وهو في خطابه يوجه اهتمامه إلى الغرب وإلى المستشرقين أكثر من اهتمامه بالعرب والمسلمين، فرغم إتقانه اللغة العربية إلا أنه يكتب بالفرنسية، وسياق كلامه يدلّ بشكل واضح على أن المخاطَب الرئيسي هو الباحث الغربي، ومشروعه التحرري –كما يذكر- متوجه بالأساس إلى العالم (الإيراني، التركي، العربي، البربري) فمع أن هذا النطاق الجغرافي شديد الاتساع إلا أنه متجانس تاريخياً، ويتميز بصفات مشتركة ودائمة (31)، لذلك هو مجال بحثه ومشروعه، وهذا يشير أيضا إلى اعتقاده الراسخ أن المنظومة التي تجمع هذه المناطق هي ذات المنظومة اليونانية، بخلاف أندونيسيا والهند مثلا التي يتجاوز عدد مسلميها المائة مليون، لكنه يعتقد أنها تنتمي لمنظومة مختلفة. يرى أركون أنه من الخطأ ترك الأمور تسير على ماهي عليه، وكأننا ننتظر فرصة سانحة للتغير، بل يدعو إلى عمل مشترك يضطلع بهذه المهمة التحررية، وأهم هذه المهام بحث الظاهرة الدينية (32)، كتب أركون مقالاً عام (1957م) بعنوان (مغزى تاريخ شمال أفريقيا) في مجلة (فكر) التونسية، تحدث فيه عن نقد العقل الإسلامي (33)، وهو بهذا يعدّ من أوائل من ابتدأ مشروع الحداثة العربية في ثوبها الجديد، إن لم يكن هو أول من ابتدأها. دعا أركون إلى مشروع (ورشة كبيرة عن الدراسات القرآنية) يعنى بتطبيق المنهج التاريخي الفيلولوجي على دراسة النص القرآني، وهو يريد أن تقوم هذه الورشة في العالم العربي باللغة العربية، يقول: «ومن الغريب العجيب أنه لم تفتح حتى الآن أي ورشة فكرية أو علمية حول القرآن في أيّ بلد من بلدان المؤتمر الإسلامي... بل إن المسكين نصر حامد أبو زيد الذي نشر دراسة متواضعة عن القراءة الألسنية للقرآن راحوا يلاحقونه في محاكم القاهرة! وهذا لا يشجع إطلاقاً على الانخراط في هذه البحوث المرغوبة من قبل المفكرين الأحرار»(34)، ثم بدأ هذا المشروع في جامعة تورنتو في كندا من قبل ناشر هولندي، وتترأسه البروفيسورة (جين دام مين ماك أوليف) مع فريق عمل مؤلف من أربعة أساتذة، وهو مشروع ل (انسيكلوبيديا القرآن) أو (الموسوعة القرآنية)، يتتبعون فيه كل كلمة قرآنية بدراسة تاريخية في مادة مستقلة (35). في عام (1976م) تبلورت عند أركون أفكاره في مشروع أسماه (الإسلاميات التطبيقية)، أي تطبيق مناهج علم الاجتماع والألسنيات والانتربولوجيا والتاريخ الحديث والتاريخ المقارن على الإسلام، وهي في مقابل منهجية المستشرقين في دراسة التراث والتي يسميها (الإسلاميات الكلاسيكية) والتي تعتمد على المنهجية الفللوجية، لكن مشروعه لم يلق ترحيباً في الأوساط العلمية في السوربون ولا في الأوساط السياسية كما يذكر أركون، وقد تشجع بعض طلابه لأفكاره فقاموا بمشاريع أشرف هو عليها بين 1970 و 1980م (36). من أبرز ما يلحظه القارئ لكتب أركون أنّه مهووس بالتنظير، حتى أنه ينظر لأهمية التنظير، ويدعو لمشاريع وورش عمل، ويحيل على كتب ستصدر، وأبحاث قيد التنفيذ، وهكذا، وقد انتقده المستشرقون في السوربون على هذه الطريقة في التأليف لكنه متمسك بها ويدافع عنها، يقول هاشم صالح بعد أن ذكر ضخامة المشروع الذي تبنّاه أركون: «إنه يتطلب تضافر جهود كاملة من الباحثين العرب والمسلمين، ولهذا السبب نجد أن الكثير من دراسات أركون تتخذ هيئة برنامج عمل ينتظر التنفيذ والإنجاز أكثر مما تتخذ هيئة البحوث الناجزة والنهائية» (37). •أستاذ التفسير بجامعة الملك فهد [email protected] (1) انظر: محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادة الهيمنة، 55. (2) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 104. (3) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 160. (4ا) نظر:محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 202. (5) محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 177. (6) محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، 102. (7) محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، 220. (8) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 157. (9) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 158. (10) محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، 548. (11) محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، 