ولشواهد دلته على ذلك، وإن كان قد عرف خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرجاها، وفي إسنادها من تكلم فيه من جهة حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعاً. وههنا دقيقة ينبغي التفطن لها، وهي أن الحديث الذي روياه أو أحدهما واحتجا برجاله أقوى من حديث احتجا برجاله، ولم يخرجاه، فتصحيح الحديث أقوى من تصحيح السند. فإن قيل: فلم لا أخرجه البخاري؟ قيل: هذا لا يلزم، لأنه رحمه الله لم يستوعب الصحيح، وليس سعد بن سعيد من شرطه، على أنه قد استشهد به في صحيحه، فقال في كتاب الزكاة: وقال سليمان عن سعد بن سعيد عن عمارة بن غزية عن ابن عباس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أحد جبل يحبنا ونحبه». الاعتراض الثاني: أن هذا الحديث قد اختلف في سنده على عمر بن ثابت. فرواه أبو عبدالرحمن المقري عن سعيد عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب موقوفاً ذكره النسائي، وأخرجه أيضاً من حديث عثمان بن عمرو بن ساج عن عمر بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب، وهذا يدل على أن طريق سعد بن سعيد غير متصلة، حيث لم يذكر محمد بن المنكدر بين عمر بن ثابت وأبي أيوب، وقد رواه اسماعيل بن عياش عن محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب. فدل على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب أصلاً. رواه أبو داود الطيالسي عن ورقاء بن عمر اليشكري عن سعد بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب. وهذا الاختلاف يوجب ضعفه. والجواب: أن هذا لا يسقط الاحتجاج به، أما برواية عبد ربه بن سعيد له موقوفاً، فإما أن يقال الرفع زيادة. وإما أن يقال: هو مخالفة، وعلى التقديرين: فالترجيح حاصل بالكثرة والحفظ، فإن صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد - وهما إمامان جليلان - وسعد بن سعيد - وهو ثقة محتج به في الصحيح - اتفقوا على رفعه، وهم أكثر وأحفظ، على أن المقبري لم يتفق عنه على وقفه، بل قد رواه أحمد بن يوسف السلمي شيخ مسلم، وعقيب بن يحيى جميعاً عنه عن شعبه عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعاً وذكره ابن منده، وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة، ومقو لحيث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد. وأيضاً فقد رواه محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن ورقاء عن سعد بن سعيد مرفوعاً، كرواية الجماعة، وغندر أصح الناس حديثاً في شعبة، حتى قال علي بن المديني: هو أحب إلي من عبدالرحمن بن مهدي في شعبة، فمن يكون مقدماً على عبدالرحمن بن مهدي في حديث شعبة يكون له أولى من المقبري. وأما حديث عثمان بن عمرو بن ساج: فقال أبو القاسم بن عساكر في أطرافه، عقب روايتها: هذا خطأ، والصواب: عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب، من غير ذكر محمد المنكدر، وقد قال أبو حاتم الرازي: عثمان والوليد ابنا عمرو بن ساج، يكتب حديثهما ولا يحتج به، وقال النسائي: رأيت عنده كتباً في غير هذا. فإذا أحاديث شبه أحاديث محمد بن أبي حميد، فلا أدري: أكان سماعه من محمد أم من أولئك المشيخة؟ فإن كانت تلك الأحاديث أحاديثه عن أولئك المشيخة ولم يكن سمعه من محمد فهو ضعيف. وأما رواية اسماعيل بن عياش له عن محمد بن حميد: فاسماعيل بن عياش ضعيف في الحجازيين ومحمد بن حميد متفق على ضعفه ونكارة حديثه، وكأن ابن ساج سرق هذه الرواية من محمد بن حميد، والغلط في زيادة محمد بن المنكدر منه. والله أعلم. وأما رواية أبي داود الطيالسي: فمن رواية عبدالله بن عمران الأصبهاني عنه، قال ابن حبان: كان يغرب، وخالفه يونس بن حبيب، فرواه عن أبي داود عن ورقاء بن عمر عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت، موافقة لرواية الجماعة. فإن قيل: فالحديث - بعد هذا كله - مداره على عمر بن ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتج به؟. قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث «الأعمال بالنيات» تفرد علقمة بن وقاص به، وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه، وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس. وأيضاً