ماهو النقد ومن هو ناقد الشعر الحقيقي؟ ما زلت عاجزاً عن إدراك الإجابة الشافية، لكن يمكنني القول إن النقد عمل فني يبدأ بالموهبة ويستمر بالمعرفة، إنه نقد يعلو على الشعر، يتجاوزه، ويمتلك قدرته الخاصة في اختراق النص وتفكيكه والتعرف على العلاقات الكامنة بين كلماته وتراكيبه. هذا النقد للأسف لا يستطيعه المثقف المدرسي مهما كان تخصصه، ومهما بلغت شهادته العلمية إلا أنه يظل عاجزاً عن تقديم عمل نقدي ناجح ومقنع. النقد الفني الناجح لا يمكن أن يقدمه إلا شاعر حقيقي، هذا ما لاحظته من خلال قراءات كثيرة لكتب النقد، أجمل النقد ما صدر عن شعراء حقيقيين، سواء جاء في مؤلفات مستقلة ككتاب (زمن الشعر لأدونيس)، وكتاب (الشعر والشعراء ل (تي سي إليوت)، أو ما جاء في حوارات مع كبار الشعراء عن رأيهم في الشعر، أو ما جاء (شعرياً) في قصائد كثير من الشعراء توضح جانباً من فهمهم للشعر. ولهذا السبب أعتقد أن التجارب النقدية مقارنة بالتجارب الشعرية هي تجارب قليلة، ذلك لأن من يمتلك القدرة على النقد هو في الأساس شاعر متمكن، لذلك لا يمكنه مقاومة إغراء الشعر وشهرته وجماهيريته، فيميل إلى الحضور من خلال القصيدة، مؤجلاً موهبته النقدية ومعطلا إمكانات الناقد بداخله إلى أن تتلاشى وتفنى. لا شك أن الشاعر مخلوق أناني، يسعى لاستغلال كل شيء لصالح قصيدة، لذلك نجد أن من يمتلك أسرار الشعر (الخفيّة) يرى أنه الأحق بكتابة القصيدة، وأنه من الإسراف توظيف معرفته في مجال النقد، ربما لهذا السبب نجد التفاوت الكبير بين كثرة الشعراء وقلة النقاد. متى ما استطاع الشاعر أن يتنازل قليلا عن أنانيته، ويقاوم جاذبية الشعر وشعبيته، ويضغط على مصلحته الشخصية وميله الفني نحو القصيدة، ويختار النقد مجاله الوحيد وأسلوب حياته الأهم، متى ما تمكن الشاعر من ذلك فإننا بلا شك سنكون على موعد مع ناقد مبدع قادر على تقديم ما نطمح إليه من نقد يرفع قيمة الشعر وينقي ذائقة الجمهور، أما ونحن نعيش زمن المصالح الشخصية، وكل مشغول بذاته وشؤونه الخاصة، فسيظل النقد هامشياً.. ك «بئر معطلة»..!