للوداع لغة قاسية، تتعطل فيها جميع حواس تواصلك مع من حولك، وتصبح دموعك الساخنة هي لغة الحرف التي تصف مشاعرك المتشحة باللون الرمادي، خوفاً من لحظة وداع مفاجئة تتعطل فيها كل وسائل الاتصال الحديثة مع من تُحب، محاولاً احتضان دفء صوته لتقول له كلمة حُب احتفظت بها بينك وبين نفسك، حتى ينضج إحساسك تجاهه، وقد تتذكر تلك الزهرة البيضاء التي وضعتها في جيبه لتكون رسالة شوق معه، يشم عطرها الشذي، كلما حنَّ إليك، لتصبح عندها كل تفاصيل حياتك اليومية مزيداً من الذكرى المؤلمة التي تعيدك الى لحظة الوداع، تتذكره وهو يفتح لك ذراعيه ليعانق كل الشوق الذي يسكنك إليه، ويعانق كل الكلام الذي تأجل حضوره فوق شفاهك، حتى لا يختلط بدموع الفراق. د.محمد المطوع كلنا نخشى لحظة الوداع حتى وإن كان وداعاً قصيراً نعانق فيه أحبابنا، ونتعلق بعناقهم كثيراً، ونتمنى ألا يطول لأكثر مما نتوقع، لتذهب كل النداءات المتكررة والتي تعلن عن اقلاع الطائرة، ولتغادر كل السفن الراسية على طرف الميناء، وليذهب القطار بكل ركابه حتى المسجلين على قوائم الانتظار الطويلة، المهم ألاّ ينتهي عناق وداعنا بمن أحببناهم, بعضنا يتجنب لحظة الوداع يهرب منها إلى آخر نقطة في العالم، قد يعتذر بسبب ارتباطه بموعد عمل أو زيارة، لكنه موعد مع نفسه للهرب من غربة الوداع، وبعضنا يحاول أن يخبىء وجهه بعيداً عن الناس، عندما تحرجه دموعه أمامهم، خاصةً وهو يودع أحد أبنائه، الذي يُعد قطعة من قلبه، كذلك الأمهات المتجهات إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج يعيشون لحظة وداع مؤقتة مع أطفالهم الصغار، وقد يؤجلون فكرة الذهاب لأكثر من مرة؛ من أجل الأبناء، إلاّ أنهم في النهاية يقررون الذهاب رغم آلام الفراق، متوجهين إلى الله بالدعاء أن يحفظ "أكبادهم" من كل مكروه، وأن يتقبل الله الفريضة، ويعينهم على أدائها. هدايا الوداع وقالت "هيفاء النقلي": إنها تركت العام الماضي أطفالها الثلاثة في مرحلة الدراسة الابتدائية، وكذلك طفلتها الرضيعة عند أُختها؛ من أجل أداء فريضة الحج، مضيفةً أنها من شدة تعلقها بهم وخوفها عليهم كادت أن تؤجل هذه الرغبة إلى وقت آخر، لكنها لم ترَ جدوى ذلك، فالفريضة واجبة عليها، وستضطر لتركهم لا محالة، مبينةً أنها استعانت بالله وأعدت لهم حفلة صغيرة ودعت بها أطفال الأُسرة بكروت دعوة، تضمنت صورة للكعبة، وكتبت على الكرت عبارة "غداً تكبرون وتحجون"، مشيرةً إلى أنها شرحت لهم رحلة الحج كاملة بالصور ووعدتهم بإحضار الكثير من الهدايا، فاطمأنوا وطلب كل منهم هديته، ذاكرةً أنها غادرت المنزل وهم نائمون ودون أن تودعهم بل قبلتهم داعية الله أن يحفظهم. دموع الأبناء هي أقسى ما يواجه الأم لحظة الوداع تأخرت بالحج وأوضحت "دينا خان" أنها لم تؤدِ فريضة الحج حتى أصبحت جدة لعدد من الأحفاد، وذلك خوفاً من ترك أطفالها السبعة وهم صغار وحيدين مع الخادمة، خاصةً أن والدتها لا تقوى على رعايتهم، معللةً ذلك بأن خوفها قد يجعلها مشتتة الذهن طيلة الوقت، مضيفةً أنها لم تكن تخشي من لحظة وداعهم، فالحافظ الله جلّ وعلا، لكن خوفها من أن تتركهم لأيام وقد لا تستطيع الخادمة أن تحسن التصرف في حال حدث مكروه لهم، لافتةً إلى أنها أدت فريضتها قبل عامين، وكانت تطمئن على حال أبنائها وأبنائهم عبر برامج التواصل الاجتماعي. د.عبدالرحمن الصبيحي فقدت والداي وأشارت "أم عدنان" إلى أنه لم تستطع الحج رغم قدرتها المادية والصحية، حيث فضلت أن توكل أحد أقاربها عنها؛ لأنها فقدت والدها ووالدتها في حادث سير وهي طفلة صغيرة أثناء عودتهما من مكةالمكرمة بعد أداء فريضة الحج وكانا متجهين إلى المدينةالمنورة، مضيفةً أن أفراد الأسرة أخفوا عنها وفاتهما، وكان الجميع أيام العزاء يقبلونها ويواسونها دون أن تفهم ما يدور حولها، إلى أن ظلت تلح في السؤال عنهما ليخبروها بالحادث الذي يتمها وهي بعمر السبعة أعوام، مؤكدةً على أنه ارتبط هذا الحادث المؤلم بذاكرتها وبفريضة الحج التي أشعرتها وقتها بأن السفر عبر السيارة كان سبباً لهلاك عائلتها، مبينةً أنها تدعو الله ليل نهار أن يزيل من داخلها الخوف حتى تتجاوز محنتها، خصوصاً أنها لم تجد من يأخذ بيديها وقتها، ذاكرةً أنها لا تستطيع أن تترك ابنها الوحيد "عدنان". أسلوب المغادرة يؤثر سلباً على الطفل عدم خلط وتحدث "د.