فليس هذا الأصل مما تفرد به عمر بن ثابت، لرواية ثوبان وغيره له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ترجم ابن حبان على ذلك في صحيحه، فقال - بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب، وذكر حديث ثوبان من رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن يحيى بن الحرث الذماري عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان، رواه ابن ماجة. ولكن لهذا الحديث علة، وهي أن أسد بن موسى رواه عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن يحيى بن الحرث به. والوليد مدلس، وقد عنعنه، فلعله وصله مرة، ودله أخرى، وقد رواه النسائي من حديث يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب بن سابور، وكلاهما عن يحيى بن الحرث الذماري به. رواه أحمد في المسند عن أبي اليمان عن اسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحرث به، وقد صحح الحديث أبو حاتم الرازي، واسماعيل إذا روى عن الشاميين فحديثه صحيح، وهذا إسناد شامي. الاعتراض الثالث: أن هذا الحديث غير معمول به عند أهل العلم. قال مالك في الموطأ: ولم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس من أهل الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عن أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك، تم كلامه، قال الحافظ أبو محمد المنذري: والذي خشى منه مالك قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والنواقيس وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد. ويؤيد هذا ما رواه أبو داود في قصة الرجل الذي دخل المسجد وصلى الفرض، ثم قام بتنفل، فقام إليه عمر، وقال له «إجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فهذا هلك من كان قبلنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصاب الله بك يا ابن الخطاب». قالوا: فمقصود عمر: أن اتصال الفرض بالنفل إذا حصل معه التمادي وطال الزمن ظن الجهال أن ذلك من الفرض، كما قد شاع عند كثير من العامة: أن صبح يوم الجمعة خمس سجدات ولا بد، فإذا تركوا قراءة (الم تنزيل) قرأوا غيرها من سور السجدات، بل نهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان حماية لرمضان أن يخلط به صوم غيره، فكيف بما يضاف إليه بعده؟ فيقال: الكلام هنا في مقامين: أحدهما: في صوم ستة من شوال، من حيث الجملة، والثاني: في وصلها به. أما الأول فقولكم: إن الحديث غير معمول به: فباطل، وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم. وقال ابن عبدالبر: لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب، على أنه حديث مدني، والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه مالك قد بينه وأوضحه: خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يسبق ذلك إلى العامة، وكان متحفظاً كثير الاحتياط للدين، وأما صوم الستة الأيام على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان، فإن مالكاً لا يكره ذلك إن شاء الله. لأن الصوم جنة، وفضله معلوم: يدع طعامه وشرابه لله، وهو عمل بر وخير، وقد قال تعالى: (22:57 وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) ومالك لا يجعل شيئاً من هذا، ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك، وخشي أن يعد من فرائض الصيام، مضافاً إلى رمضان، وما أظن مالكاً جهل الحديث، لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت، وأظن عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عمر بن ثابت. وقيل: إنه روى عنه، ولولا علمه به ما أنكر بعض شيوخه، إذا لم يثق بحفظه لبعض ما يرويه، وقد يمكن أن يكون جهل الحديث، ولو علمه لقال به، هذا كلامه. وقال القاضي عياض: أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء، وروى عن مالك وغيره كراهية ذلك، ولعل مالكاً إنما كره صومها على ما قال في الموطأ: أن يعتقد من يصومه أنه فرض، وأما على الوجه الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم فجائز. وأما المقام الثاني: فلا ريب أنه متى كان في وصلها برمضان مثل هذا المحذور كره أشد الكراهة، وحمى الفرض أن يخلط به ما ليس منه، ويصومها في وسط الشهر أو آخره، وأما ذكره من المحذور فدفعه والتحرز منه واجب، وهو من قواعد الإسلام. فأن قيل: الزيادة في الصوم إنما يخاف منها لو يفصل بين ذلك بفطر يوم العيد، فأما وقد تخلل فطر يوم العيد فلا محذور. وهذا جواب أبي حامد الاسفرايني وغيره. قيل: فطر العيد لا يؤثر عند الجهلة في دفع هذه المفسدة. لأنه لما كان واجباً فقد يرونه كفطر يوم الحيض، لا يقطع التتابع واتصال الصوم، فبكل حال ينبغي تجنب صومها عقب رمضان إذا لم تؤمن معه هذا المفسدة، والله أعلم. