* نواصل هذا البحث القيم في الحلقة الثانية للمحدث أحمد شاكر بالقول: فالذين ذهبوا من العلماء إلى أن اختلاف المطالع معتبر، وأن لكل بلد رؤيتهم : فإنما كانوا منطقيين جدا مع الحكم بالرؤية، لأن هذا هو المستطاع إذ ذاك،ولأن اعتبار اختلاف المطالع ليس (ص19) مرجعه إلى اعتبارها في أوائل الشهور، حتى يكون لكل بلد شهرهم، كما لكل بلد رؤيتهم، وإنما هو فيما نفهم باعتبار تعلق خطاب التكليف بالمكلفين،فمن وصل إليه العلم بما كلف به، بالطريق الذي جعله الشارع سببا للعلم، وهو الرؤية في أمة أمية تعلق به الخطاب وصار مطلوباً منه العمل الموقت بوقته. والذين أهدروا اختلاف المطالع، وحكموا بسريان الرؤية في بلد على جميع أقطار الأرض كانوا ناظرين إلى الحقيقة المجردة، أن أول الشهر يجب أن يكون في هذه الكرة الأرضية يوماً واحداً، وهو الحق الذي لا مرية فيه. ثم إن هذا التفصيل لا يعقل مع الأخذ بالحساب، كما اخترنا ورجحنا، لأن اليوم الأول من كل شهر هلالي يوم واحد في جميع أقطار الأرض، لا يختلف باختلاف المناطق، ولا ببعد . ولكن الأمر الدقيق عندي: هل يجب اعتبار أول الشهر بأية نقطة في الأرض غاب فيها القمر بعد الشمس؟ أو يجب (ص20) أن يكون لذلك نقطة معينة يرجع إليها العالم كله في هذا النظر والاعتبار؟ الذي أراه وأرجحه أنه يجب الرجوع إلى نقطة واحدة معينة في ذلك ، أشير إليها في أصلي الشريعة: الكتاب والسنة، وهي مكة . انظر إلى قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج) (17) فقد أرشد الله الناس إلى فائدة اختلاف منازل القمر، بالنسبة لهم، وتغير الأهلة في الزيادة والنقصان : بأنها للتوقيت لهم في كل شؤونهم ،ولتوقيت أيام الحج. فالذي أراه أن تخصيص الحج بالذكر في هذا المقام بعد العموم، إنما هو إشارة دقيقة إلى اعتبار أصل التوقيت الزماني متصلاً بمكان واحد، مكان الحج، وهو مكة. وأما السنة: فقد روى الترمذي في سنة(18) من طريق إسحق (ص21)بن جعفر بن الحسين وهو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن عن عبد الله بن جعفر المخرمي الزهري عن عثمان بن محمد الأخنسي عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" قال الترمذي : "هذا حديث غريب حسن" ونقول: بل هو حديث صحيح، فقد صحح الترمذي حديثاً من رواية المعلي بن منصور عن عبد الله بن جعفر ، بهذا الإسناد(19). ثم إن إسحق بن جعفر لم ينفرد به، فقد رواه أيضاً أبو سعيد مولى بني هاشم، ومحمد بن عمر الواقدي، كلاهما عن عبد الله بن جعفر المخرمي بهذا الإسناد(20). ثم إن عبد الله بن جعفر المخرمي لم ينفرد به أيضاً فقد رواه الواقدي عن داود بن خالد وثابت بن قيس ومحمد بن مسلم ، ثلاثتهم عن (ص22)المقبري عن أبي هريرة(21). ولذلك رجح القاضي القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي أنه حديث صحيح. ورواه أبو داود في سننه(22) من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة مرفوعاً: فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف". وكذلك رواه الدارقطني من هذا الطريق روح بن القاسم عن ابن المنكدر، ورواه البيهقي في السنن الكبرى(23) من طريق عبد الوارث وروح بن القاسم عن ابن المنكدر، ورواه أيضاً من طريق حماد بن زيد كرواية أبي داود(24). ورواه الدارقطني والبيهق من طريق إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة موقوفاً(25) قال: "إنما الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى (ص23) تروه ، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر". ورواه ابن ماجه في سننه(26) من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون". فهذه أسانيد كلها صحاح، يشد بعضها بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً ، وهي ترد على الترمذي استغرابه للحديث ، فقد ورد من طرق صحيحة متعددة. ولكن ما معنى هذا الحديث؟ أما المتقدمون من العلماء فقد ذهبوا في تفسيره إلى معنى قد يكون هو المعنى الظاهر من اللفظ، فقال الترمذي في السنن: "وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس (27)وقال الخطابي(28)(ص24)"معنى الحديث : أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العهد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين : فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عتب". وقال تقي الدين السبكي في فتاويه(29) : "المراد منه: إذا اتفقوا على ذلك، فالمسلمون لا يتفقون على ضلالة، والإجماع حجة". وقد يكون لتفسيرهم هذا تأييد بما رواه الترمذي من حديث معمر عن محمد المنكدر عن عائشة (30)عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس" . قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه". ولكنا نعرف أن كثيراً من الرواة يختصرون الأحاديث، ويروون بعضها بالمعنى، ولذلك كان حفاظ الحديث ونقاده يجمعون الروايات المتعددة، وكثيراً ما يكون الحديث المفسر المطول مبيناً (ص25)لمعنى الحديث المختصر، فنجد حديث عائشة هذا رواه البيهقي(31) من طريق سفيان الثوري عن محمد المنكدر عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفة يوم يعرف الإمام(32) والأضحى يوم يضحي الإمام ، والفطر يوم يفطر الإمام" وإسناده صحيح . فهذه الرواية المفسرة تعين أن المراد ب"الناس" الإمام، وهو الذي يكون معه عُظم الناس. ثم إنا نجد في مجموع الروايات التي نقلنا، من حديث أبي هريرة وعائشة : شيئاً مشتركا بين كثير من ألفاظها، يحتاج إلى نظر وتأميل، هو ذكر "عرفة": يوما أو مكاناً، وذكر مكة ومنى والمزدلفة: "كل عرفة موقف" "عرفة يوم يعرف الإمام" وفي رواية مرسلة من طريق الشافي عند البيهقي: "وعرفة يوم تعرفون" "وكل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف". فذكر أماكن الحج وزمانه في كثير من روايات الحديث، بل في اكثرها، يرجح عندي أن هذا الحديث إنما كان في حجة (ص26)الوداع، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس شعائر الحج، ويخطبهم في عرفة وفي منى وفي غيرهما فلم يحفظ عنه أنه علم الناس شعائر الحج في غير حجة الوداع ، ويؤيد ذلك أن جابر بن عبد الله وصف حجة الوداع في حديث طويل معروف عند المحدثين، وفيه ما يشبه بعض حديث أبي هريرة، فيذكر جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر الهدي وأكل منه ثم قال: "قد نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة فقال : وقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة فقال: قد وقفت ههنا، والمزدلفة كلها موقف(33). فيكون حديث أبي هريرة المرفوع "فطركم يوم تفطرون" الخ خطاباً لأهل الحج في مكان الحج، لما ذكر معه من شأن عرفة ومكة والمزدلفة، ويكون أيضاً خطاباً لاهل الحج في مكان الحج، وكذلك سائر الروايات، (ص27) من حديث عائشة وغيرها، إنما تحمل على هذا المعنى: أنها كلها روايات عن حجة الوداع، وأن من روى بلفظ "يوم يفطر الناس" أو "يوم يفطر الإمام" إنما روى بالمعنى، وأن أصل الحديث خطاب لمن كان في أماكن الحج. وبذلك نفهم من معنى هذه الأحاديث أن الصوم يوم يصوم أهل مكة وما حولها ، وأن الفطر يوم يفطرون، وأن الأضحى يوم يضحون، وأن عرفة يوم يعرفون. فهذه الأماكن هي المعتمدة في إثبات الأهلة، وهي التي يكون على المسلمين في أقطار الأرض أن يتبعوا مطالع الأهلة فيها، ويكون في هذا إشارة دقيقة إلى وجه الحكمة والمعنى في تخصيص ذكر الحج بعد عموم المواقيت، في قوله تعالى (هي مواقيت للناس والحج). فلو ذهبنا إلى ما رأيته وفهمته، توحدت كلمة المسلمين في إثبات الشهور القمرية، وكانت مكة، وهي منبع الإسلام ومهبط الوحي، وهي ماتقي المسلمين في كل عام كأنهم على ميعاد، يتعارفون فيها ويتوادون، وفيها بيت الله الذي نحوه يتوجهون في صلاتهم، رمزا لوحدتهم، كانت مكة هذه مركز الدائرة لهم في تحديد مواقيتهم. (وبعد): فهذا بحث لم أكتبه إلا بعد روية وفكر، وتدبر ونظر، على طريقة سلفنا الصالح من العلماء، في الأخذ بالكتاب والسنة، وفيه وجه الصواب، بعون الله وتوفيقه، أعرضه لأنظار العلماء والباحثين، متقبلاً النقد أو التأييد بالشكر والثناء، لتتمحص الحقيقة ويكشف عن وجه الصواب. ولا أطلب إلا أن يكون أساس البحث الكتاب والسنة، والاستنباط منهما، والفقه فيهما. أما إلقاء القول على عواهنه بأقوال جوفاء مبنية على الرأي والهوى، كما يفعل من يسمون أنفسهم "المجددين" فإنه يخرج بالبحث عن حده العلمي الدقيق، ولا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً. وأما الاستمساك باقوال الفقهاء التي يسميها بعضهم"نصوصاً" ويزعمونها حجة علينا وعلى الناس فإنها أو أكثرها في متناول أيدينا وتحت أنظارنا، وفلا نجادل من يحتج بها.