إنَّ حبَّ الإنسان لوطنه وشعوره بالانتماء إليه أمرٌ فطريٌّ وعاطفةٌ إنسانيّةٌ أصيلةٌ، يشترك فيها الجميع على تنوّع أعراقهم واختلاف مشاربهم، والإسلام دين الفطرة والإنسانيّة لم يقف في وجه هذا الميل الطبيعيّ، بل أقرّ ذلك وعزّزه، وجعل منه سبيلاً للعمل الصّالح والفعل الخيّر، كيف لا؟ وقد علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبّه لوطنه في موقفٍ بالغ التّأثير والرّوعة، عندما وقف ليلة الهجرة على مشارف مكّة المكرّمة قائلاً: (ما أطيبك من بلدٍ وأحبّك إليّ، ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) أخرجه الترمذي. لقد كانت تلك الكلمات تعبيراً صادقاً عن حبّه لوطنه الذي نشأ فيه، وتنعّم من خيراته، وأمضى فيه سنوات شبابه وكهولته، وفي موقفٍ آخر نراه -صلى الله عليه وسلم- عائداً من غزوة تبوك، حتّى إذا شارف المدينة المنوّرة أسرع في سيره وتهلّل وجهه بالبشر قائلاً: (هذه طابة، وهذا أحدٌ، جبلٌ يحبّنا ونحبّه)، أخرجه البخاري كلماتٌ تعبّر عن حبّه ووفائه -صلى الله عليه وسلم- لتلك الأرض الطّيّبة التي هاجر إليها، فوجد فيها أهلاً وأصحاباً، وبشاشةً وترحاباً، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه المواطن الصالح تجاه بلده، الذي قدم له الكثير. إنَّ الانتماء إلى الوطن المملكة العربية السعودية ليس مجرّد عاطفةٍ أو مشاعر جيّاشةٍ فحسب، بل هو مع ذلك إحساسٌ بالمسؤوليّة وقيامٌ بالواجبات. عندما نتحدث عن المواطنة فإننا نقصد الشراكة بين أبناء المملكة العربية السعودية، شراكةٌ في المصير والتّحدّيات، شراكةٌ في المكتسبات والمنجزات، ومثلنا في هذا الوطن الذي أسسه الملك الصالح عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود كمثل الجسد الواحد كما أخبر نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-: (إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)، فمن الوهم البالغ أن يظنّ البعض أنّ بإمكانه أن يحقّق سعادته أو نجاحه في مجتمعه أو وطنه على حساب شقاء الآخرين. إن وعينا أيّها القارئ الكريم بالمعنى الصّحيح للمواطنة يستدعي منّا الانفتاح على شتّى الفئات في مجتمعنا، والتّعارف فيما بيننا، والتّعاون على الحقّ والخير، بدلاً من الانعزال في تجمّعاتٍ ضيّقةٍ أو تحزّباتٍ متدابرةٍ، فالمواطنة تعني بالضرورة وقوف الجميع على قدم المساواة في الحقوق والواجبات كما علّمنا سيّد البشريّة محمّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، وذلك عندما قدم المدينة المنوّرة مهاجراً، وأسّس فيها الدّولة الفتيّة، وكتب المعاهدة التي غدت دستوراً جامعاً لأبناء الدّولة، وترتّب على تلك المعاهدة أن يكون جميع أبناء تلك الدّولة يداً واحدةً على من سواهم، يدفعون التّهديد والعدوان عن أرضهم، ويتعاونون فيما بينهم لتحقيق مصالحهم، وحفظ دماء الجميع وحقوقهم وكرامتهم. إنّ هذا الوطن المملكة العربية السعودية الذي نعمنا بالأمن والطّمأنينة في أكنافه، وعشنا على خيراته وثمراته، ليحتم على كلّ فردٍ منّا أن ينهض بواجباته تجاه وطنه، فالمواطنة أخذٌ وعطاءٌ، أخذٌ للحقوق وأداءٌ للواجبات، تلكم الواجبات لو شئنا أن نختصرها لكانت في أمرين اثنين هما: الأمن