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: 1 - «عن أبي أيون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر» رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ورواه أحمد من حديث جابر. 2 - وعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إنه قال من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها « رواه ابن ماجة». حديث ثوبان أخرجه أيضاً النسائي وأحمد والدارمي والبزار. وفي الباب عن جابر عند أحمد وعبد بن حميد والبزار وهو الذي أشار إليه المصنف وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني. وعن ابن عباس عند الطبراني في الأوسط. وعن البراء بن عازب عند الدارقطني (وقد استدل) بأحاديث الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال وإليه ذهب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم وبه قالت العترة وقال أبو حنيفة ومالك يكره صومها واستدلا على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل لا يليق بعاقل فضلاً عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة وأيضاً يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به، واستدل مالك على الكراهة بما قال في الموطأ من أنه ما رأى أحداً من أهل العلم يصومها ولا يخفي أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلاً ترد به السنة. أه وبعد فأتوجه إلى إخواني طلبة العلم وأبدأ بنفسي قبل ذلك بتقوى الله تعالى ورعاية ما عليه العامة في دينهم وفي أحكام دينهم وفي أخلاقهم وأعرافهم وتقاليدهم مما أصولها قواعد ديننا ومبادئه ولا يكون منا خروج عن ذلك حيث ستصب آثار ذلك على زعزعة العامة في إيمانهم وعقائدهم ومسالكهم في الأقوال والأعمال فهم والله في ذمتنا وتحت مسؤوليتنا أمام رب العالمين فما كان عليه أسلافنا هو ما كان عليه أسلافهم من أهل العلم والتقوى والصلاح والثبات على القول الثابت في الحياة وفي مقتضيات الإيمان. يجب علينا معشر طلبة العلم أن نترك العامة على ما هم عليه مما هو معتقد أكثر أهل العلم. ولا نثير عليهم أصولا قد تلقوها بالقول والعمل والاعتقاد عن أسلاف لهم اعتمدوا في التمسك بها على كتاب الله وسنة رسوله وأصول الدين وقواعده ومقاصده قال تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). لقد حضرت مجموعة مجالس مع إخواني وزملائي طلبة العلم وكان الحديث في غالبه يدور حول هذه الإثارات السيئة وآثارها في زعزعة التمسك والالتزام فكان الجميع متألمين من ذلك ويأملون أن يكون من مرجعيتهم قيادة التصدي لهذا الانفلات وبذل الجهود في رعاية ما عليه العامة فما مصدره مصادر التشريع الإسلامي. وأذكر مثالاً للتبرم من ذلك أن حد الإخوة قال في أحد المجالس: ما إخواني تذكرون إننا تلقينا من علمائنا ومن متون كتب فقهنا أن نواقض الوضوء ثمانية ولم يبق اليوم منها إلا نصفها أو أقل من ذلك. وقالوا بأن صلاة الجماعة ليست واجبة وصيام الست من شوال بدعة ولا يجوز الزيادة في التراويح عن ثمان ركعات أو عشر والترخص برخص السفر يجوز لو لمدة سنين. وأن للإنسان أن يتمذهب بما يراه فلا إكراه في الدين. وأن للمرأة المسلمة أن تتزوج كتابياً - يهودياً أو نصرانياً - وأن لمن له وديعة ثابتة أو حساب جار لدى البنك أن يأخذ من البنك فوائد على ذلك. وهكذا تسير هذه الفتاوى بالعامة وإلى فك عرى دينهم وتشكيكهم فيما هم عليه من السلوك والاتجاه. أسأل الله تعالى أن يمن على إخواننا ذوي التطلعات المشبوهة بالتقوى والشعور بالمسؤولية أمام الله فيما شرفهم به من العلم والفقه وعلو المقام والله المستعان.