عواض شاهر العصيمي عواض شاهر العصيمي - كاتب وروائي سعودي من الصفحة الأولى لرواية «تباوا» الصادرة من الدار العربية للعلوم 2012، نراقب البطل إذ يلوذ بضمير المتكلم متحدثاً عن نفسه، يكتب على باب الغرفة عن الأرض في خيال متصوف مسن، غير أن التصوف هنا إنما هو شكل من أشكال الوعي الذي (يتلمس آفاق الروح ويشحنها بطاقة جديدة – ص10)، لكنه لا ينحبس في هذا العالم الشاسع الصعب على الترويض، بل لديه استفاقاته الواعية المفتوحة على الموجودات الحسية أيضاً. حسية روحية وكأنما تتشكل في هذه الومضة رحلة طويلة يتداخل فيها الحسي والروحي والغيبي في متواليات نصوصية كتبت بلغة منطلقة في فضاء واسع لا يثبت على حالة كتابية محددة تمكننا من تجنيس المكتوب، فالروائي في لحظة من اللحظات يتكثف ويتعقد حد اندغامه في الشعر، ثم لا يلبث أن يتفكك وتتباعد كثافته الشعرية ليدخل في صورة حكائية ما، أو قناعة مستخلصة من تجربة عاشها البطل، أو اكتسبها. الحدود «تباوا» يمكن القول إن الروائي الشاعر نايف الجهني الذي كتب الشعر بشقيه العامي والفصيح، وحلق في آفاق الروحانية من منظوره المقارب لتصوراته عن الحياة والكون والرسائل الكامنة فيهما، وكتب عن الكارما، وألف فيها كتاباً، يمكن القول إن قراءاته في هذه الحقول المعرفية والروحانية، بالإضافة إلى تجربته الخصبة في الحياة، فتحت له في «تباوا»، وقبلها في روايته الأولى «الحدود»، مسارات عديدة متنوعة مع المكان المتصل ليس فحسب بمواطن الطفولة والصبا والمراهقة، وإنما أيضاً بالمكان خارج الوطن شأن أي منطقة حدودية. القريات، كاف، تبوك، معان، عمان، وما بين هذه المدن والقرى من وهاد وسهوب وجبال، قضى أياماً ولياليَ كثيرة يعبر هذه الخريطة الجغرافية جيئة وذهاباً، إقامة وارتحالاً، بمفرده أحياناً، وأحياناً أخرى بمعية أفراد من أهله الأقربين، كالأب والإخوة والأبناء، فالحدود في تفسيرها الرسمي ليست إلا علامات ومنافذ سيادية تفصل ما بين الدول والأنظمة السياسية، لكنها لا تعيق حركة الرياح، لا تصد مسيرات الرمال، لا تمنع الطيور من العبور، لا تعيد الغيوم القهقرى. ذات نوم هكذا، يتخاطب الراوي مع تلك العلامات، وتلك المنافذ، في دخوله وخروجه الرسميين. إذ ما هي إلا لحظات حتى ينداح أمامه قوس الأفق فينطلق لوجهته. يرى جده في الحلم ذات نوم، فيخطر في بال القارئ الحلم العادي الذي يزوره في المنام، لكن هذا الحلم لا شبيه له، إنه انعكاس لوعي اليقظة المفكرة، إذا جاز القول، أو لحالة الصفاء المتراسلة مع الأشياء في ذروة وضوحها وحضورها خارج هيمنة العقل المجرد. فالجد إذ يتحدث في هذا الحلم المشحون بوعي عالٍ يكون على درجة كبيرة من حرية التفكير والتحليل وتفكيك الصور إلى رسائل تحكي ذواتها، إنه لا يعرض ما لديه بآلية رياضية يتسيدها العقل، بل يعرض كثافة ذاته العالمة في الحلم، فيُقرأ حين يحكي ويُفهم حين يصمت. يقول الراوي