(ص29) نعم، لا أستطيع أن أمنع من شاء أن يقول ماشاء، ولكني أستطيع أن أمنع قلمي أن يخوض مع الخائضين. وأسأل الله العصمة والتوفيق ، كتب أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي عن كوبري القبة يوم الاثنين: 24ذي الحجة سنة 131307فبراير سنة 1939 الهوامش (1) انظر المجموع للنووي (ج 6ص 279 280) (2) انظر صحيح البخاري (ج 3ص 27 28من الطبعة السلطانية) ونيل الأوطار للشوكاني (ج 4ص 258 267) ونصب الراية) ج 2ص 437 440) وطرح الثريب (ج 4ص 111 114). (3) المجموع (ج 6ص 273 274). (4) انظر أيضاً معالم السنن للخطابي (ج 2ص 98) وتفسير القرطبي (ج 2ص 274 276) (5) انظر كتاب (علم الفلك وتاريخه عند العرب للأستاذ نلينو) طبعة رومة (سنة 1911) (6) (ج 1ص 219 220). (7) كان من أئمة المالكية والشافعية، وهو عمدة في المذهبين، ولد سنة 625ومات بالقاهرة سنة 702وله تراجم جيدة وافية ، في الطالع السعيد (ص 317) وتذكرة الحفاظ (ج 4ص 262) وفوات الوفيات (ج 2ص 305) وطبقات الشافعية (ج 6ص 2) (8) صحيح البخاري (ج 3ص 27 28من الطبعة السلطانية) وصحيح مسلم (ج 1ص 299طبعة بولاق) وسنن أبي داود (ج 2ص 266 267من شرح عون المعبود) وسنن النسائي(ج 1ص 302 303). (9) الموطأ (ج 1ص 269). (10) فتح الباري (ج 4ص 108 109) (11) لاندري من ذايريد الحافظ بالروافض ؟ إن كان يريد الشيعة الإمامية، فالذي اعرفه من مذهبهم أنه لا يجوز الأخذ بالحساب عندهم . وإن كان يريد ناساً آخرين فلا تدري من هم!! (12) "سريج" بالسين المهملة المضمومة وآخره جيم، ويكتب خطأ في كثير من الكتب المطبوعة"شريح" بالشين والحاء، وهو تصحيف. وأبو العباس هذا توفي سنة 306وهو من تلاميذ أبي داود صاحب السنن، وقال في شأنه أبو إسحق الشيرازي في طبقات الفقهاء (ص 89): "كان من عظماء الشافعيين وأئمة المسلمين، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي، حتى على المزني". وله تراجم جيدة في تاريخ بغداد للخطيب (ج 4ص 278 290) وابن خلكان (ج 1ص 21) وطبقات الشافعية لابن السبكي (ج 2ص 67 96). (13) انظر شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي (ج 3ص 207 208) وطرح التثريب (ج 4ص 111 113) وفتح الباري (ج 4ص 104). (14) (ج 2ص 203 204من طبعة تونس) و(ورقة 132من نسختنا المخطوطة). (15) نيل الأوطار (ج 4ص 267 269). (16) انظر تفسير القرطبي (ج 2ص 275) وفتح الباري (ج 4ص 105) (17) سورة البقرة (189) (18) سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي (ج 2ص 37) وبشرح ابن العربي (ج 3ص 216) (19) تحفة الأحوذي (ج 1ص 279) وشرح ابن العربي (ج 2ص 141 142). (20) رواية أبي سعيد في السنن الكبرى للبيهقي (ج 4ص 252) ورواية الواقدي في سنن الدار قطني (ص 231) والواقدي عندنا ثقة، خلافاً لمن ضعفه (21) هذه الرواية أيضاً في سنن الدارقطني. (22) سنن أبي داود شرح عون المعبود (ج 2ص 269) (23) (ج 4ص 251 252) (24) السنن الكبرى (ج 5ص 175) (25) يعني من كلام أبي هريرة . وانظر السنن الكبرى (ج 4ص 251 252) (26) سنن ابن ماجه (ج 1ص 262). (27) "عظم الناس" بضم العين أو فتحها مع سكون الظاء، أي معظمهم. (28) معالم السنن (ج 2ص 95 96) (29) (ج 1ص 225) (30) تحفة الأحوذي (ج 2ص 71) وشرح ابن العربي (ج 4ص 14) وروى البيهقي معناه من كلام عائشة باسناد آخر (ج 4ص 353). (31) السنن الكبر (ج 5ص 175). (32) التعريف : الوقوف بعرفات، عرف القوم : وقفوا بعرفة. (33) انظر مسند الإمام أحمد (ج 3ص 320 321) وصحيح مسلم (ج 1ص 346 348) وعون ا لمعبود (ج 2ص 122 131) والبداية والنهاية لابن كثير (ج 5ص 147و 149).