محمد المطوع" -وكيل كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- قائلاً: إن الوداع لحظة مؤلمة، فنحن نودع زملاءنا بعد تقاعدهم ونذرف الدموع على فراقهم، وبعضهم قد يرفض حضور مناسبات التوديع، التي أحياناً يكون فيها تهويل للموقف، وتتحول المناسبة السعيدة إلى مأساة بمعنى الكلمة، مضيفاً أنه من المهم عدم الخلط بين مناسبات توديع من يغادرونا في العمل ومن يسافرون لعدة أسباب، حتى لا تتحول المناسبة الجميلة لوداعهم إلى موقف سلبي يشعر الإنسان بالرحيل، وهذا مما يدفع البعض إلى الاعتذار عن الحضور؛ لأنه لا يتحمل هذه اللحظة الحزينة، مبيناً أن الطفل يعيش بشكل يومي لحظات توديع في حياته حتى أثناء ذهابه للمدرسة، وهذا أمر عادي، لكن المشكلة عندما لا تعود الأم من سفرها مهما كانت نية السفر، حيث يعتبر ذلك من الصدمات القاسية في حياة الطفل وأثرها يبقى لفترة زمنية طويلة، بل ويظل يتذكر موقف الوداع ويربط كل الأشياء التي تؤلمه بتلك اللحظة.، فالوداع سيظل خيط الاتصال بينه وبين والدته. جرعة أمل وأكد "د.المطوع" على أن لحظة الوداع تؤثر على مستقبل الطفل، لكن إذا كان صغيراً ولا يعي الحياة فالأثر يزول مع الوقت، ولكن اذا كان واعياً ستظل الصورة الذهنية للوداع نفسه تربطه بأمه وبفقدانها، وسيصبح المكان وكل الأشياء المرتبطة بلحظة الوداع أمامه، مبيناً أنه إذا وجد الدعم من المحيطين به وحاولوا معالجة هذا الأثر السلبي وإفهامه أن الموت هو طريقنا ومصيرنا جميعاً، وأن الله سيجمعنا بمن نحب في جنته، فإن الموقف المحزن لن يترك آثاره النفسية عليه، مُشدداً على ضرورة أن تكون لحظة الوداع بين الأم وأطفالها فيها الكثير من جرعة الأمل والتوضيح لهم أنها ذاهبة لأداء فريضة وعبادة وببساطة، بحيث يفهمها الطفل، كأن تقول له: "أنا ذاهبة لأصلي في مكة"، ثم ترسم في مخيلته صورة المكان، أو أن تستعين بصور للحرم من الإنترنت، وأنه عندما يكبر ستأخذه معها للصلاة في مكة، وتحكي له عن الجنة ونعيمها، وهذا له أثر في نفسيته، ناصحاً بألاّ تلمح له عن أنها قد لا تعود، أو أن تبكي أمامه، فهذه الإشارات تجعله يشعر بالخوف طيلة أيام غيابها، وعليها ألاّ تجعل -قدر الإمكان- وقت الوداع طويلاً. بعض الأمهات لا يستطعن ترك أبنائهن في الحج طريقة ترفيهية واقترح "د.عبدالرحمن الصبيحي" -أخصائي نفسي- بأن يكون وداع الطفل بطريقة ترفيهية من خلال حفلة بسيطة، وفي هذه الأثناء يُبلّغ الطفل بكلمات بسيطة يستطيع استيعابها بأن الأم ذاهبة الى مكان ستتأخر فيه لوقت قصير، وأن هذا الأمر واجب تنفيذه؛ لأنه أمر إلهي واستجابة هذه الأمور مهمة، وعدم التركيز خلال لحظة الوداع على أنها قد لا تعود لا سمح الله فتصبح هذه الكلمة مؤلمة جداً، فليس من الحكمة احتمال وقوع الأمور السلبية في حياتنا؛ لأنه سيعيش طيلة أيام غيابها في قلق، حتى وإن عادت سالمة إليه، فتأثير هذا الشعور سيشعره بعدم الأمان في كل لحظة ستغيب فيه عنه سواء لزيارة طبيب أو خلافه، مضيفاً أن الشعوب العربية بشكل عام عاطفية وتتأثر بالفقد، وجميعنا نساهم في تأجيج هذه المشاعر في لحظات الوداع بين بعضنا، مُشدداً على ضرورة أن يكون الوداع بابتسامة، خاصةً في ظل تنوع وسائل الاتصال الحديثة والأجهزة الذكية، حيث لم يعد الوداع كما كان سابقاً، مؤكداً على أنه بمجرد "ضغطة زر" على برنامج "سكايب" أو غيره تختصر المسافات الطويلة، فنسمعهم ونعيش الوقت الطويل معهم، نتشاور ونضحك، ونشعر بأن ما يفصلنا عنهم مجرد جدار الغرفة المجاورة لنا، ولم يعد هناك مسمي وداع. وأضاف أن الإنسان بطبعه عندما يفتقد من يحب ولا يراه يتأثر لفراقه، لكن يجب أن يتغير هذا السلوك في ضوء التطور الحديث، مع توديع المسافرين بطريقة خالية من الحزن والألم.