والبناء، فأمّا الأمن في الأوطان فمن نعم الله العظمى على العباد، ولهذا امتنّ الله تعالى بها على أهل مكّة في قوله سبحانه: ( لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وسأل نبيّ الله إبراهيم - عليه السّلام - ربّه فقال:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا). فواجب الأمن يتحقّق بأن نكون حَمَلَة خيرٍ، ومصدر أمنٍ وسلامٍ لمن حولنا ولو ببسمةٍ صادقةٍ، أو نيّاتٍ خيّرةٍ، أو كلمةٍ طيّبةٍ، أو بشارةٍ سارّةٍ، فكلّ هذا من المعروف الذي لا ينبغي أن نحقره مهما كان يسيراً، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ)، أخرجه مسلم. إنّ من تحقيق الأمن أن نكون يداً واحدة مع ولاة أمرنا، مع رجال أمننا، أن ندرأ الفتنة ونمنع قيامها، وأن نئد الإشاعات الكاذبة والإرجافات المزعزعة، وأن نبتعد عن ترويع الآمنين، وتخويف الأبرياء المسالمين، وأن يكون من دعائنا لربّنا في صلواتنا: ربّ اجعل هذا البلد آمناً. ذلكم الأمن الذي أرسى دعائمه الملك الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وسار على ذلك أبنائه الملوك البررة حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز هو الواجب الأول من واجباتنا تجاه وطننا المملكة العربية السعودية، أسأل الله عزّ وجلّ أن يديم علينا الأمن والإيمان. والواجب الثّاني تجاه الوطن هو واجب البناء، وبناء الوطن امتثالٌ لمهمّة الاستخلاف في الأرض وإعمارها، قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، فكلّ مواطن منّا في موقعه مستخلفٌ ومطالبٌ بالبناء على قدر وسعه وقدراته، ويتجلّى بناء الوطن في مجالاتٍ شتّى، يتجلّى في الحفاظ على الممتلكات والمرافق العامّة، في الحفاظ على خيرات الوطن وثرواته وبيئته، في الكفّ عن الإسراف واستنزاف الموارد مهما قلّت أو كثرت، في إتقان العمل النّافع المفيد، وفي حسن المعاملة فيما بيننا ومع الأجنبيّ الغريب، يتجلّى بناء الوطن في نشر العفّة والفضيلة، ليكون مجتمعنا ناهضاً بالقيم الفاضلة؛ كلّ ذلك بناءٌ للوطن. ومن بناء الوطن أيضاً بناء الإنسان الصّالح، لأنّ الإنسان هو الثّروة الكبرى والعامل الأهمّ في التقدّم والتأخّر، وقد عرفت الأمم المتقدّمة قيمة بناء الإنسان فأولته العناية الفائقة، لذا كان لزاماً علينا أن نرتقي بأنفسنا وأسرنا والنّاس من حولنا ثقافةً وعلماً ووعياً وتربيةً، فارتقاؤنا ارتقاءٌ للوطن وازدهارٌ ورفعةٌ له. بناء الوطن يتجلّى أيضاً في وقوفنا في وجه المفسدين والمنتهكين لحرمات الوطن من أبناء الوطن نفسه أو من الدخلاء عليه، إنّها مسؤوليّة الجميع لأنّ نتائجها تعمّ الجميع عاجلاً أو آجلاً، هكذا يكون بناء الوطن عطاءً يقدّمه كلّ فردٍ في مجتمعنا، ومكتسباتٍ يحافظ عليها الجميع: الكبير والصّغير، الطّالب والمعلّم، العامل والمسؤول، المرأة والرّجل. هذه دعوة مني لنتعاون جميعاً في رقيّ وطننا والحفاظ على منجزاته، كلٌّ بحسب جهده وقدراته، وكلٌّ في تخصّصه ومجال عمله، ولنكن مخلصين لوطننا في بيوتنا ومدارسنا، وفي أسواقنا وأماكن عملنا، متمسّكين بأخلاقنا وقيمنا، يداً واحدة مع ولاة أمرنا -حفظهم الله وأبقاهم لنا ذخراً-. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،