549. (12) محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، 554. (13) انظر: محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي،19. (14) انظر: محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، 89. (15) تأسست مدرسة الحوليات عام (1929م) على يد (لوسيان فيفر) و (مارك بلوك)، ثم انتعشت وتطورت على يد تلامذتهم أمثال (فيرنان بروديل)، وهي مدرسة تعنى بإدخال العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى ساحة التاريخ والمؤرخين، لذلك كانت المدرسة أشبه بثورة على مدرسة التاريخ التقليدية التي تعنى بسرد الوقائع وتتبع سلالات الحكام والملوك، فالحوليات تركز على الزمن الممتد الطويل، وتهتم بالأطر الاقتصادية والمادية والديمغرافية، انظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 252، ونزعة الأنسنة في الفكر العربي، 61. (16) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 251. (17) انظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 252. (18) انظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 307. (19) ميشيل فوكو: مفكر فرنسي عاش بين (1926-1984م)، حصل على شهادة التبريز في الفلسفة، شغل كرسي تاريخ مذاهب الفكر في الكوليج دي فرانس بباريس، يقول جورج طرابيشي: “توقف عند الحدود غير المعروفة كثيراً بعد بين الابستمولوجيا وتاريخ العلوم والأفكار ليتحرى عن الأحداث التي صنعت منذ مطلع القرن السابع عشر عقلانية الحضارة الحديثة”، انظر: جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة، 469،470. (20) انظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 228. (21) محمد أركون: الفكر الإسلامي، قراءة علمية، 10. (22) محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، 270. (23) انظر:محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 225. (24) استعار أركون مصطلح (القوى المركزية، قوى الهامش والأطراف) من المفكر الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر، وقد أضاف عليه وعدّل، وجعل منه قاعدة لقراءة جميع المجتمعات، فهو يرى أن ثمة أربع قوى تتصارع مع أربع أخرى، فالدولة تتصارع مع القبيلة، والكتابات المقدسنة تتصارع مع الثقافة الشفهية، واللغة الفصحى تتصارع مع الثقافة الشعبية، والدين الرسمي الذي يسميه (الأرثوذكسية الدينية) يتصارع مع الأديان الخارجة عنها، وتسعى الدولة دائماً بكتبها المقدسة ولغتها المكتوبة الرسمية والدين الذي تتبناه إلى صهر الثقافات الهامشية فيها، فعبر التاريخ تقوى الدولة دائماً وتضعف الأطراف، لذلك يعتقد أركون أنه لا يوثق أبداً بالثتراث المكتوب، وسيأتي معنا استخداماته لهذه القاعدة في قراءة التراث الإسلامي في المباحث القادمة، انظر: محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 78. (25) محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي،265،268 و 284،285. (26) مصطلح (اللامفكر فيه) و (المفكر فيه) رائح في الكتابات المعاصرة خصوصاً الحداثية منها، ويسخدمها أركون كثيراً، ويعني ب (اللامفكر فيه) كل ما لا يخطر على بال ثقافة معيّنة في فترة ما، وعكسه المفكر فيه، انظر: محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، 21. (27) محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، 44. (28) محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 20. (29) محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 190. (30) انظر: محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، 89. (31) انظر: محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، 92. (32) انظر:محمد أركون: الإسلام، أوروبا، الغرب، 86. (33) ثم تبلور هذا المشروع في ذهنه وكتب عنه بشكل مفصل بين عامي 1976م و1984م، انظر: محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني،34 و 183. (34) محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 58. (35) محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 59،60. (36) انظر: محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، 34. (37) محمد أركون: الفكر الإسلامي، قراءة علمية، 9،10، وانظر: محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني، 52.