متحدثاً إلى جده في النوم بعدما سمعه يهجو العقل وحساباته الحذرة في تقدير الأشياء والتعامل معها وفق أحكام «التعليم والنظام والمجتمع»، يقول لجده: (إني أحسدك على ما أنت عليه، لا ألومك، لأنك تتكلم بتجرد وحرية مطلقة، تقول ما تريد قوله، ليس عليك أي رقيب أو سلطة – ص 13). كينونة الحلم وعلى هذا الأساس، في ضوء هذه النافذة، تتجلى قيمة الحرية في حياة الإنسان ككل، وبمعزل عنها تتبدى معاناة الفرد مع الحرية الوهمية، أو الحرية المنقوصة، أو الحرية المشروطة بتسليم الإنسان نفسه لعهدة سلطة تتحكم في مصيره وحياته. والجد في الحلم هو الانعكاس الشفيف لتوق عميق للحرية يحمله الإنسان أينما ذهب دونما أمل بوجود الحرية المنشودة. إنه يمثل الكينونة المحلوم بها في الواقع، التجربة والحكمة والمعرفة والوعي العميق بالذات والآخر، الوعي بالأشياء، الوعي بالكون الواسع، وكل ما هو خارج أحكام «التعليم والنظام والمجتمع»، أي ببناء إنسان جديد لا يخضع لسلطة العقل الذي ربته مخرجات التعليم، وطوعه المجتمع وفقاً لتصوراته وأحكامه، ومنطق الوضع القائم، لبناء حياة غير مدرجة في سجلات القوى المهيمنة بقوة على عقول الناس. إذاً، لابد أن تكون حياة عصية على البرمجة القسرية ومحصنة من التحويل الاستغلالي لمصلحة محتكري الحقائق والاعتقادات والنظم والقوانين. عدوى العبور إذاً، فالرواية من هذا الباب ليست حكاية عادية ككل الحكايات المطروحة في الكتب السردية، وإنما هي حقل متنوع الحمولات يتضمن الحكاية والرحلة والتأمل بأنواعه ونقد التسليم بسلطة الجماعة على الفرد، والفرد على الجماعة، والعرف على الحقيقة، كما أنها رواية الاختلاء باللغة العالية والمفردة الصقيلة ذات البريق الأخَّاذ، وهي كذلك رواية الاحتفاء بالآفاق الطليقة براحاً، السفر الطويل والتطواف الواسع حد الإنهاك، ولعل ما يميز المناطق الحدودية أنها مفتوحة على نداء الأقاصي، فمن يمكث طويلاً في منطقة هذا هو حالها يمرض وتسري في بدنه سموم الاستقرار، لذلك فإن معظم أبناء هذه المناطق تسكنهم الوحشة من مفصلات باب الدار إذا لم تتحرك مرحبة بخروجهم، إنهم يدركون جيداً أن موقعهم الجغرافي يستدر في حركته وسكونه جاذبية اختراق المنافذ، فتصيبهم منه عدوى العبور. أشخاص عاديون الواقع أن رواية «تباوا» أوسع من أن تكون حكاية وشخصيات وحبكة، وما إلى ذلك، إنها في بنائها الحكائي تمتد في داخل الراوي، كما تمتد في الأشياء التي يعبرها، أو يتلبث فيها، إنها من جهة حكاية الأشخاص العاديين الذين كثيراً ما نجدهم في الصفحات، إما تحت سقف ما، أو على قارعة الطريق، أولئك الأشخاص الذين يكاد لا يحتفي بهم أحد، وهي من جهة أخرى حكاية الأمكنة والطرق وأماكن الراحة الوجيزة والقهوة والقصيدة وتنوع الأوقات في نهار واحد، أو في ليل داج تحت السماء لا غير، أو في أحشاء مدينة يشكو عابرها من الفراغ، أو من الاكتظاظ بالذكرى والحنين.